صفحات سوريةمعتز حيسو

من الحرية إلى انهيار الوحدة الوطنية/ معتز حيسو

 

 

لم تعد سورية كما كانت قبل انطلاق ثورتها السلمية، ولن تكون ذلك النموذج الذي حلم ببنائه دعاة التغيير السلمي في بداية ثورتهم التي ساهم في إجهاضها قمع أمني ملازم للتضخم السلطوي، واشتغال أطراف وجهات متعددة ومختلفة على تسليحها وأيضاً أسلمتها، ما أسس لنشوء أزمة عامة ومركّبة.

ونشير في السياق هذا إلى أن مهمات السوريين لم تعد تنحصر في تمكين الأسس اللازمة للانتقال إلى دولة المواطنة ونظام حكم ديموقراطي. فاستعادة الوحدة الوطنية المجتمعية، وأيضاً الجغرافية ستكون امتحاناً للسوريين جميعاً. ومن الصعوبة بمكان التكهن بقدرة السوريين على تحقيق ذلك نظراً لتداخل مصالح دولية وأخرى إقليمية حولت سورية الى مناطق نفوذ، وأيضاً لتمسك النظام بالآليات ذاتها التي حكم فيها البلاد لعقود خلت، وخضوعه أكثر من أي لحظة سابقة لسلطة هي ليست دولة.

وإذا عدنا إلى بدايات الحراك السوري، نلحظ أن لحظة تحوله إلى صراع مسلح كانت هي ذات اللحظة التي تأسلم فيها، ما أدى إلى إخراج شرائح واسعة من السوريين من ساحة الفعل، وإلى انقطاع علاقتهم بالصراع كونه لم يعد يعبّر عنهم. وينطبق ذلك وإن بأشكال مختلفة على دعاة التغيير السياسي السلمي، ما وضع الجميع في مواجهة تداعيات انتقال الثورة إلى حقل الصراع المسلح ووضع أطراف الصراع في مواجهةٍ إشكالية مع شرائح وفئات واسعة من السوريين. وفاقم من تلك المخاطر ارتباط الفصائل المسلحة بأطراف خارجية، فغابت شعارات الحرية لتحل مكانها شعارات أخرى لا علاقة لها بالتغيير الوطني الديموقراطي.

وفي كل لحظة من لحظات الصراع السوري، كانت المعارضة السورية المعتدلة (المسلحة والسياسية) مطالبة بإجراء نقد ذاتي لمواقفها وآليات اشتغالها وأيضاً تحالفاتها. لكن ما كانت تقوم به من «نقد ذاتي»، لم يخرج عن إطار إعادة إنتاج ذاتها المأزومة والمرتبطة بنيوياً بأزمة أخرى دولية وإقليمية. وبدلاً من الاشتغال على تطوير خطابها السياسي بأشكال ومستويات تمكّنها من التعبير عن مصالح السوريين، ومن تجاوز ما آلت إليه أوضاع الصراع، فإنها تحولت إلى إحدى أدوات التدمير الذاتي. وفاقم من أزمتها اندماجها بحركات إسلامية جهادية، بعضها مدرج على قوائم الإرهاب. وكان لذلك دور كبير في اتساع الفجوة بينها وبين السوريين. وعزز من ذلك نقل الصراع إلى حقول أخرى طائفية ومذهبية وأحياناً إثنية، ما ساهم في تفاقم مظاهر التبعثر والتشتت، وأيضاً إضعاف حوامل التفكير العلماني.

وكما بات معلوماً فإن المجموعات المسلحة وتحديداً المتطرفة دخلت في مواجهة مزدوجة مع النظام والقوى الداعمة له من جهة، ومع شرائح وفئات اجتماعية وسياسية واسعة تعارض ميول تلك المجموعات وممارساتها، ما حوّل النظام بغض النظر عن موقف السوريين منه، إلى أحد الملاذات المتوافرة.

وجميعها عوامل ساهمت في إيصال السوريين إلى أوضاع كارثية قد يكون أخطرها تفكك بنية المجتمع السوري وتذررها، إضافة إلى تحويل سورية إلى مناطق نفوذ تستأثر بها دول كبرى وأخرى إقليمية اعتمدت لتمكين نفوذها وسيطرتها على دعم وتمويل وتوظيف واستخدام مجموعات مسلحة إسلامية متطرفة سيطرت في لحظات سابقة على أكثر من نصف مساحة الجغرافيا السورية. ومن المؤسف أن قيادات المعارضة من الخارج ما زالت تراهن على أن تمدد تلك الفصائل واتساع سيطرتها الجغرافية، يعززان قوة ثورتهم وصلابتها، ويساهمان في إسقاط السلطة السورية، وهي تنظر إلى اجتثاث تلك الفصائل على أنه إسقاط للثورة، علماً أن حكومات المعارضة لم تكن تجرؤ على الدخول إلى تلك المناطق.

نشير أخيراً إلى أن القضاء على تلك الفصائل لا يعني نهاية الصراع في سورية، ولا يعني أيضاً نهاية أزمة السوريين. فأمام السوريين تحديات أخرى أكثر تعقيداً، منها إعادة بناء الوحدة الوطنية، وتحرير سورية من الاحتلالات الخارجية الدولية منها والإقليمية. وستكون لذلك علاقة مباشرة باجتماع السوريين على الأسس اللازمة للانتقال إلى نظام وطني ديموقراطي بعيداً عن المراهنة على التدخلات الخارجية وعن لغة الصراع المسلح، علماً أن التنافس الدولي والإقليمي على تقطيع الجسد السوري ما زال ينذر باندلاع مواجهات واسعة تفاقم تحويل السوريين إلى موضوع للصراع وإلى أداة من أدواته. كذلك يفاقم تلك المخاطر استمرار سدنة السلطة الراهنة بمعاندة منطق التاريخ التطوري ومصالح المجتمع.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى