صفحات سوريةعمر قدور

من أطفال درعا إلى أطفال كرم الزيتون: هذا هو النظام!

عمر قدور
حدثت بعض التجاذبات بين الناشطين السوريين حول التاريخ الذي ينبغي أن يُعتمد لانطلاق الثورة السورية، فالبعض يرى أن التاريخ الفعلي هو 18 آذار يوم خرج أهالي مدينة درعا يهتفون: “الموت ولا المذلة”. بينما يرى الكثيرون أن التاريخ هو 15 آذار عندما انطلق الشباب السوري في مظاهرة من قلب العاصمة دمشق؛ من الجامع الأموي بعدّه واحداً من أهم المعالم التاريخية للمدينة، وقد كان معلوماً حينها أن الشباب الذين حاولوا الاستفادة من الرمزية الدينية للجامع هم بمعظمهم من الشباب العلماني المثقف والمتحدر من أصول طائفية مختلفة. لذا فإن واحداً من معالم التجاذب يتجلى في الاختلاف حول الدور الميداني لهذه الشريحة الشابة في انطلاق الثورة، وإن لم يكن ثمة اختلاف حول نشاطها على صفحات الانترنت وأهميته.
ما لا يختلف حوله أبناء الثورة هو الأثر الكبير لأطفال مدينة درعا، ولأهالي المدينة تالياً، في إكساب الثورة طابعها الشعبي العام. فالسردية التي تم تداولها عن الأطفال، وينكرها رجال السلطة وأبواقها، ساهمت إلى حد كبير في استنفار همم السوريين نتيجة وصولهم إلى الحد الذي لم يعد ممكناً تقبله من ذل النظام. ما حدث حينها أن مجموعة من الأولاد خطوا على حيطان مدرستهم شعارات مناهضة للنظام، تأثراً ربما بما حدث في تونس ومصر، قام الأمن باعتقال الأطفال وتعذيبهم، واقتلاع أظافرهم كما تشير الرواية التي تقول إن الأهالي ذهبوا للمطالبة بأبنائهم فقيل لهم أن يأتوا بنسائهم لأن ضابط الأمن مستعد لمعاشرتهن وجعلهن يحبلن بأولاد بدلاً من الأولاد الذين قضوا تحت التعذيب! في الواقع ليس مهماً أن تنكر السلطة الروايةَ، لا لأن السلطة عمدت إلى إنكار ما ارتكبته طوال سنة من الثورة ولكن لأن ذلك بدا قابلاً للتصديق على نطاق واسع؛ وأن يصدّق الناس استعداد السلطة للقيام بهذه الفظاعة فذلك وحده معيار كافٍ لطبيعتها من وجهة نظرهم.
على العكس؛ أتى قمع السلطة اللاحق ليؤكد على أن اقتلاع أظافر الأطفال ليس مستبعداً إطلاقاً، فمقتل الطفل حمزة الخطيب، ابن درعا أيضاً، على النحو الذي رآه العالم كله، لم يكن خارج الرمزية السابقة إذ لم يتم الاكتفاء بقتله وتشويهه، بل عمد القتلة إلى بتر عضوه التناسلي أيضاً في دلالة تتطابق مع اقتلاع الأظافر. إن كسر إرادة الناس لم يتوقف عند استهداف الأطفال كوسيلة للضغط، بل تعداه إلى استهداف أعضاء الأطفال أيضاً كفعل يُراد به إخصاؤهم باقتلاع الأظافر أو الأعضاء التناسلية، ما يصل بالأمر إلى حد الاغتصاب الرمزي المعمم.
في مجزرة حي “كرم الزيتون” في حمص سجلت الكاميرا ما لم يتح لها توثيقه عن أطفال درعا؛ عشر فتيات تعرضن للاغتصاب قبل الذبح على أيدي الشبيحة، وما يزيد على عشرين طفلاً ذُبحوا في المكان نفسه على مرأى من النسوة، أو ربما ذبحت النسوة أولاً على مرأى من الأطفال الذين بالوا في ثيابهم لهول ما رأوه. بعد سنة مما حدث لأطفال درعا يؤكد الشبيحة على أن سياقاً ممنهجاً هو الذي يحكم تعاطي النظام، وأن ما تعرض له أطفال درعا لم يكن “خطأ فردياً” أو مبالغة لضابط في الأمن؛ إنه النظام!
كالمعتاد ألصق إعلام النظام تهمة مجزرة “كرم الزيتون”، التي يناهز عدد ضحاياها مجزرة كفر قاسم الشهيرة، بالعصابات المسلحة. لكن تبني المجزرة تفضحه تلك اللامبالاة الواضحة تجاه الضحايا، إذ لم يُبدِ الإعلام الرسمي أدنى تأثر تجاه منظر الأطفال المذبوحين، ولم يُعلن عن حداد عليهم أو عن تشكيل لجنة للتحقيق في مقتلهم. باختصار إن الإنكار هو كذب مفضوح، ويُراد به أن يكون كذباً مفضوحاً لأن الأصل الذي يُراد إيصاله هو تبني المجزرة والتلويح بتكرارها. المشاهد المروعة التي بُثت هي بلا شك وصمة عار للإنسانية، لكنها ليست وصمة للقتلة؛ هم لا يرونها كذلك؛ من يذبح الأطفال على مرأى من أمهاتهم، أو يغتصب الأمهات ويذبحهن على مرأى من أطفالهن، أناس غادروا بالتأكيد آلاف السنين من عمر الإنسانية.
خلال سنة من عمر الثورة لم يتوانَ النظام عن ممارسة كافة أنواع القتل والتنكيل قبل أن يصل إلى حيز الإبادة الجماعية، بل إن أنصار النظام يُنذرون علناً بأن المعادلة هي: إما أن يبقى النظام أو لن يبقى أحد في البلد. وإذا كان النظام قد “نجح” في اجتياز السنة الأولى للثورة بمعدل عشرة آلاف قتيل فإن المعدل مرشح للتصاعد باطراد كما حصل خلال الشهرين الأخيرين، خصوصاً أن القتل لم يعد يستهدف بالضرورة نشطاء الثورة، إن لم نذهب إلى القول بأن القتل بات عشوائياً على نحو متعمد، وبأن الحرب باتت حرباً على الجميع مع التركيز الواضح على المدنيين بوصفهم مجتمع الثورة الذي ينبغي تدميره كلياً.
أن يستهل النظام السنة الأولى للثورة بأطفال درعا ويستهل السنة الثانية بأطفال كرم الزيتون؛ هذه ليست مصادفة على الأرجح، بل هي نقلة نوعية ينتقل فيها ما يُمارس في الأقبية إلى العلن، وما كان يُمارس على نطاق محدود إلى الانفلات الكلي. ليست مصادفة أيضاً أن يبدأ استخدام الطائرات في قصف البلدات والمدن في الوقت الذي يبدأ فيه استخدام السكاكين على الأرض، فعلى الرغم من الفارق النوعي بين السلاحين إلا أن السكاكين تكمل ما تعجز عنه الطائرات من ترويع وإرهاب. القتل بقصف الطائرات قد يكون أكثر رحمة وهذا لا يكفي، لا لأنه يجنّب الضحية هول الذبح ولكن أيضاً لأنه يجنّب القاتل اختبار الوحشية التي ينبغي أن يتحلى بها على أكمل وجه.
إن إدانة النظام على مجزرة كمجزرة كرم الزيتون تنبع من ثقافة غريبة عن بنيته، لذا ليس مستغرباً أيضاً أن نرى المدافعين عنه على الشاشات من دون أن يرف لهم جفن أمام الأهوال المرتكبة. ولأننا في هذا المقام لا نبتغي “أبلسة” النظام على نحو اعتباطي تجدر الإشارة إلى أن احتياطي العنف الذي أظهره على كافة المستويات لا يمكن إلا أن يشكل بنية متكاملة، فاللامبالاة المطلقة تجاه القتل والتنكيل لا تصدر إلا عن بنية ثقافية راسخة. النظام بالأحرى لم ينزلق إلى الممارسات الدموية بسبب ممانعته للسقوط، ما حدث هو أن عنف النظام تحول من حيز العنف الكامن إلى العنف المباشر، لم تكن الثورة إلا سبباً في الكشف عما هو أصيل في النظام. المفاجأة، إن كان ثمة مفاجأة، في أننا نكتشف الآن بفظاعة ما كان علينا معرفته مسبقاً. ما تجاهلناه أو تناسيناه قبل الثورة لم يعد ممكناً تجاهله أو تناسيه الآن، النظام نفسه لم يعد يسمح بذلك!
المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى