صفحات سوريةياسين الحاج صالح

من «البعث» إلى «داعش»: عالم مشترك/ ياسين الحاج صالح

 

 

لا جديد في القول إن ضباطاً من جيش صدام واستخباراته، البعثيين بطبيعة الحال، انتهوا إلى «الجهاد» في منظمة القاعدة، وجماعة أبو مصعب الزرقاوي، وصولاً إلى «داعش»، وخلافة البغدادي. ومن المحتمل أن هذا من جهة، وتسهيل النظام وصول جهاديين إلى العراق بعد الاحتلال الأميركي من جهة ثانية، وفر شبكة من العلاقات بين المخابرات السورية وداعش على بعض المستويات، أو أتاح اختراقات أمنية في التنظيم السلفي.

لكن هذه المقالة تريد القول إن هناك علاقة قربى بنيوية بين الفكر البعثي والفكر الإسلامي الجهادي عموماً، ونموذج «داعش» الفاعل خصوضاً، لعلها تفسر جانباً من انتشار «داعش» في مواطن انتشار حزب البعث.

الطابع الإحيائي أبرز المشتركات بين البعثيين والإسلاميين. يريد الحزب الذي أسسه ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار بعث أمجاد العرب، فيما يتطلع «داعش» إلى تجسيد عزة الإسلام. فتح البلدان والسيطرة على مناطق واسعة، تمتد من الإندلس إلى الصين، عبارات تنتمي إلى قاموس مشترك بعثي داعشي، قاموس الامبراطورية وسِجلّ رموزها وخيالها.

النزعة الامبراطورية ملمح ثانٍ، وهي منبع معاداة الطرفين للكيانات الوطنية القائمة وإناء شرعيتها. لكن سند «داعش» في رفض الدول القائمة هو الأمة الإسلامية أو امبراطورية المسلمين، فيما السند البعثي مشروع امبراطورية عربية، الأمة العربية الواحدة.

على أن البعث المعني هنا هو البعث العربي لميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وليس «حزب البعث العربي الاشتراكي» الذي تولد من مزاوجة بعث عفلق والبيطار و»اشتراكية» أكرم الحوراني المنشغلة بالمسألة الفلاحية. بالطبع كان الحوراني عروبياً، وهو مؤسس حزب اسمه «الحزب العربي الاشتراكي»، لكن في عروبته عنصراً اجتماعياً يخفف من عرقيتها، فضلاً عن كونها عروبة عملية وسياسية، يشهد على ذلك انخراطه في حرب فلسطين في 1948، الأمر الذي لا يبدو أن عفلق والبيطار فكّرا فيه أصلاً. وحتى تأييده للانفصال عن مصر عام 1961 يشير إلى هذا الطابع السياسي العملي لتفكيره.

إلى العراق ذهب البعث متخففاً من المسألة الاجتماعية التي اعتنى بها الشيوعيون، متخففين من جانبهم من «المسألة القومية» التي سجلت حضوراً متصاعداً في الشيوعية السورية واللبنانية في الستينات والسبعينات، وتسببت في أقدم انشقاقاتها. بعثيو العراق أقرب إلى جلال السيد، البعثي الديري «الأرستقراطي» الذي ترك حزب البعث بسبب الحوراني واشتراكيته. البعثية العراقية ماهوية وشوفينية في عروبتها، ومعادية لـ «الشعوبية»، التي إن لم تعن إيران المعاصرة، فإنها لا تتحوّط أبداً ضد هذا التداعي المحتمل. ويتماهى في البعث العراقي العرب السنة ورثة الامبراطورية أكثر من الشيعة الذين وجد الحزب الشيوعي العراقي قاعدة متاحة في أوساطهم. وهي على عداء قوي للكرد أيضاً، ينبثق من تصورها الجوهري أو العنصري لعروبة بلداننا.

البنية العنصرية نفسها لـ «داعش» اليوم، مع إبدال كلمة عرب بإسلام، ومع عداء شديد للشيعة، وارتكاز حصري على السنّة. وبقدر ما كان «البعث» وجد قاعدته الاجتماعية في الأرياف، تجد السلفية السورية المستجدة قاعدتها في أرياف مماثلة، بخاصة أرياف الجزيرة السورية، حيث يشكل «داعش» إطاراً لتنظيم بعض عرب المنطقة في سياق الصراع مع الكرد في المنطقة على الأرض والموارد. «داعش» هو «البعث» الجديد الذي يبدو أنه يوفر إطاراً لتنظيم هؤلاء في صراع مسلح.

لكن شوفينية «داعش» ثقافية أكثر مما هي عرقية، يقوم «الكفر» أو «الردة» عن الإسلام فيها مقام الشعوبية ومعاداة العرب. في التكوين البعثي الأصلي، السابق للحكم، استعداد حربي ونظرة حربية إلى العالم، تجد اليوم تحققها في «داعش». جمع بعث عفلق بين التأملية التي وسمت المعلم وعبادة الفاعلية. هذه العبادة الأخيرة سمة للإسلاميين الجهاديين.

وبينما عجز «البعث» في سورية عن تطوير قاعدة مدينية في دمشق وحلب وحمص وحماة، لأسباب لعلها تحيل إلى هذا التكوين الحربي، يبدو أن «داعش»، والسلفية عموماً، تسجل عسراً مماثلاً. تشكيل «جيش المجاهدين» الذي واجه «داعش» في حلب في مطلع هذا العام مكون أساساً من حلبيين مدينيين، وغير قليل منهم جامعيون.

البعث في الصيغة العفلقية العراقية هو إسلام معلمن. هذا واضح جداً عند ميشيل عفلق الذي جعل من الإسلام رسالة العرب، ودعا في صيغة بليغة إلى أن يكون كل العرب محمداً اليوم بعد أن كان محمد كل العرب في يومه. هل أسلم ميشيل عفلق فعلاً قبيل موته كما زعم نظام صدام حسين؟ أياً يكن الأمر، كان عفلق في عراق صدام يتحرك في عالم من الدلالات والرموز والمخيلة إسلامي جداً وامبراطوري جداً. وفاء البعثيين من نموذج صدام للإسلام ينصرف إلى الامبراطورية وليس إلى العقيدة، إلى المجد والسيطرة وليس إلى الإيمان.

«داعش» لا يسجل فرقاً مهماً عن ذلك. يبدو المعتقد الإسلامي هنا ركيزة لمشروع حربي، مهجوس بالسيطرة والتوسع، وخياله مسكون بـ «عزة الإسلام» التي تعني السيطرة على الغير. الأساسي في المشروعين هو السلطة، وليس أية أهداف تتعداها. الشريعة عند «داعش» والسلفيين عموماً هي تكنولوجيا سياسية للسيطرة على البشر، في انفصال كبير عن أي بعد إيماني أو أخلاقي.

البعثيون و «داعش» على عداء جذري لحرية الأفراد ومبادرات المجموعات. وهو ينبع في الحالين من مركزية الأمة الموجودة كماهية، لكن المعدومة كوجود. حقوق وحريات الأفراد عوارض لا أهميه لها أمام شخصية الأمة ومصيرها.

يشترك «البعث» و «داعش» في عالم لغوي رمزي فيه الكثير من المعارك والحرب والدم والأبطال والأعداء والانتصارات والبلاغة والشعر العمودي. يشتركان أيضاً في نظرة إلى العالم الحديث تراه مؤامرة موصولة على العرب أو المسلمين، مع تمركز مفرط حول الذات، العربية أو الإسلامية. الغرب، هكذا من دون تعيين، عدو بمعنى ماهوي للكلمة عند العروبيين الخلص، وهو مثل ذلك وأكثر عند الإسلاميين، وإن اختلف سند العداء. يعادي القوميون العرب الغرب لأنه استعماري وامبراطوري، ويمكن في النفس ذاته أن يقولوا بكل طرب شيئاً عن «الفتوح» العربية الإسلامية. أما الإسلاميون، السلفيون منهم بخاصة، فسند عدائهم للغرب هويته الدينية، كغرب صليبي يهودي، وهذا بالمناسبة تصور الدوائر اليمينية الغربية عن الغرب.

وكلا الطرفين خصم للأفكار المستوردة، وداعٍ للأصالة. معارضة الأفكار المستوردة منهج للتحكم بتفكير المحكومين نفسه، وليس فقط بإرادتهم وشروط حياتهم. الفكر الأصيل بالطبع هو القومية العربية مرة، وهو الإسلام مرة أخرى، وقد جرى رده إلى قاعدة لرفض كل جديد فكري أو سياسي أو قانوني أو اجتماعي. التكنولوجيا وحدها مقبولة.

نريد أن المرء لا يجد نفسه في عالم غريب حين يتحول من البعث إلى داعش، الحساسية مشتركة والمخيلة متقاربة والبنى اللغوية والرمزية نفسها تقريباً. أليس لكلمتي بعث وسلفية الدلالة ذاتها تقريباً، وإن أحالت واحدة إلى عرق ولغة، والثانية إلى دين؟

* كاتب سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى