مراجعات كتب

منهجية مختلفة للمادة المعجمية/ وجيه فانوس

 

 

أصدر الدكتور روحي البعلبكي قاموسه الأخير “المورد العربي، قاموس اللغة العربية المعاصرة مع كل المترادفات” (دار العلم للملايين)، فجاء تحفة لغوية فريدة تعزز مكانة اللغة العربية وتعيد إليها الروح كلغة حياة.

“المورد العربي” قاموس عملي ومرجع موثوق لاستعمالات اللغة العربية المعاصرة في شتى مناحي حياتنا الراهنة، يحفل بالجديد والمستحدث ويعكس أبرز التطورات العلمية والتقنية والثقافية والحضارية بسلاسة ووضوح، وبدقة ورصانة.

وللمرة الأولى في عالم المعاجم العربية، يقدم “المورد العربي” قائمة بأهم المترادفات والكلمات ذات المعاني المشتركة أو المتقاربة بعد كل تعريف وشرح للمادة المعجمية، كما يزخر بالإحالات الى كلمات ذات استعمالات أعمّ أو تفاصيل أوفى أو مترادفات أغزر، فضلاً عن تضمنه لأساليب استخدام الكلام عبر إيراده لنماذج لغوية مفيدة تُظهِر أوجه التعبير البلاغي والأدبي.

وما احتواؤه على التعابير الاصطلاحية الضرورية والاستعمالات المجازية الشائعة إلا الدليل على اعتماده صناعة معجمية راقية تتجاوب مع روح العصر ومستجدات الحداثة مع المحافظة على أصالة اللغة العربية، وهي ميزة باهرة يعبر عنها المؤلف حين يَعِدُ القارئ بأن يقدم له لغته العربية بحلّتها العصرية المتوثبة من خلال استعمالاتها المتجددة الى جانب ثوابتها التراثية المتناقلة عبر الأجيال.

“المورد”، في الأساس، هو الاسم الذي أطلقه المعجمي الكبير الراحل الأستاذ منير البعلبكي (والد الدكتور روحي) على قاموسه الانكليزي – العربي الشهير الصادر عن “دار العلم للملايين” في طبعته الأولى عام 1967. ثم أطلق الدكتور روحي البعلبكي الاسم نفسه على قاموسه المعروف “المورد عربي-انكليزي”، وكذلك من بعده على قاموسه الثالث “المورد الثلاثي عربي – انكليزي – فرنسي”.

يُعتبر “المورد”، في نظر المُطّلعين، أكثر القواميس استخدامًا من قِبَل المترجمين والدارسين في الوطن العربي، ومن أعظمها صدقية وموثوقية على الصعيد العالمي. ولقد صار، والحال كذلك، من الطبيعي الاعتراف بأن “المورد”، بمختلف اختصاصاته، بدءًا من ريادة منير البعلبكي (أبو روحي) وصولاً الى ما قام به روحي البعلبكي من تنوع، هو المعجم الأكثر رواجًا لدى مستخدمي اللغة العربية، عربًا كانوا أو من غير العرب؛ حتى أضحى من اليسير على المؤرخ اللغوي والمثقف الطليعي أن ينظر الى “المورد” على أنه مؤسسة لغوية نهضوية قائمة بذاتها، بل ومؤسسة تحمل مسؤولية الثقافة العربية المعاصرة، ليس على المستوى العربي فحسب، بل على مستوى العالم برمّته.

وواقع الحال أنه ما مِنْ أحد يحتاج الى استشارة في مجال اللغة، باحثًا أكاديميًا كان، أو كاتبًا لنص، أو صاحب اختصاص في أيّ من المعارف العلمية أو دارسًا لها، إلا ويجد أن أبواب “المورد” تسعى أبدًا الى الاستجابة لمتطلبات استشارته في مجالات التعبير كافة.

وماذا بعد كل هذا الشمول والعمق؟

يأتي الجواب جليًا عبر “المورد العربي” الصادر مؤخرًا، والذي يتوّج جهودًا متواصلة لواضعه الدكتور روحي البعلبكي استغرقت ثلاثة عشر عامًا تأليفًا وتنقيحًا وضبطًا.

إن ما ابتكره “المورد العربي” من منهجية جديدة للمادة المعجمية، وما عكسه من تطور حتمي للغة العربية، إنما هو في الواقع تطوير للغة وإرساء لقواعدها في آن. وهذا بحد ذاته إضافة رائعة للمعجم العربي المعهود سعيًا الى حمل هموم حفظ أصالة اللفظ العربي والعمل الدؤوب على معاصرته معًا. وهكذا، يفرض “المورد العربي” نفسه في قلب ساحة تحديات وجود اللفظ العربي في هذا الزمن الذي تعاظمت فيه متغيرات النماء الفكري الانساني كما تزايدت متطلبات التعبير باللفظ العربي السليم للدلالة على المفاهيم المختلفة.

ولا بد من التأكيد على أن القارئ المعاصر يعاني صعوبات جمّة في الحصول على كثير من الألفاظ العربية التي يريدها؛ بل لعلّه يُفاجأ بأن استشارته للمعجم التقليدي قد تضعه أمام تنويعات من المعاني غير المألوفة، بل أمام ما يُعارِض ما قد تعنيه هذه الألفاظ في الزمن الراهن. هنا يبدأ مستخدِم العربية، قارئًا لها أو كاتبًا بها، الغوصَ في تشكّلات ألفاظٍ هي خضمّ متاهاتٍ عمادها صيغٌ قد تساهم في ضياعه وخروجه عن القصد الذي يسعى الى تحقيقه؛ وغالبًا ما تبتلعه، في هذا الخضمّ، أمواجُ غموضٍ مُبلبِلة تنبع من ضحالة التعريف وتطغى على تفاسير تتماهى مع موضوعات خارجة عن إيقاعات الحاضر وبعيدة عن حقيقة الدلالة الموضوعية. لذا، فقد بات لزامًا استخدام مادة معرفية عظمى في ضخامتها وتنوعاتها، من الألفاظ المعاصرة كما المتوارثة، والولوج الى أعمق ما يمكن أن يستخرج من استعمالاتها اليوم من دلالات ومفاهيم ومصطلحات.

على هذا الأساس، قام المؤلف، بصورة عملية، بمسح معرفي واسع الآفاق غائر الأعماق، ضمّ أعظم قدر ممكن من المنشورات، في جميع فروع التعبير الكلامي وموضوعاته، سعيًا الى استخراج المادة المعجمية المكوِّنة لقاموسه العتيد، الطّامح بإصرار الى المعاصرة مع عدم خيانة الأصالة.

هكذا بات “المورد العربي” منصة حضارية وركيزة أساسية للغة العربية في تطورها وتجددها لا غنى عنه للباحث وطالب العلم.

هي ذي حقيقة التحدي الذي عمد الدكتور روحي البعلبكي الى مواجهته في وضعه لقاموس “المورد العربي”. والواقع يشهد أن “المورد العربي” يؤكد حيوية مجموعة “المورد” واستمرار فاعليتها في حفظ المعجم العربي، كونه يشكل استجابة مضيئة لمقتضيات النهضة الحضارية من غير ما تهور ولامبالاة ودون تحجُّر وصنمية.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى