صفحات العالم

من إيران إلى الثورات العربية/ حسام عيتاني

في مثل هذه الأيام من العام 1979، كان آية الله الخميني يعد لإرساء نظام حكمه الجمهوري الإسلامي على الصورة والشكل اللذين اختارهما في غفلة من القوى المشاركة في الثورة على الشاه.

عاد الخميني من باريس في الأول من فبراير (شباط) إلى طهران بعد أسبوعين من رحيل الشاه عن البلاد. ووسط الصخب الشديد الذي رافق الثورة الإيرانية، يصعب التصديق أن الخميني كان يملك تصوراً مفصلاً لمشروع الدولة التي يريد إقامتها. الصراعات بين الأجنحة والتيارات المحيطة بالخميني كانت أمراً جدياً. كما وضعت انتفاضة الأكراد والضغوط الخارجية، إيران في ما يشبه العاصفة السياسية والأمنية.

تظهر هنا الطبيعة التدريجية التي اتخذتها الأحداث في تقدم التيار الأكثر تشدداً على الصعيدين الاجتماعي والسياسي نحو السلطة. ولم يجد فريق الخميني بأساً في اللجوء إلى عمليات الاغتيال والاعتقال والتصفية والإعدام، على نطاق واسع لتكريس سلطته وتنحية المنافسين جانباً. ويضاف إلى الآلاف من مؤيدي الشاه الذين أعدموا، آلاف آخرين أدوا أدواراً مهمة في الثورة وينتمون إلى كل ألوان الطيف السياسي الإيراني الممتد من الحزب الشيوعي ومنظمة مجاهدي خلق وصولاً إلى مؤيدي الخميني وأقرب مساعديه، مثل صادق قطب زادة وزير الخارجية، وعدد كبير من ضباط الجيش النظامي الذين انحازوا إلى جانب الثورة وكانوا يقتلون بحوادث غامضة وسقوط طائرات وانفجارات تنسب عادة إلى “المنافقين”.

هذه العملية الطويلة والمعقدة لم تنته بعد. وما زالت الانتخابات الإيرانية إلى اليوم تعكس توازنات القوى بين “الإصلاحيين” و”المحافظين” الذين يعود الصراع بينهما إلى ما قبل انتصار الثورة. تغيرت، بطبيعة الحال، الخلفيات الاجتماعية للنظام الإيراني وانتقل الثقل من الشبان والطلاب الذين آمنوا بشعاراتها إلى رجال الدين المستندين إلى تأييد قطاعات واسعة من الأرياف شديدة المحافظة. وظهرت طبقة رجال الأعمال المستفيدين من “الثورة” الذين باشروا جمع أموال طائلة أثناء الحرب العراقية الإيرانية ثم عبر الالتفاف على العقوبات الدولية، وسط نوع من تقاسم العمل مع “الحرس الثوري” الذي استولى بواسطة شركاته على الاقتصاد المربح المتمثل في الاتصالات ومشاريع البناء الكبرى والنفط، وترك عمليات الاستيراد لشركاء من المحظيين. بابك زنجاني الذي اعتقل على خلفية فضيحة الفساد في تركيا عينة جديرة بالدراسة لصعود رجال الأعمال عبر أقنية الفساد الرسمي المقنن.

وفي ظل الكلام الكثير عن الحسابات الجيو- استراتيجية وموازين القوى، يجري تجاهل التحولات الاجتماعية والاقتصادية في إيران وهي المسؤولة إلى حد بعيد عن المشهد السياسي الذي وضع إيران بين خياري الاتفاق النووي أو الحرب، على ما أعلن الرئيس الأسبق علي أكبر هاشمي رفنسجاني.

عليه، فالداخل الإيراني وتطوراته والصعوبات التي يواجهها النظام من مرشده علي خامنئي إلى رئيسه “المعتدل” حسن روحاني، هي ما أفضت إلى الاتفاق النووي في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ومن يشأ رسم الاتفاق كانتصار جديد لمحور المقاومة والممانعة فهذا رأيه، لكنه رأي لن يبدل في الوقائع شيئاً ومنها بدء السلطات الإيرانية في الثاني من نوفمبر (شباط) الحالي توزيع حصص غذائية على سبعة ملايين عائلة لتخفيف وطأة التضخم الذي بلغ وفق الأرقام الرسمية 39 % (أعلن المصرف المركزي الإيراني في 3/2 انخفاض معدل التضخم في العام الماضي إلى 38.4 %) ، وهي نسبة محبطة لأي محاولة تنمية وإصلاح.

مهما يكن من أمر، تستحق السنوات الخمس والثلاثين من عمر إيران في ظل النظام الإسلامي، بأطواره الكثيرة والمنعطفات الحادة التي مرّ بها، دراسة دقيقة من كل من يعتبر نفسه معنياً بما يجري في العالم العربي من تغييرات هيكلية عميقة. ولائحة المتوازيات بين حالة إيران وبلدان الثورات العربية طويلة تبدأ من دور الإسلام السياسي ولا تنتهي في نواحي البنى الاجتماعية وتوزيع الثروات والتفاوت الاجتماعي. والقول بعدم صحة المقارنة بين إسلام سياسي في إيران وآخر في البلدان العربية، لا يستقيم. فالإسلام السياسي هو في نهاية المطاف أيديولوجيا حكم وسلطة وليس فقه معاملات والهيات وطقوس صوفية. يضاف إلى ذلك ما أشار إليه عدد من الباحثين عن قدر من “الأخونة” مرّت به أيديولوجيا الحكم في إيران (يُراجع في هذا الصدد كتاب ولي نصر “صحوة الشيعة” الذي تحدث فيه عن الفوارق بين إسلام النظام الايراني والمذهب الشيعي التقليدي وتأثر النظام بأدبيات “الإخوان المسلمين” وطروحاتهم).

وبغض النظر عن أحكام القيمة المطلقة التي يرغب أعداء وأنصار إيران في إطلاقها عليها، بشيطنتها أو تقديسها، من الحكمة النظر إلى هذه الثورة من منظور تاريخي موضوعي، ما دامت مستمرة بالتأثير على العالم العربي عبر طرق وأبواب شتى.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى