صفحات الرأي

من الدين الى الطائفة: في ضرورة الدولة المدنية/ خالد غزال

 

يشهد العالم منذ عقود، صراعات وحروباً يتخذ معظمها طابع حروب دينية ومذهبية. فالإرهاب الذي ضرب أكثر من مكان في العالم تجلبب بلباس الدفاع عن دين محدد في وجه دين آخر، أو عن مذهب أو طائفة في الدين نفسه. في داخل البلاد التي تشهد صراعات داخلية، يلاحظ المراقب أنّ النزاعات الطوائفية والمذهبية تخترق هذه الصراعات، حتى ولو كان الأصل فيها ذا طابع محض سياسي. ولأنّ العنف الذي يضرب مناطق متعددة في العالم بات مغلفاً بطالع ديني إلى حد بعيد، يصبح السؤال مشروعاً عما إذا كان العالم قد عاد يدخل في قرن الحروب الدينية على غرار القرون السابقة في أوروبا أو العالم الإسلامي. الجديد البارز في القرن الحادي والعشرين، أنّ لعنة الحروب الدينية لا تقتصر على دين محدد كما يجري الإدعاء حول الدين الإسلامي، بل تطال هذه اللعنة المنتمين إلى المسيحية واليهودية، وحتى البوذية ذات المنزع اللاعنفي وجدت لنفسها مكاناً في الصخب القائم.

يطرح هذا الانفجار العنفي، المتحول إرهاباً، جملة أسئلة عن الأسباب التي تجعل الأديان متسمة بهذا الطابع. فهل يعود العنف إلى بنيتها التي تحمل جرثومة القتل والقتل المضاد؟ وهل الابتعاد عن الأديان ورفضها يمنع المجتمعات من الإنزلاق إلى دوامة العنف؟ في الحالتين، هناك أسباب أخرى تتحكم في مسار المجتمعات وتشكل ممرات لولوج العنف إلى قلبها. وإذا كان العنف الديني موضع التساؤل الأبرز، فإنّ التفتيش عن دوافعه يكمن في العودة إلى الانقسامات والتشققات التي حصلت داخل كل دين، وأدت إلى بروز طوائف ومذاهب، ادعى كل واحد منها انتساب الإله الى منظومته، ورأى في نفسه الطرف المنقذ الحامل وحيدًا أختام الحقيقة المطلقة، فيما تتربع سائر الطوائف والمذاهب في الضلال وتتهيأ لمصير مرتعه جهنم وبئس المصير. وتذهب كل واحدة إلى تكفير الأخرى واتهامها بالهرطقة والإلحاد، بما يبرر اضطهادها وحتى إبادتها. وهو حكم يصدر عن الواقع الذي شهده العالم لقرون خلت، وعاد يتجدد اليوم في أكثر من مكان.

ليس من قبيل المماحكة أن يُطرح سؤال عن مدى مشروعية تعبير الطوائف والمذاهب عن واقع الدين الحقيقي. فالدين في الأصل وجد لخدمة الإنسان، يتسم بالمطلق الأخلاقي والإنساني والروحي، ويدعو الى تحقيق قيم العدالة والمساواة بين البشر. ما تمارسه المذاهب والطوائف من اقتتال وبناء للكراهية بين أبناء الدين الواحد، أو بين الأديان المتقابلة، لا يصبّ مطلقاً في خانة الجوهر الأصلي الذي قامت عليه الأديان. لذا ليس من المغامرة إطلاق حكم على هذه الطوائف والمذاهب بكونها تشكل العدوّ الأساسي للدين نفسه.

منذ قيام الأديان واجتياحها المجتمعات البشرية، لم تنفك القوى السياسية عن حرف الأديان عن مهماتها الأصلية، ولأن الظاهرة الدينية متأصلة في الوجدان الإنساني، بصرف النظر عن انتماء الإنسان إلى دين توحيدي أو غير توحيدي، فإنّ ادخالها في الصراعات السياسية والاجتماعية كان العنصر المفجّر دوما للعنف والكراهية، بالنظر الى استخدام كل فئة النص الديني لصالحها، عبر تفسيره واصدار فتاوى مستندة إليه، بما يخدم مصالحها في الصراع الدائر، وهو منهج لم يتوقف حتى اليوم لدى جميع الأديان والمؤسسات الناطقة باسمها. هذا التوظيف للدين خارج جوهره الأصلي، هو المسبب الرئيسي للنزاعات الدينية التي جرت وتجري اليوم في العالم.

إذا كانت أوروبا قد دفعت مئات الآلاف من الضحايا في أتون الصراعات الطائفية، قبل أن تتوصل، إلى حد بعيد، إلى إبعاد الدين عن السياسة وإعادته إلى موقعه الأصلي، إلاّ أنّ المجتمعات العربية والإسلامية، تقدم اليوم مشهدًا يبدو أقرب إلى المشهد الأوروبي في القرنين السابع عشر والثامن عشر. على رغم أنّ هذه المجتمعات عرفت حروباً دينية ومذهبية لم تكن قليلة الضحايا منذ نشأة الدين الإسلامي، وخصوصاً بعد وفاة الرسول واندلاع الصراع على السلطة بين القبائل العربية، والانشقاقات التي ترتبت على هذا الصراع، وقيام الفرق والطوائف والمذاهب، وسعي كل واحدة إلى استحضار النصوص المقدسة وتوظيفها في ميدان الصراع بما يخدم أهدافها، إلاّ أنّ الصراع المندلع اليوم ينذر بتكرار المراحل السابقة من النزاعات الدينية، مع فارق يتعلق باختلاف الوسائل التدميرية التي يجري استخدامها، والتي تكفل تزايد أعداد الضحايا بما لا يقاس على القرون الماضية.

لم تكن النزاعات المندلعة اليوم والمتخذة الطابع الطائفي والمذهبي بشكل صريح، وليدة اللحظة، بل يعود بعضها في جذوره الى عقود خلت عندما بدأت المنطقة العربية تشهد انهياراً في مشروع التحديث الذي كانت مظاهره قد تكونت منذ الخمسينات من القرن الماضي. من أبرز نتائج هذا الانهيار صعود التيارات الإسلامية وتقديم فكرها بديلاً من الإيديولوجيات التي كانت سائدة، في تعبيراتها القومية العربية والإشتراكية والليبيرالية. أخطر ما ترتب على صعودها، هذا الفوران في الحركات الأصولية التي اعتمدت الإرهاب طريقاً أساسياً في عملها، ووظفت النص الديني في خدمة هذا الإرهاب. ومع انفجار المنطقة العربية، بدا أنّ انهيار مشروع التحديث، وانفجار الإحتقان الشعبي، لم يقتصرا على صعود نظري للتيارات الإسلامية، بل ترجما نفسيهما في وصول بعض هذه التيارات إلى رأس السلطة من خلال عملية ديموقراطية وعبر إنتخابات غير مزورة إلى حد كبير. لم تتأخر التيارات الإسلامية في طرح مشاريعها للسلطة في وصفها تطبيقا للشريعة وتمهيدًا لبناء الدولة الدينية، مما يضع القوى غير المؤيدة لهذه التيارات أمام تحديات من نوع مختلف، ومعركة يمتزج فيها الصراع السياسي والفكري والإيديولوجي.

سلطت الانتفاضات العربية الضوء على نتائج انهيار مشاريع التحديث، وفي مقدمها الانهيار المتمادي في بنى الدولة المتكونة منذ الإستقلالات، وفقدان هذه البنى موقعها بما قلص هيمنة الدولة ومؤسساتها على المجال العام لصالح البنى الفئوية والجهوية ذات الطابع الطائفي او الإثني، وتحول موقع القوة إلى هذه العصبيات العشائرية والقبلية، وانحياز المواطن في ولاءاته إلى هذه البنى على حساب الولاء للوطن والدولة. استتبع هذا التقلص والإنحياز، توترات داخلية كانت بدأت تعبّر عن نفسها بحروب أهلية داخلية. ساعدت الانتفاضات العربية على تسريع انفجار هذه البنى وكشف ما في جوف المجتمعات من تناقضات داخلية، تترجم ما تختزنه من عنف وأحقاد متراكمة على امتداد قرون. انطلقت الانتفاضات في الأصل من شعار التغيير الديموقراطي، وحطمت جدار الخوف وأعادت إلى الشعوب العربية دورًا في ممارسة السياسة، كانت أنظمة الاستبداد قد منعتها عن ممارسته. في أكثر من مكان سلكت الانتفاضات طريق الحروب الأهلية، التي كان أخطرها استعادة النزعات المذهبية بين الطوائف الإسلامية.

هذا التحول من الدين الى الطائفة وما يستتبعه من آثار سلبية وخطيرة على المجتمعات العربية يطرح بإلحاح على بساط البحث كل مشروع الاستنهاض والحداثة والتحديث، المنتكس أصلا، الذي تزيده الصراعات الطوائفية والمذهبية إعاقة مضاعفة، مما يجعل المشروع التهضوي المرتجى مرتبطاً موضوعيا بتجاوز هذه الانقسامات، وكشف زيف الطوائف ونفاقها في ادعاء تمثيل الدين والتعبير عن قيمه، وفي إعادته إلى موقعه الأصلي معبّرًا عن القيم الأخلاقية والإنسانية والروحية في علاقة الإنسان بخالقه من دون توسط المؤسسات الدينية. لن يتم تجاوز الطوائف والمذاهب إلاّ عبر قيام دولة مدنية، المواطنية فيها أساس انتسابه كفرد حر مستقل، وليس انتساباً إلى الطائفة التي تسعى إلى ربطه بحبال غليظة تجعل منه فردًا ملزماً أن يولد ويعيش ويتنفس ويموت طائفياً، كما تجري محاولة قولبة الشعوب العربية اليوم لتسير في هذه المنظومة المدمرة.

من كتاب يصدر قريباً بالعنوان نفسه، لدى “دار الساقي”، ويوقّعه الكتاب السبت 29/11/2014 في معرض الكتاب العربي، بين الساعة السادسة والثامنة مساء.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى