صبر درويشصفحات سورية

من الكسوة إلى زملكا.. ياسمين يضيء العتمة

 

دمشق ـ صبر درويش

.. نحن شاركنا في ثورة شعبنا، من منطلق كفانا جلوساً بعد اليوم، كفانا حديثاً حول أننا لا نستطيع فعل شيء، نحن اليوم نناضل على عدة جبهات مجتمعة: نناضل ضد نظام سياسي لم يفعل شيئاً سوى قهرنا وقمعنا، ونناضل ضد تخلف زرعه فينا النظام عبر عقود حكمه السابقة، ونناضل ضد أخطائنا وأخطاء الثوار جميعاً، نحن الآن موجودون في ساحة الفعل، ولا شيء يستطيع اليوم أن يلغي هذا الوجود.

لا تقتصر ثورة الشعب السوري اليوم على اسقاط نظام سياسي، لم يعد مقبولاً لدى أغلبية أفراد المجتمع السوري، بل إن الثورة تجاوزت ذلك، إذ راحت تنطوي على فعل تغيير تاريخي، يصح أن نسميه تغييراً جذرياً. فالثورة السورية أعادت الاعتبار للفرد ما إن حولته إلى فاعل اجتماعي، فساوت بين الجميع على أساس هذه الفاعلية بالتحديد.

وكسائر المدن السورية المنتفضة اليوم، تزخر مدينة الكسوة في ريف دمشق، بالنشاطات الثورية، والتي غالباً ما لعبت المرأة فيها دوراً حاسماً، ناشطات ثوريات يقلن إنهن بتن جزءاً أساسياً من مكونات الثورة. “فالثورة لن تنجح من دون مشاركة المرأة الفعالة بها” تقول خديجة.

فاليوم ينظر إلى المرأة السورية المشاركة بثورة شعبها، مثلها مثل الرجل، لا على أساس مساواتي، بل على أساس الفاعلية؛ وهو مكتسب حققته المرأة السورية في ظل الثورة، نتج عن انخراطها الفعال في هذه الثورة.

خديجة واحدة من الناشطات المهمات في مدينة الكسوة، شاركت في الثورة منذ أيامها الأولى، ومازالت مصرة على الاستمرار، حيث تحدثنا “كانت حياتنا مختزلة إلى الزواج وإنجاب الأطفال، كنا ربات بيوت بالمعنى الدقيق للكلمة، وكثيرات منا لم يكن يسمح لهن بإكمال تعليمهن، ومن تعلمت وتخرجت من الجامعة، كانت تكتفي بتدريس أطفالها، كان واقعاً بائساً ومريراً، على هذا الواقع بالتحديد ثرنا وشاركنا إخواننا في ثورتهم.”

إن المراقب الحصيف لسياسات الأسد عبر العقود الماضية، يستطيع أن يلاحظ حجم التخريب المتعمد الذي جرى على المجتمع السوري. فسياسات الأسد لم تفعل شيئاً سوى تفكيك بنية المجتمع وتخلفه، وهي سياسة كانت كفيلة بضمان استمرار سيطرته على المجتمع طيلة العقود الماضية؛ بيد أن الزمن تغير اليوم، تقول خديجة: نضالنا اليوم ليس ضد النظام وحسب، وإنما أيضاً ضد ما زرعوه فينا عبر أربعين عاماً، فيما مضى كنا أشبه بقطيع، يسوقوننا كيفما شاؤوا، بينما اليوم نشعر أننا أصبحنا حرات، فالثورة فجرت أجمل ما في أعماقنا من طاقات، ومن حالات إبداعية، نحن اليوم نعيد صياغة تاريخنا ليس من موقع الضحية، وإنما موقع الفاعل في هذا التاريخ، وهو شيء يجعلنا نشعر بالفخر.

وتتابع خديجة بالقول: ليست الحرية بالنسبة لنا هي إسقاط النظام فقط، بل إن المسألة تتعداها إلى استعادة فاعليتنا الاجتماعية كباقي مكونات المجتمع، نحن لسنا نصف المجتمع، نحن المجتمع بقدر ما الرجل هو المجتمع أيضاً.

تتنوع نشاطات نساء الكسوة الثورية بدءاً بالتظاهر والاعتصامات الميدانية، مروراً بالتجهيز للتظاهرات من كتابة اللافتات وحياكة أعلام الثورة.. إلخ، وصولاً إلى إجراء الاسعافات الأولية للجرحى والمصابين. فهي بذلك موجودة في كل مجالات الثورة المتاحة؛ دخلنا إحدى ورش العمل الخاصة بالتجهيزات، عشرات الناشطات يفترشن الأرض ويعملن بهمة عالية، هناك من يعمل على كتابة اللافتات التي سترفع في التظاهرات، وبعض الناشطات اللواتي يقمن بأعمال يدوية تحمل بصمات الثورة كالميداليات وغيرها، وبعضهن الآخر يقوم بحياكة الأعلام. تقول إحداهن: أشعر بفرح غامر وأنا أقوم بهذا العمل، أكاد اصرخ: أنا أعمل هنا إذاً أنا موجودة.

كل شيء في المكان بسيط حتى التداعي، إلا أن الحاضرين جميعاً يدركون أنهم باتوا جزءاً أساسياً من الحدث وليسوا ملحقين به.

تحدثنا روان وهي معتقلة سابقة عن تجربتها: تقول في بداية الثورة كنا عبارة عن مجموعة صغيرة من الناشطين من شبان وشابات، وكان عملنا يقتصر على النشاط السياسي داخل العاصمة دمشق، كنا نخشى العمل داخل مدينتنا خوفاً من ألسن الناس المحيطين بنا، واعتقلت أنا وزملائي على هذا الأساس، أي كوننا معارضين للنظام، في المعتقل وجه لنا المحقق تهماً أخلاقية كوننا نعمل ذكوراً وإناثاً، وسألنا متهكماً: هل هذه هي الحرية التي تريدون؟ لم أتعرض للتعذيب في تلك الأثناء، ولكن الشبان الذين كانوا معنا تعرضوا لأشد أشكال التعذيب، كنت أشعر أنهم يحاولون استغلالنا والضغط علينا من خلال ذلك، لقد كان الوضع مأسوياً بكل المعاني، كانت الحياة تتقلص أمامي، وكنت أشعر بالعريّ، وكل هذا لم يزدني سوى تصميم على ضرورة رحيل هذا النظام المجرم واسقاطه.

تختم خديجة بالقول يكفينا شرف الموت ونحن في صفوف الثورة الأولى على أن تنتهك كرامتنا ونحن قابعات في بيوتنا، مكتفيات بالصراخ والعويل، فهذا الزمن ـ زمن الخوف ـ ولّى ولن تعود ظروفه.

زملكا.. بوابة الصمود

إلى جانب جامع التوبة، تبدو آثار السيارة المفخخة التي اقتلعت الرصيف الموازي للجامع، والتي أودت بحياة أكثر من مائة وستين شخصاً، في مجزرة زملكا، المدينة الواقعة إلى الشرق من العاصمة دمشق، والآن تبدو الحياة هادئة، والبيوت ساكنة كما ودعها سكانها.

في شارع الإتحاد المؤدي إلى إحدى ساحات المدينة، تشاهد “غسالةً” تلوح لك ببابها من بعيد، على ارتفاع خمس طوابق، فقد شطرت قنبلة فراغية البناء إلى نصفين، هوى الأول، وفي الثاني وجدت غرفه نفسها في مواجهة الشارع؛ وعندما تقف في مواجهة البناء المتحطم تواجهك غرف السكان كما تركوها؛ لا تزال ملابسهم في مكانها وحتى الأواني التي وضع فيها الطعام، لا تزال في مكانها، لا شيء تغير، سوى أن السكان اختفوا من تفاصيل المشهد.

يقول أبو صلاح، وهو واحد من ثوار المدينة: “في الاقتحام الأول لزملكا، هربنا جميعاً، وعندما عدت فيما بعد، كانت قوات الأسد قد اقتحمت منزلي، كان باب البيت مكسوراً، والفوضى تعم المكان، حزنت، حتى أنني بكيت يومها، إذ أنني لم أعتد أن ينتهك خصوصيتي أحد؛ في الاقتحام الثاني للمدينة، عدت وكان البيت محطماً بالكامل، كنت أرى أشياءنا متناثرة في كل مكان، بينما قوات الأسد لم تترك شيئاً تستطيع حمله إلا وسرقته، وما لم تتمكن من سرقته حطمته بالكامل بفعل انتقامي واضح، ضحكت.. لا أعرف السبب بالضبط، لكنني كنت أعرف تماماً أن القرار الجماعي كان اتخذ في أثنائه: لن ندع قوات الأسد تدخل المدينة مرةً أخرى”.

دمرت قوات الأسد مدينة زملكا بمنهجية قل نظيرها، قصفت خزان المياه الرئيسي، الواقع إلى الجنوب من المدينة، كما تم استهداف محولات الكهرباء الأساسية، أما قوات الأسد العسكرية، فسترابط على مداخل المدينة، مانعةً دخول السلع الغذائية وغيرها.

كل هذا الحصار والدمار المرافق له، سيدفع بالسكان إلى النزوح عن مدينة تفتقد إلى المقومات الأساسية للحياة، سيغادر أكثر من ثلثي السكان، مخلفين وراءهم بيوتهم وأشياءهم، حين غادروا على عجلة من أمرهم.

تبدو شوارع المدينة اليوم، شبه خالية من السكان، ولا شيء في الشوارع غير الركام، ريح شتوية تهز الكابلات الكهربائية التي قطعتها القذائف، وتنثر ملابس من رحلوا بعد أن خُلِّعت أبواب بيوتهم ونوافذها. بينما الموت يتربص في كل منعطف.

من بعيد، تطل علينا مئذنة جامع الرضوان، شامخةً بعد أن أصابتها قذيفة دبابة، شاهدةً على حقد من مرّوا من هنا. من هنا مرّت قوات الأسد، يقول الزجاج المتناثر على الأرض في حارة الشوام، من هنا مرّوا، تقول النوافذ المخلّعة إثر قصف طائرات الميغ، بينما ألعاب الأطفال المتناثرة في كل مكان، فتقول نحن عائدون ولو بعيد حين.

بيد أن المشهد السابق بكل ما يحمله من وجع، لم يمنع الثوار الشبان من الحلم بغد مختلف، حيث يجد الحلم متسعاً كي ينمو بين الركام.

يقول أبو عدي أحد شبان المدينة: “خرجنا من أجل إسقاط النظام، وأنا لا أعلم بالضبط ملامح مشروعنا البديل، بيد أنني أعلم تماماً أن هذا البديل سيحقق العدالة التي ننشد”.

يتحدث أبو عدي عن دولة إسلامية، وتبدو اللوحة بالنسبة إليه مشوشة قليلاً، فهو يدرك القيمة الحاسمة للعدالة الاجتماعية، والمفقودة في معادلة حكم الأسد، بيد أنه غير متأكد بعد من طبيعة حاملها السياسي.

يبدو أبو ثائر – أحد قادة الثوار – أكثر نضجاً ووضوحاً، يقولها علناً: نريد بناء دولة مدنية، تتيح إمكانية التعايش السلمي بين مكونات المجتمع السوري جميعها؛ ويرفض التطرف بكل صيغه، معللاً ذلك بأن المجتمع السوري، والشامي بشكل خاص، لم ينتج تيارات متطرفة عبر التاريخ.

يتجادل الثوار حول أدق التفاصيل، إذ خلف خطوط المواجهة اليومية بين الثوار وقوات الأسد، تكثر الأحاديث والسجالات بين الشبان، حول البديل المقترح، وحول ما هو أفضل لسوريا، هناك خلف خطوط المعركة تبدو ثورة الشعب السوري بخير.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى