صفحات الناس

من الرقة إلى روما: قصص ومآس لا تنتهي/ أيهم الحسين

 

 

روما ليست بعيدة عن الرقة القابعة تحت ظل الخلافة المزعومة، أينما ولّيت وجهكَ في شوارعها تجد أيادي المصلوبين تدُلكَ على الطريق، هناك في شوارع الرقة السورية تسمعُ الأصوات التي تصدحُ بــ “فتح روما” ممتزجةً بصرخات المَصلوبين، طريق روما عُبِّدَ على أجساد أهلها المظلومين!

لم يكن محمد عدنان كادري أول المَصلوبين ولا آخرهم، لم يبلغْ العشرين من عمره، شارك في الحِراك الثوري في الرقة قبل وبعد تحريرها من نظام الأسد وكان له حضورٌ لافِت ونشاط لا يخبو، يغيبُ عن الساحة وبسمتهُ لا تفارقهُ واحترامه للصغير قبل الكبير يدلّل عليه، رفض الخروج من المدينة بعد احتلالها من تنظيم “داعش” قائلاً: “البقاء في الرقة قوة لنا، وأنا أقوى منهم”.

حاول التنظيم إقناعه للعودة للعمل في المشفى الوطني كما كان في السابق متطوعاً لدى المشفى أثناء فترة تحرير المدينة من نظام الأسد حتى احتلالها مُجدداً من قبل التنظيم، وحاولوا إغراءه براتب شهري قدره 150 دولاراً، إلا أنه رفض العمل تحت ظلهم الأسود، وفضّل الجلوس أكثر من خمسة عشر ساعة أمام مكنات الخياطة الرجالية عند محل يمتلكهُ والده، محاولاً رفع أعباء العمل عن أبيه، واقتصرت حياته بين بيته والعمل والمسافة بينهما يقطعها بدراجة نارية يمتلكها والده.

بتاريخ 17/3/2016 خرج أبوه بُغية تأمين مستلزمات البيت تاركاً خلفه محمد منهمكاً بعمله في المحل حتى انفرد به عناصر التنظيم، فقاموا بتعصبيه واعتقاله، وبحثوا في المحل عن هاتفه حتى أخبرهم أنّه في المحل المجاور لصيانة الأجهزة، اُقتيد لهناك وأُخذ الهاتف رغم عطله وأكملوا طريقهم لمنزل محمد ليصادروا كل ممتلكاته (لابتوب وكمبيوتر مكتبي لإخوته الصغار ومبلغ مالي لوالده)، حاولت الأمُّ منعهم أو معرفة تهمة ولدها، لكنهم اكتفوا بالصمت حتى زجرها أحد العناصر، واتهم محمد بالِرّدّة وتعامله مع “الصليبيين” حسب زعمهم، ليختفي محمد وينقطع أثرهُ مدة خمسة أشهر.

أُنهكَ الأبُ وهو يبحثُ عن أثر لولده بلا طائل أمام مقرات التنظيم، ووصلت عِدّة رسائل لأهله من أناس قد خرجوا من سجون التنظيم كانوا برفقة محمد مُفادها: “أنا بخير لا تقلقوا عليّ”، دون أن يصرّح عن مكان سجنه أو عن مصيره. طيلة فترة اعتقاله استخدم التنظيم حساب محمد على موقع “فيسبوك” لنشر أخبار عن انتصارات تنظيم “داعش” على الانفصاليين “وحدات الحماية الشعبية الكردية” في الريف الشمالي للرقة.

وأخيراً ظهر مصلوباً في أحد شوارع المدينة في أبشع صور الإجرام بغرز سكينة اخترقت قلبه قبل أن تخترق رأسه رصاصة حقد بدقائق، تركوهُ لعذابات السكين وحِدّتها ولمعانها التي عكست أشعة الشمس بعيون الحشود ووجوههم العابسة.

بقي مصلوباً لثلاثة أيام حتى يعْتَبر الناس منه، بينما كانت صيحاتهم المعهودة المُنادية بفتح “روما” وسبي نسائها وقتل رجالها تعلو أمام جثة محمد المصلوبة، من يقاوم الخنجر المغروز بقلب محمد؟ ويُسكت صيحات “روما” التي تبعد آلاف الكيلومترات عن قلب محمد الذي يقطر دماً؟!

لم تُسلّم جثة محمد لذويه، فالمرتدون لا يدفنون في مقابر المسلمين حسب مزاعم التنظيم، اكتفى الوالدان باحتضان قدمي ولدهم المصلوب خلسةً عن أعين عناصر “داعش”، قبّلت أمه قدميه المضرجتين بدمائه، “عيناه معصوبتان ولا دلالة على موته وكأنه ما زال حيّاً” هكذا ختمت حديثها قبل أن يجبرها والد محمد على الرحيل.

هذا ما استطعتُ الوصول اليه عن تفاصيل موت محمد على أيدي الظلاميين قبل أن ألتقي أحد الأصدقاء كان برفقة محمد في أحد سجون التنظيم، ليروي لي قصته بالهروب من السجن رفقة محمد.

يقول “لم أكنْ أعلم أنّها الليلة الأخيرة لي في سجون “داعش” قبل أن يستهدفهُ طيران التحالف في ساعات الصباح الأولى، لم أنمْ يومها كنا ثلاثين شخصاً، في غرفة ليست بكبيرة لكنها كافية لنا، تنوّعت تهم الموجودين وأعمارهم، ومحمد كان أصغرنا والأقرب إليّ منذ أن أحضروه لغرفتنا، لم يرتكب ذنباً يستحق الموت عليه ولم يعترف حتى بالتهم المنسوبة إليه.

ردة فعل محمد حين عرف أنّه سُيقتل بحجة “تعامله مع التحالف الصليبي”، هذا ما قاله السجّان له قبل أن يغلقُ الباب علينا ودون أن يذكر موعد التنفيذ!، حاولنا مواساته ورفع عزيمته حتى قاطعنا بالحديث وطلب من الحاضرين من يستطيع الخروج منكم أوصيكم أن توصلوا رسالتي لأهلي: “عليّ دين كثير خلي أهلي يوفون الناس”، أخذ عهداً منّا جميعاً على إيصال الرسالة وأكثر ما كان يتمناه في حديثه قبل أن يخلد للنوم أن يرى والدته قبل أن ينفذ حكم الإعدام به.

قبل أنْ يحصلَ الانفجار كان الهدوء يعمُّ المكان وبنات أفكاري تتصارعُ بالرابط الذي يجمعُ محمد بفتح روما والطريق إليها “شدخل أهل الرقة بروما؟!”، فجأةً اهتزت الأرض من تحتنا لتقطع سلسلة الأفكار تلك، خُلعت الأبواب والشبابيك وكأنّه يوم القيامة أو يوم الخلاص لا أعرف لكنّي أمسكتُ بيد محمد المرعوب من هول صوت الانفجار، ركضنا نحن ومن في الغرفة للخارج، كان الظلام شديداً والتنفّسُ صعباً بسبب الغبار، لم نهتم للمصابين ولم نعرف السجّان المصاب من السجين، ربّما هذه هي الأنانية والرغبة بالخلاص ما جعلنا لا نميّز بينهم.

كُنّا نجهلُ المكان الذي كنا فيه حتى خرجنا للشارع وكانت حديقة البجعة أول ما رأته عيني، حينها أيقنتُ أنّ “الملعب الأسود” كان مكان اعتقالنا، هربُ الكلُّ في جهات متعدّدة، وأنا ومحمد ركضنا باتجاه واحد، كُنّا حفاةً، لم أتوّقع أنني أستطيع الجري بهذه السرعة “أعتقد بأنّني حطمتُ الأرقام القياسية آنذاك”، كانت الأرض خشنةً وقدمي التي تهبطُ بكلّ ثقلي وتدفعني للخلاص، سبقتُ محمد بعِدّة خطوات حتى فرّقتنا سيارات التنظيم المُنتشرِة في المكان.

استطعتُ الاختباء على سطح أحد الأبنية العالية التي يتوسطها خزان مازوت، كنت أراقب من فوق تحركاتهم وأبحثُ عن محمد حتى شاهدتهمُ يقتادونه من إحدى الحدائق التي تقع بالقرب من مكاني.

بقيتُ ليومين كاملين في ذات المكان ولم أكترث للعطش والجوع، فقط كنت أخشى الوحوش المنتشرة التي تبحث عنا، صعدوا للسطح وبقيت داخل خزان المازوت لساعات طويلة، لم يكن ممتلأ لكن رائحة المازوت كادت تخنقني، كنت أسمع أصواتهم وحركات أقدامهم تقترب وتبتعد عن مكاني حتى بدأت تختفي رويداً رويداً، تردّدتُ كثيراً بالخروج من مكاني حتى صباح اليوم الثالث، نزلتُ درج البناء بحذرٍ، سرقتُ حذاءً كان أمام أحد البيوت، وحاولت السير بشكل طبيعي، أوقفت تاكسي للأجرة لكن لم أملك المال ولا حتى أنوي الذهاب لمنزل أهلي خوفاً من مراقبتهم للمنزل.

تحرك التاكسي وصوت السائق يكرّر أين الوجهة؟ حتى طلبت أن يوصلني لمكان يقطنهُ أحد أقاربي الذي أثق به، بقيتُ لأسبوعين أحاول الخروج من المدينة، واليوم أنا في تركيا بعد مشقات وعذاب الطريق.

علمتُ بمقتل محمد وصلبه لثلاثة أيام وقمت بإيصال الأمانة “الوصية” لأهله عن طريق أناس في الرقة، ما زلتُ أجهل دوافع عناصر تنظيم “داعش” المجرم لترديدهم شعارات “فتح روما” فوق جثث أبناء بلدي”.

جيل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى