صفحات الناس

من الشام لبغدانِ…الى مصر فتطوانِ” غالبية العرب غير مؤهلة للديموقراطية!

عزت صافي *

العالم العربي بأسره، من مشرقه إلى مغربه، خائف. ثمّة وحش فالت اسمه: القتل والتقسيم. وهو وحش ذو وجهين: وجه عسكري مكشوف، ووجه ديني مزيّف…

المواطن العربي، أينما كان في بلاده، أو في أصقاع الأرض، يحاول أن يحجب عن عينيه شاشة التلفزيون، وأن يهرب من نشرات الأخبار في الإذاعات، وهو يتردد قبل أن يفتح صحيفة الصباح خوفاً من مناظر الأشلاء والدمار والنحيب، تتبعها مشاهد قوافل النزوح إلى المجهول.

لا يستطيع هذا المواطن أن يراجع تاريخه. كأن ليس لهذا التاريخ بداية. فمن أين يبدأ العربي تاريخه إذا بحث عن زمن للحرية والاستقرار والكرامة مع العدالة؟.. بهذا المعنى يجد العربي نفسه قابعاً تحت الاستعمار. إنه الاستعمار الوطني. إنه الاستبداد، الأفظع من الاستعمار.

هل صار الاستعمار الأجنبي مقبولاً بالمقارنة مع الاستعمار الوطني؟.. تساؤل من هذا يستدعي اللعنة. لكن على من؟

ثمة مشهد لا يغيب عن ذاكرة العين العربية، وقد دخل في التاريخ المسجل بالصوت وبالصورة وباللحظة. إنه مشهد يعود إلى اليوم التاسع من نيسان (أبريل) عام 2003 يوم دخل الجيش الأميركي مدينة بغداد. كانت عيون العالم مفتوحة على المشهد، وكان العالم محشوراً في مساحة لا تزيد عن مساحة شاشة تلفزيون.

يومها كان رأس صدام حسين شامخاً فوق تمثال ضخم في «ساحة الفردوس» وسط عاصمة الرشيد. كانت الكاميرا تتركز للحظات على وجه صدام، ثم تتحول لتستقر على فوهة مدفع دبابة أميركية مرابطة قبالة التمثال.

كان المشهد بطيئاً وصامتاً. لكنه كان ناطقاً من دون كلام. ففي حركة الكاميرا بين وجه التمثال وفوهة مدفع الدبابة بدا وكأن هناك نظرات توعد متبادلة بين رأس صدام وفوهة المدفع الأميركي.

أمام ذلك المشهد كان الناظرون إلى الشاشة في العالم العربي وخارجه يحبسون أنفاسهم بانتظار اللحظة الآتية. لحظة انطلاق قذيفة تطيّر رأس التمثال.

لكن ذلك لم يحدث. فالدبابة الأميركية لم تطلق قذيفة. إنما رمت حبلاً طويلاً من نوع حبال المشانق. وكان هناك من التقط طرف الحبل ثم تسلّق التمثال العالي ليعقد الحبل حول عنق صدام، ثم يغطي الوجه بالعلم الأميركي.

في تلك اللحظات هدأت أنفاس ملايين من المشاهدين لتثور أنفاس ملايين أخرى. لقد شهر الجلاد هويته أمام المحكوم عليه بالإعدام كي يعرفه قبل تنفيذ الحكم.

في تلك اللحظات التي مضى عليها عقد من السنين انطبع المشهد صارخاً أمام صاحب الأمر في البيت الأبيض، وفي مبنى البنتاغون في واشنطن. ثم، في لحظات، انقلب المشهد رأساً على عقب. لقد ظهر من نزع العلم الأميركي عن وجه التمثال ليضع العلم العراقي مكانه.

هل حدث ذلك خطأ جرى تصحيحه فوراً، أم أنه حدث عمداً ليجري تصحيحه على أنه كان خطأ؟

الاحتمال الثاني هو الأصح، لأنه من غير الممكن أن يكون العلمان الأميركي والعراقي حاضرين في اللحظة عينها.

أمام ذلك المشهد وصلت الرسالة إلى الملايين حول العالم. فقد ارتسم في الأذهان وجه الرئيس الأميركي جورج بوش الأب الذي رسمه نظام صدام حسين على بلاط مدخل فندق بغداد لكي تدوسه أقدام آلاف العابرين دخولاً وخروجاً.

تلك الصورة – اللوحة المرسومة بالفسيفساء كانت «ممسحة» على باب أشهر فندق في بغداد، وقد أرادها صدّام حسين فعل انتقام سياسياً ومعنوياً، من الولايات المتحدة الأميركية ورئيسها الذي أرسل جيوشه من وراء الأطلسي لإخراج الجيوش العراقية من دولة الكويت التي غزاها صدام غدراً وظلماً في ليلة ظلماء.

لم ينته مشهد بغداد في ذلك اليوم بتغطية وجه صدام بالعلم الأميركي ثم نزعه فوراً لإبداله بالعلم العراقي. ففي لحظة تاريخية أيضاً امتد الحبل من عنق التمثال لينعقد بمقدمة الدبابة الأميركية. وقد أخذت الدبابة تتحرك ببطء إلى الوراء حتى انخلع التمثال من قاعدته، وتهاوى من عليائه إلى «ساحة الفردوس» فتزاحمت أقدام الجمهور على دوسه.

حدث ذلك قبل عشر سنوات، وقد رسخ المشهد في التاريخ كشاهد على نهاية ديكتاتور.

لكن ذلك كان قد حدث بمدفع دبابة أميركية وفي غياب الشعب العراقي عن ساحة الفردوس.

في زمن صدام حسين قضى مئات الآلاف من الشهداء ظلماً، ومن دون تمييز بين مذهب ومذهب. وهدرت ثروة العراق ببلايين الدولارات وعمّ السواد والحزن والألم كل أقطار العرب.

… ولكن.. كيف حال العراق اليوم؟.. بل إلى أين يتجه العراق اليوم؟ وأين حصل الخطأ؟.. في الداخل، أم في الخارج؟.. وإلى أين تمضي مصر، وتونس، وليبيا، واليمن؟

وإلى أين تمضي سورية؟.. بل من يرسم لسورية الآن مستقبلها القريب، والبعيد؟.. وإلى أين يمضي لبنان البائس الحظ بموقعه، وأهله، وجيرانه؟ ومن يتولى رسم مستقبله في الداخل، أم في المحيط القريب؟ أم في المحيط البعيد؟.. وماذا تنوي إيران وأميركا، ومن خلفها إسرائيل؟.. ولا حاجة بعد للسؤال عن فلسطين.

وبالإجمال، إلى أين تمضي الثورات العربية؟… وعلى أي نظام سوف تستقر؟.. هل ثمة أمل بالديموقراطية والحرية؟

قد يخطر لصحافي، أو باحث، أن يجري تحقيقاً، أو استطلاع رأي، فيروح يسأل الناس عشوائياً: هل الأوضاع في بلاد الثورات العربية أفضل مما كانت قبل الثورات أم أسوأ؟

لا يقصد الصحافي، أو الباحث، الوصول إلى نتيجة تعلن فشل الثورات، أو تعميم الإحباط من النتائج، حتى الآن. فتلك القوافل من الشهداء الذين لا ينقطع سيلهم، وكل ذلك الدمار والحزن والقهر والعذاب، لا بدّ أن ينتهي بسقوط الديكتاتور الذي لا يزال يعاند ويكابر.

يقصد الصحافي أن يسأل ويسمع ليعرف: هل قامت الثورات في غير وقتها، أم أنها أخطأت في حساباتها، أم أنها خدعت الشعوب فقادتها على عماها حتى أمسكت بمصيرها؟ ينزل الصحافي في جادة الحبيب بورقيبة في تونس، مهد الثورات العربية الحديثة، فيسأل عابراً تجاوز السبعين: هل أنت سعيد يا سيد بما حصل في تونس؟

لا يتلفت الرجل حوله ولا يحاذر الجواب، بل يقول بصوت مرتفع: لست سعيداً. ومن أين تأتيني السعادة. تونس الآن بائسة، وفقيرة، وتتراجع إلى الوراء. وإذا أردت الصراحة أقول لك أني أحنّ إلى عهد بورقيبة الذي تسلم علم الاستقلال الأول، وفتح نوافذ البلاد على المدنية. صحيح أن حوسته كانت فاسدة، وكان يكره التيارات اليسارية ويحاربها، لكنه كان أيضاً يكره التيارات المتعصبة والمنغلقة.

أتعلم، يا سيد؟ يقول التونسي السبعيني للصحافي، ثم يتابع: كان بورقيبة شجاعاً وحاسماً مع هؤلاء السلفيين، وأنا شاهد على حادثة في جامعة تونس. أنا كنت أستاذاً للعلوم الاجتماعية، وقد جاء الأمن يوماً واقتاد أكثر من عشرة طلاب من مختلف الصفوف، وكان بينهم اثنان من طلابي.

لم نعرف إلى أين أخذ الأمن هؤلاء الطلاب، لكننا اكتشفنا إنهم كانوا من الذين غرر بهم السلفيون فأدخلوهم في نشاطاتهم السرية. أتعلم، يا سيد، إلى أين أخذ الأمن هؤلاء الطلاب؟.. لقد أخذهم إلى قصر قرطاج فتسلمهم مدير الدرك وقادهم إلى مكتب الرئيس بورقيبة. وبعد أسبوع عاد أحد الاثنين من طلابي إلى الجامعة فاقتحم مكتبي ليقول لي مزمجراً بصوت خافت: أنظر ماذا فعل بي بورقيبة!

هل تعلم، يا سيد، ماذا فعل بورقيبة بذلك الطالب؟ لقد نتف له شعيرات ذقنه. كان ذلك الطالب في نحو الثامنة عشرة، وكانت تلك الشعيرات الأولى النابتة في ذقنه.

لم ينتبه الصحافي إلى أنه لم يعد وحيداً مع الرجل التونسي السبعيني على ناصية جادة الحبيب بورقيبة، فقد توقف حولهما آخرون بينهم امرأة تجاوزت الستين تجرأت لتتدخل وتقول: أنا توظفت في عهد بورقيبة وخدمت في عهد زين العابدين بن علي. أنا مؤمنة لكني سافرة الرأس والوجه، وعندما تسلّمت حركة النهضة الحكم حاول مديري في المكتب أن يلزمني بارتداء الحجاب، فرفضت. قلت له أنك لست أكثر تقوى وإيماناً مني، وأنا لي حريتي، وأنا أتحمل مسؤوليتي.. لكنه حقد علي وتسبّب بإنهاء خدمتي قبل بلوغي سن التقاعد. وأنا الآن لدي عائلة تعيلني وهي في حال متردية.

وقال الصحافي للرجل السبعيني وللمرأة الستينية: لكن غالبية التوانسة أعطت «حركة النهضة» الفوز في الانتخابات أليست هذه هي الديموقراطية بالنتيجة؟

فعلق الرجل: أنت، يا سيد، تحاسبنا وكأننا متمرسون بالديموقراطية، كما الأوروبيين. نحن، يا سيد، لم نخرج بعد إلى الحرية. لقد حكمنا بورقيبة بحزبه عقداً بعد عقد، حتى بلغ سن العجز والخرف، ثم جاء «بن علي» يرث الحزب، والإدارة، «الجيش، والدرك، والمخابرات، وينشئ جمهورية فساد سياسي ومالي وإداري. وكما فعل بورقيبة راح بن علي يجدد رئاسته إلى أن أشعل ذلك البائع الفقير الجوال النار في ملابسه فاحترق «بن علي» سريعاً، هل تعتقد، يا سيد، أن ذلك الشاب الذي اشتهر بيأسه وبانتقامه الفظيع من الحياة، هو الشهيد التونسي الأول من أجل العدل والحرية؟.. اسمع، يا سيد، إننا نجل الـ «بو عزيزي». إنه فاتح ثورتنا التي لم تكتمل بعد. إلا أننا الآن في مواجهة مع وضع أصعب من الوضع الذي كان في زمن «بورقيبة» وزمن «بن علي». في ذلك الزمن كانت المواجهة بين الشعب ونظام الحكم المتجسّد بشخص الرئيس وزمرته. أما الآن فالمواجهة بين توانسة وتوانسة، في الشارع، وفي الأحياء، وفي البيوت.

وختم الرجل مودعاً الصحافي: اسمع، يا سيد، نحن نستورد كل شيء من الغرب الديموقراطي، لكننا لا نستطيع أن نستورد الديموقراطية… اسمع، يا سيد: إن غالبية العرب غير مؤهلة بعد للديموقراطية. وقال الصحافي للتونسي: عرب المشرق يرددون لشاعركم العظيم أبو القاسم الشابي قوله: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.

فعلّق التونسي: ونحن عرب المغرب نردّد نشيدكم التاريخي «بلاد العُربِ أوطاني.. من الشام لبغدانِ.. إلى مصرَ فتطوانِ..» سامحني.

* صحافي لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى