صفحات الحوار

من الشخصي إلى العالم الواسع: حوار في شأن الثورة السورية مع ياسين الحاج صالح


أسئلة لورا بيتل، من صحيفة التايم

س1 ـ أخبرني عن حياتك اليومية وأنت متوار: ما هي ظروف عيشك الحالية ؟ ما هو روتينك اليومي؟ كم ساعة تنام؟ بم تفكر عندما تستيقظ و عندما تذهب إلى النوم؟

أعيش في ظروف معقولة. أعتمد في دخلي على الكتابة حصرا، وهو لم يتأثر بالثورة، بل ارتفع بعض الشيء. وأقيم اليوم في مسكن جيد تتوفر فيه لوازم الحياة الأساسية. وأكتب خمسة أيام في الأسبوع على الأقل أشياء متنوعة، كلها عن الثورة السورية، منها مقالة أسبوعية في جريدة “الحياة”، وتقريبا مادة أخرى في الأسبوع تنشر هنا أو هناك. بالي منشغل دوما بما يتعين علي كتابته، كمقالات أو حوارات. أشعر دوما بضيق الوقت. وأقرأ كتبا ساعتين أو ثلاثة وسطيا. قبل الثورة كنت اقرأ كتبا نحو 6 ساعات في اليوم. لكن لم أكن أشاهد التلفزيون أبدا.

أنام كفايتي يوميا، بين 7 و8 ساعات. وأول ما أفعله هو متابعة الأخبار عبر التلفزيون والانترنت. أتواصل عبر الإيميل. وأتابع ما يقال على الفيسبوك، وأكتب على صفحتي تعليقات أو أنشر مواد مفيدة، ومنها فيديوهات وصور خاصة بالثورة.

ألتقي أصدقاء وناشطين وسياسيين معارضين بين وقت وآخر.

لكني لست بحال نموذجا وسطيا للثائر السوري. أنا أكبر سنا، وأحظى بتسهيلات متنوعة من واقع كوني معروفا بعض الشيء.

س2 ـ ما هو دورك في الاحتجاجات؟

بصورة أساسية أحاول تغطية الثورة فكريا، الكلام على جوانب لا تتطرق إليها التحليلات السياسية الظرفية. أكتب تحليلات سياسية أحيانا، لكنها ليست ما أحب عمله.

أساعد أيضا في الاتصالات، وفي تسهيل بعض الأمور.

س3 ـ هل شاركت بنفسك في الاحتجاجات في الشارع، أم انك تفضل لعب دور وراء الكواليس؟ منذ متى أنت متوار؟

تواريت بدءا من يوم 30 آذار، بعد خطاب بشار الأسد الأول. شعرت أني لا أستطيع البقاء في البيت وقول ما ينبغي علي قوله. مشاركتي الميدانية متواضعة جدا، وكانت بغرض الاستكشاف والاطلاع. أعمل بجد على تجنب الاعتقال. وأظن من أدواري المهمة البقاء في البلد، وتغطية شؤون الثورة. هذا مهم في نظر شباب الثورة.

س4 ـ هل تخشى من الاعتقال؟ ماذا يخيفك أكثر؟ ماذا يحتمل أن يحدث لو ألقي عليك القبض؟

أخشى بالتأكيد أن أعتقل، وأبذل جهدا لتفادي ذلك. سبق أن قضيت سنوات طويلة سجينا، وأعرف جيدا ما معنى السجن. وأكثر ما يخيفني هو طبعا التعذيب، وأن أعتقل دون علم أحد. لا أعرف ما يمكن أن يقع لي في مثل هذه الحالة. كل شيء محتمل في “سورية الأسد”.

س5- ما الذي يدفعك لفعل ما تفعله؟

أظنها اعتبارات أخلاقية أولا وثقافية ثانيا أكثر مما هي سياسية. العدل والحرية والحقيقة. تعرضت شخصيا لأشكال من التمييز منذ كنت مراهقا في الثانوية. ثم اعتقلت لوقت طويل، 16 عاما، وقضيت عاما إضافيا فوق الحكم الذي قضت به علي محكمة استثنائية، قدمت أمامها بعد 11 عاما وأربعة أشهر من الاعتقال. ولم أشعر يوما بالأمان بعد خروجي من السجن، وأتوجس من العواقب حين أتناول شؤون بلدي المتنوعة، موضوعي الأساسي دوما. ومحروم من جواز السفر، ولم أسافر إلى أي بلد في العالم، غير لبنان، قبل أن أمنع أيضا من زيارته منذ خريف 2004.

ليس هناك فرصة لعيش حياة أخلاقية أو لأن يصون المرء تكامله الإنساني أو يكون مستقل الضمير في ظل النظام السوري القائم منذ أكثر من 4 عقود.

إلى ذلك أتطلع إلى حياة ثقافية ناشطة في بلدي، أن يكون هناك نقاشات عامة، وأن نتناول مشكلاتنا الاجتماعية والثقافية والوطنية دون رقابة ذاتية ودون خوف من السلطات.

وحين أنظر في دوافعي الشخصية، يبدو لي أن أعمل على “تصعيد” sublimation)) نوازع الثأر والانتقام بالعمل من أجل التغيير العام في سورية, لا ينبغي أن يمر آخرون بما مررت به، وما مر به ألوف من جيلى.

س6 ـ هل أنت منخرط في أي من تشكيلات المعارضة؟

لست مرتبطا بأي تشكيل معارض. أنا أقرب لبعضها، للمجلس الوطني السوري، وأحاول أن أخدم، لكن لست عضوا في أي منها. تعنيني الأبعاد الثقافية والأخلاقية للعمل العام، وليس أبعاده السياسية. وأعطى اهتماما كبيرا لإتقان ما أقوم به من عمل كتابي، وليس لمجرد التعبير عن الموقف.

س7 ـ هل تشعر أنك على دراية بما يجري في أنحاء البلاد؟ كيف تتواصل مع الناس؟ هل ترى أن ما تحصل عليه من معلومات جدير بالثقة؟

أنا سوري، قضيت عمري كله في البلد، وأظنني أعرف السوريين بقدر معقول. ولم أقل يوما ما ينال منهم أو يطعن في جدارتهم الإنسانية أو الحضارية، حتى حين كان التعالي على عموم سكان بلدنا ومنطقتنا هواية منتشرة لكثير من كبار المثقفين وصغارهم. ولي أصدقاء في طول سورية وعرضها. لذلك أستطيع القول إني أعرف ما يجري وأفهمه، ولا يفاجئني الكثير فيه. لم أكن أتوقع الثورة حقا، لكن ثورتنا تشبهنا، وأظن أني أفهم كيف تسير الأمور، والحالة النفسية للجمهور المنخرط في الثورة ولقطاعات متنوعة من السوريين الآخرين.

أتواصل عبر الانترنت، أو مباشرة مع عدد محدود من الأصدقاء. وأتلقى معلومات من عدد لا بأس به من الناس، بعضهم لا أعرفهم شخصيا. وبعد تجربة طويلة، أظنني صرت أعرف المصادر الأكثر موثوقية، وأستطيع عموما التوثق من غيرها.

س8 ـ كيف تصف بنية المعارضة السورية والحركة الاحتجاجية؟ أين موقعك منها؟

أميز بين المعارضة التقليدية التي أنحدر منها، وهي تتوزع إلى علمانيين، يساريين وقوميين عرب في الأصل، وإلى إسلاميين. والمعارضة التقليدية هي التي واجهت نظام حافظ الأسد، وتعرضت لكثير من الاضطهاد، فقضى كثير من أفرادها سنوات في السجون، وتعرض أكثرهم منهم إلى التعذيب، وبخاصة الإسلاميون الذين أعدم ألوف منهم. وتشتت كثيرون من المعارضين التقليديين في المنافي العربية والغربية. ومن بقي داخل البلد كان فاقدا للفاعلية. وعموما فقدت المعارضة التقليدية زمام المبادرة السياسية منذ وقت طويل بفعل ما تعرضت له من قمع. وبعد خروجهم من السجون حرك السجناء السابقون العلمانيون الأجواء السياسية والثقافية في البلد (“ربيع دمشق” 2000-2001، وائتلاف إعلان دمشق 2005)، لكن يشكو أكثرنا من عقدة نقص حيال النظام وحيال المجتمع وحيال العالم، تجعلهم غير مؤهلين لتفعيل المعارضة الكامنة في البلد، التي أثبتت الثورة أنها واسعة جدا.

المعارضة الجديدة هي التي تشكل الثورة تعبيرها السياسي. هذه شبابية عموما، غير إيديولوجية، ومنخرطة في أوجه متنوعة من عملية الثورة، العمل الميداني والنشاط الإعلامي والنشاط الإغاثي والاتصالات، والنشاط السياسي أيضا بدرجة ما.

وعموما لا تجد المعارضة الجديدة ما يجتذبها في هياكل المعارضة التقليدية، وإن كانت تحترم بعض شخصياتها. وربما نال المجلس الوطني السوري شرعية شعبية لأن أبرز شخصياته ليسوا سياسيين معارضين في الأصل، بل هم مثقفون وكوادر غير حزبية وغير سياسية سابقا.

أنا أقرب إلى الثورة والمعارضة الجديدة، المجموعات الشبابية المشتغلة في مجالات إعلامية وفنية وثقافية بخاصة. لكن بعض أبرز أصدقائي الشباب معتقلون الآن منذ شهور.

س9 ـ هل أنت على اتصال مع المجموعات المنشقة من الجيش؟

ليسوا في متناول أمثالي.

س10 ـ ماذا ترى في شأن الحوار مع النظام؟

لا يمكن الوثوق بالنظام بأي شكل. وليس في تاريخه وفي بنيته ما يسوغ الوثوق به. فهو لم يعترف يوما بوجود أطراف سياسية أخرى في سورية، ولم يرتض يوما إلا أن يستأثر بـ100% من السلطة، ومثلها من الهيمنة على الإعلام ومصادر المعلومات، ومثلها من التحكم بالموارد العامة. وحتى بعد 8 شهور من الثورة، لم يعرض أدنى استعداد لتقاسم السلطة مع أحد، أو لإجراء انتخابات حرة فعلا. وهو ليس جادا أبدا في محاورة أحد.

المسألة ليست أننا نرفض الحوار مع النظام. المسألة أن النظام لا يحاور غير نفسه, ولذلك حاول في الشهور الأخيرة اختراع معارضين على صورته، وتسويقهم داخليا وخارجيا.

س11 ـ هناك تقارير واسعة الانتشار تفيد بتسلح متزايد للثورة السورية . هل هذا يتوافق مع ما تسمع به؟ هل تعتقد أن هذا أمر جيد؟

هناك شكلان لعسكرة الثورة التي لا يزال شكلها السلمي، مظاهرات يومية كثيرة متفاوتة الحجم، هو المهمين.

شكل أول يتمثل في تفتت الجيش من محيطه، وانشقاق مجموعات صغيرة، لكن كثيرة، منه. هؤلاء ينشقون لأنهم يرفضون إطلاق النار على الأهالي المسالمين، ومن المؤكد أن عددا كبيرا من العسكريين القتلى جرى قتلهم على يد القوات الموالية للنظام وأجهزة الأمن بسبب رفضهم إطاعة الأوامر، وإن كنا لا نعرف عددهم تماما. الجنود المنشقون يواجهون الجيش والمخابرات و”الشبيحة” (ميليشيات غير نظامية، تعتنق قضية النظام و/ أو تدافع عنه مقابل المال) في بعض المناطق مثل جبل الزاوية في الشمال ومدينة حمص ومناطقها في الوسط، ودرعا ومناطقها في الجنوب. وهؤلاء لا خيار لهم غير أن يواجهوا لأن مصير هو القتل حتما إن وقعوا بيد النظام. لكن الثورة كانت مدرسة لكثيرين منهم، وطوروا لأنفسهم عقيدة حماية السكان المدنيين.

الشكل الثاني هو الحماية الذاتية من قبل مدنيين لأسرهم وأحيائهم وبلداتهم، الواقعة تحت ضغوط هجمات متكررة من قوات النظام. وهذا ظهر بعد شهور من الثورة، ويبدو أنه يأخذ طابعا هجوميا في بعض مناطق حمص وريف دمشق.

ليس هذا تطورا محمودا من حيث المبدأ، لكن ليس من المناسب الحكم عليه بصورة مجردة. إذا لم تكن هناك حماية سورية للسوريين، ولا حماية عربية أو دولية، فستتجه أعداد متزايدة منهم إلى الحماية الذاتية. أما الجنود، فإن ما تعرضت له بنية الجيش السوري من ضغوط لا وطنية ولا إنسانية، لا بد أن تتسبب في تفتته وفي اضطرار أفراده إلى الدفاع عن أنفسهم ومواطنيهم.

س12 ـ البعض ينادي بالتدخل الأجنبي، من صنف حظر الطيران الخاص بليبيا. ماذا ترى أنت في هذا الشأن؟

هناك معضلة في مختلف المواقف من مسالة الحماية الدولية. فإذا رفضناها في كل حال كنا كمن يعطي حصانة للنظام. وإذا قبلناها فإننا لا نتحكم بمداها ومحصلاتها. هذا من وجه. ومن وجه آخر لا تبدو القوى الدولية المؤهلة لفرض حظر جوي في هذا الوارد حاليا، أما من يحتاجونه، مدنيون سوريون هنا وهناك، فلا يملكون ما يغري بفرضه. لكن ربما تأخذ الأمور منعطفا غير متوقع في وقت قريب، بعد صدور قرار الجامعة العربية بتعليق مشاركة وفود النظام السوري في اجتماعات الجامعة، واجتماع وزراء الخارجية العرب بمشاركة الوزير التركي في المغرب يوم 16/11.

س13 ـ كيف يضمن المجلس الوطني السوري تمثيل وجهات نظر السوريين العاديين؟

العملية صعبة جدا، خصوصا في ظل صعوبة التواصل المباشر مع الثائرين على الأرض، وكون معظم قيادات المجلس تعيش خارج البلد، وما يعيش منها في الداخل متوار أو لا غير معلن الهوية. المجلس يحاول التعويض عن ذلك باعتناق قضية الثورة، إسقاط النظام والعمل على توفير حماية دولية للمدنيين. وديناميكية سياسية تتحسن أكثر فأكثر على المستويين العربي والدولي.

وسيتعين على المجلس أيضا أن يخاطب الشعب السوري كله، ليس الكتلة الصامتة الكبيرة فقط، بل حتى الموالين حاليا للنظام، وبروح من الإيجابية والأخوة. هذا ما من شأنه أن يجعل المجلس مرجعية وطنية جامعة.

س14 ـ ما هي التحديات الرئيسية التي تواجه المعارضة الآن، إن من حيث المحتجين على الأرض أو من حيث الشخصيات السياسية؟

نال المجلس شرعية داخلية أكيدة بوصفه الذراع السياسي للثورة، لكن ليس له أن يركن إلى ذلك. فالثورة وضع متحرك سياسا ونفسيا واجتماعيا، وقد يخسر ما كسبه بسرعة إذا لم يعرف كيف يتحول إلى مركز قيادي للثورة. المجلس مطالب بالمساهمة في الجهد الإغاثي في بعض المناطق المنكوبة، حمص بخاصة، وبأن يسيطر على “الجيش السوري الحر” المكون من مجموعات الجنود المنشقين، ويوجهه نحو المصلحة العامة للثورة. وأن يكون له دور في توجيه الأنشطة الميدانية: اعتصامات، مظاهرات، إضرابات… المجلس مدعو أن يتصرف بإقدام كقيادة وطنية شرعية.

الصعوبة تأتي من جهة بعض المعارضين التقليديين. ومشقة التعامل مع هذا الضرب من الناس الذين أنا منهم هي من أهم أسبابي لتجنب الانخراط أي إطار سياسي منظم. لا بد من العمل مع هؤلاء بروح من الانفتاح والديمقراطية، وإن كنت لا أحب أن أكون في موقع من يضطر إلى ذلك. يظهر المعارضون التقليديون قدرا متميزا من الخراب الذي أحدثه النظام في المجتمع السوري، يتمثل بخاصة في الأنا المطلق أو غير الدستوري، الذي يعرضه كثيرون منهم، فيجعلهم غير قادرين فعليا على المشاركة في عمل عام إلا من موقع الصدارة. هذا الأنا هو الأساس السيكولوجي للطغيان.

س15 ـ لا يزال هناك أشخاص يؤيدون النظام، هل تعتقد بإمكانية إقناعهم ليتحولوا إلى جانبكم؟ ماذا سيحدث لو تعذر عليهم ذلك، سواء الآن أو في مرحلة ما بعد الأسد؟

هناك أكثر من تنويعة ضمن الموالين للنظام. بعضهم موالون ومتماهون به ومستعدون للدفاع عن النظام، وبعضهم موالون لكن غير مستعدين للدفاع عن النظام أو التضحية في سبيله، وبعضهم يخشون تغيير النظام ويفضلونه على غيره، لكن لا مشكلة عندهم لتغيير مواقفهم إذا بدا أن النظام ساقط لا محالة. التنويعة الأولى المكونة من قطاع واسع من علويي المولد، ومنتفعين مباشرة من النظام من أصول مختلفة، هي التي تطرح مشكلة جدية، لا بد من معالجتها. بخصوص النواة العلوية لا بد للثورة وممثليها السياسيين من الانفتاح عليها بروح الأخوة والمواطنة. ومن المؤسف أن لطول أمد الثورة دور في التخندق الطائفي وفي حوادث عنف طائفية وقعت في حمص واللاذقية. السقوط السريع للنظام ضروري من أجل وقف الانزلاق على هذا الطريق الخطر، وللحد من مخاطر تدمير واسع للبلد.

أما المنتفعين فلا بد من تجريدهم من سلطتهم وامتيازاتهم.

التنويعة الثانية، الموالون دون استعداد للدفاع عن النظام، وغير قليل منهم منحدرون من أقليات دينية ومذهبية، وعموم البعثيين والموظفين، فلا بد أيضا من ضمان مصالحهم، وعدم التعرض لهم في أمنهم وأوضاعهم الحياتية. وأكثرهم على كل حال ليسوا من أصحاب المكاسب والامتيازات.

أما التنويعة الثالثة، المولية بفعل عدم التسييس العام وقطاعات من الطبقة الوسطى التي تريد استقرار أوضاعها، فإن من شأن عودة الاستقرار أن تطمئن قلبها.

ولجميع السوريين، سيكون حاسما إرساء حكم القانون ضمانا للمساواة الحقوقية بينهم، وقطيعة مع النظام الذي قام على التعسف والقرابة والامتياز.

س16 ـ هل للاحتجاجات أيديولوجية معينة؟ ما هي، إن وجدت؟

لا، ليس لها إيديولوجية. السخط الأخلاقي هو منبعها. لدى السوريين الكثير من أسباب الغضب، المتصلة بالموقع المتدني لعموم الناس ولقيم العمل والعلم والابتكار في سلم القيم الاجتماعي بينما تتصدر قيم السلطة والثورة والامتياز. وللسوريين جميعا تجارب حية في رؤية أشخاص معدومي الكفاءة، ولا شأن لهم ولا كرامة يرتقون المراتب بفضل تزلفهم، بينما الأكفأ والأسمى خلقا ينزوي أو يهاجر أو يعتقل. ويستعير السوريون من القيم الأخلاقية العامة لغة للتعبير عن احتجاجهم، العدالة والحرية والكرامة، وقد تتلون أحيانا بلون ديني إسلامي عام. ويستخدم تعبير الدولة المدنية الديمقراطية على نطاق واسع لتعريف الهدف الذي تتطلع إليه الثورة.

س17 ـ أين موقع سورية من حركة الربيع العربي؟

كانت مشكلة السوريين والعالم العربي ككل الافتقار إلى مثال إيجابي يقتدى به. تركيا قريبة، ومثالها إيجابي منذ سنوات، لكن يقلل من شأنه الحاجز اللغوي. وبعد الثورة التونسية، ثم المصرية، وتفجر الثورات الليبية واليمنية والبحرانية، أي في بلدان تشبه سورية كثيرا اجتماعيا وثقافيا، وتتحكم بها نظم طغيان مشابهة (عدا البحرين، كلها “جمهوريات” يتهيأ حكامها المسنون لتوريث مناصبهم لأبنائهم)، وجد السوريون الساخطون أمثلة إيجابية تلهمهم، وتبشرهم بإمكان نجاح ثورتهم.

كان هذا قبل أن يرفع نظام القذافي كلفة التغيير بصورة هائلة، وقبل أن يظهر النظام تصميمه على أن لا يسلم السلطة إلا بعد أن يستنفد قدرته على التدمير.

رأيي أن مصير الربيع العربي مرهون باستكمال التغير في سورية. ليس هناك احتمال لأن ينتصر النظام في تقديري، لكن يخشى من خراب واسع لا تتعافى سورية منه إلا بعد سنين طويلة.

س18 ـ هل هناك نظائر تاريخية للوضع الحالي في سورية؟ هل تستلهمون حركات أخرى في التاريخ؟

في تاريخ سورية المعاصر، وليس لسورية الحالية تاريخ غير معاصر، ليس هناك ما يشبه الثورة الحالية. الميزة الجوهرية للثورة السورية، والثورات العربية عموما، أنها موجهة ضد النظام السياسي وعلى أرضية قيم إنسانية عامة. في تاريخنا ثورات ضد مستعمرين أجانب، وفيها صراعات على السلطة وعلى أرضيات إيديولوجية محددة. لكن ثورة على الطغيان، ومن اجل الحرية والعدالة والمساواة، شيء جديد وعظيم. لا أتوقع ثمارا يانعة سريعة، لكن أرى أن هذه الثورات من الأحداث التاريخية العظيمة، التي أرجح أن تتمخض عن نضج دولنا ورسوخها أكثر مما عن “الديمقراطية”. ستكون دولنا أقل طغيانا، لكن أقدر أنه ستلزم صراعات إضافة من أجل الديمقراطية.

س19 ـ ما هي رسالتك إلى السياسيين في أوروبا، في أمريكا، وفي العالم؟

هل يعيش قادة الغرب السياسيون في عالمنا هذا نفسه؟

أظنهم مفتقرون إلى حس العالمية والحس التاريخي معا. أنانيون، يعرفون أشياء قليلة، وتوجههم مصالحهم الانتخابية الضيقة، والمركزية الغربية المتأصلة في تفكيرهم.

لكن الرأي العام الغربي في حاجة إلى أن يدرك إلى أن من شأن هزيمة الثورة في سورية ومحاصرة الثورات العربية أن ترفع نسبة الرجعية والفساد والتعصب في العالم، وفي الغرب مثل غيره. من شأن انخراط إيجابي للعرب في عالم اليوم أن يكون دفعة إيجابية لهذا العالم ومساهمة في تجديد شبابه.

وللروس والصينيين: سورية ليست صندوقا أسود. هناك بشر فيها يكافحون من أجل الحرية والعدالة، وهم لا ينتظرون منكم أن تحلوا مشكلاتهم، بل فقط أن لا تقفوا في وجههم، وإلى جانب مضطهديهم.

وللجميع، إن العالم سيكون مكانا أسوأ إذا هزم السوريون أو سحقوا، لأن ثورتهم إنسانية قبل كل شيء آخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى