صفحات سوريةعمر قدور

من الثورة إلى التأسيس/ عمر قدور

“سوريا ليست تونس أو مصر أو ليبيا”، هذا ما أكده مراراً أركان النظام السوري قبل اندلاع الثورة وبعده. المُراد في ذلك أن التغيير الذي كان مسموحاً به في دول الربيع العربي غير مسموح به في سوريا، وفي الواقع أثبتت مجريات الأحداث صواب رؤية النظام، وأثبتت في الدرجة الأولى قوة ما يستند إليه من دعم حلفائه، وفي الدرجة الثانية تهافت الدعم الذي تلقته الثورة ممن يزعمون صداقتها، وسرعة تخليهم عنها وحتى المساهمة في حصارها. لكن خطأ تشبيه سوريا بدول الربيع العربي لا يقتصر فقط على فرضية إفشال الثورة فيها، ولا على الموقع الجيوسياسي الذي يمسك به النظام ويفاوض العالم من خلاله، بل لأن مآلات الثورة فيها لا تتوقف عند حدّ استبدال نظام بآخر، أو الوصول إلى تسوية تصحح من مسار النظام الحالي.

 عدم نجاح الثورة سريعاً لا ينذر فقط بتضاؤل فرص نجاحها بقدر ما يضيء على الاختلافات العميقة بين سوريا ودول مثل مصر وتونس. ففي سوريا لا فرصة ملموسة لتقدم الثورة أكثر مما أحرزته في البداية، ولا فرصة لتقدم النظام سوى على الصعيد العسكري الميداني، إن حصل ذلك. الانقسام مستتبّ منذ البداية، ومهما تقنّع بدعاوى سياسية آنية فهو لا يخرج عن كونه انقساماً عمودياً لا يتمتع بالمرونة المفترضة للسياسة. الثورة فتحت الباب على ما كان مخفياً أو مسكوتاً عنه، وعدم انتصارها لا يعني أبداً العودة إلى التوازن السوري الهش أصلاً، بل إن العنف الذي واكبها يجعل سوريا البعث أو سوريا الأسد حقبة منتهية على الرغم من المحاولات الدولية لتعويمها.

 الثورة جزء مما يحدث في سوريا الآن، النظام فاعل رئيسي أيضاً، لكن الصراع ككل لا يمكن اختزاله بحرب بين الثورة والنظام. الأخير أرادها منذ البداية حرب وجود، وهي صارت كذلك حقاً بالنسبة إلى الثورة، وبالنسبة إلى الكيان السوري برمته. الثورة فتحت على فعل لم تسعَ إليه أصلاً، وهو فعل إما أن يكون تأسيسياً أو لا يكون. بهذا المعنى، لم يكن الذين تنادوا إلى الثورة بداية يدركون، أو يتمنون، الوصول إلى الحافة الحادة التي وصلت إليها البلاد، والبعض منهم كان يمارس سياسة الإنكار من موقع الحرص الوطني، مع أن نسبة كبيرة من السوريين بمن فيهم المتخوفون من الثورة بنوا تخوفاتهم على استبطان المخاض العسير الذي ينتظرهم.

سوريا، ككيان سياسي معاصر، على عكس البديهيات الشائعة، تأسست العام 1939، أي مع ضم لواء إسكندورن إلى تركيا. ولم تكن عملية التأسيس الأولى سلسة، إذ كانت ثمة مطالبات بدويلات على أسس طائفية. العامل الأهم الذي سهّل قيام الكيان السوري آنذاك هو وقوع جميع الفرقاء الداخليين تحت الوصاية الفرنسية، وعدم وجود مصالح إقليمية أو دولية متنازعة في الساحة السورية. ذلك يضرب فكرة الاستقرار السوري بعيد المدى، ويضرب أيضاً الفكرة الشائعة عن “الأخ الأكبر” في الإقليم الذي يضغط على الكيانات المجاورة مثل لبنان والأردن. فسوريا الحالية تعاني من كافة المشاكل البنيوية التي تعاني منها “بلاد الشام”، وانفتاحها على أسئلة التأسيس مرة أخرى قد يرخي بثقله على الإقليم كله، ولعل جزءاً من الاهتمام الفرنسي الراهن يرجع إلى المسؤولية عن عهد التأسيس الأول.

لم تشهد سوريا استقراراً سياسياً إلا بعد انقلاب “البعث”، غير أنه استقرار على أرضية قمع الحراك المجتمعي والسياسي، استقرار قائم على هيمنة المخابرات والجيش، وهما الجهازان اللذان يحرص التوافق الدولي المحدود الآن على إبقائهما لضمانة الاستقرار. أي أن التوافق الدولي يبني على فرضية عدم قدرة السوريين على تأسيس جمهورية جديدة في غياب لسلطة القمع، وهذا ليس مستغرباً من الروس الذين يريدون الإبقاء على الواقع الراهن، لكنه ليس مستغرباً أيضاً من الإدارة الأميركية فقد سبق لإدارات سابقة أن وجدت في الوصاية السورية على لبنان مخرجاً من الصراع الداخلي هناك.

 من هذه الوجهة أنجزت الثورة فعلها في ضرب التوازن الهش منذ الأشهر الأولى؛ ما تبقى هو بمثابة موجات ارتدادية عنيفة ينتجها عموم الحالة السورية، من دون أن نخلي مسؤولية النظام الأولى عن توليد العنف من خلال كبح الصراع خلال نصف قرن، ومن ثم مسؤوليته عن أعمال الإبادة والتدمير في أثناء الثورة. التأسيس لعقد اجتماعي معاصر في سوريا لن يكون ممكناً تحت وطأة العنف الحالي، ولن ينتجه في المقابل استقرار مزيف ولا النوايا الوطنية الصادقة للبعض، فهو إما أن يلحظ القوى الاجتماعية الكبرى ويعبّر عن مصالحها أو أن يبقى في إطار التمنيات. الحديث عن ثورة سُرقت قد يدخل أيضاً في إطار المكابرة، فالثورة لم تخترع تناقضات المجتمع السوري، بل لعله من فرط رومانسيتها لم يدرك أبناؤها خطورة وعمق التغيير الذي نادوا به.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى