صفحات الثقافة

من المترجم الفرد إلى المشروع الثقافيّ/ ثائر ديب

 

 

لا نقول الشيء الكثير حين نقول إنَّ اختيارات المترجم الفرد ليست اعتباطية ولا رهن المصادفة، مهما كان الدور الذي يلعبه الاعتباط والمصادفة في هذا الشأن. ومع أنني أعلم حالات لم يكن يتوفّر فيها للترجمة إلا أقلّ الكتب، سواء بسبب ستار حديدي يشكّل سدّاً أمام الاحتكاك بالثقافات الأخرى أم بسبب انعدام القدرة على شراء الكتب أم بسبب وجود المترجم في المعتقل أم سوى ذلك الكثير، إلا أنّ عملية اختيارٍ، ولو بين كتابين فحسب، كانت تتمّ في جميع الأحوال.

ما دمنا نتكلم على «اختيار»، فإننا نتكلم على جماع تكوين المترجم الفرد الثقافي والنفسي، ووضعه الاجتماعي، وثقافته، والبنيّة الاجتماعية الاقتصادية التاريخية التي تقف وراء ذلك كلّه، فضلاً عن العلاقة بين ثقافتين على الأقلّ، المُترجَم منها والمترجَم إليها، وما يحكم هذه العلاقة من موازين قوى لغوية واقتصادية وسياسية بل وعسكرية. فالترجمة ليست تلك العملية الرائقة التي يقوم بها فرد معزول، وما يضعه أمامه من كتب ومعاجم إنّما يشير إلى علاقات قوّة لا تلبث أن تبين ما إن نحكّها قليلاً فحسب. وبذلك لا تقتصر الترجمة على كونها جسراً بين الثقافات ولا تبادلاً طوعياً بين اللغات في حالٍ من الحياد السياسي، بل تتعدّى ذلك إلى أنها ترتبط بالتجارة والفَتح بوصفها ممارسةً للعنف، على حد قول المفكر والمؤرّخ الهندي راناجيت غُهَا.

مفاضلات

لا يقف أمر اختيار ما يُتَرْجَم، إذاً، عند تفضيلات المترجم الفرد التي ترتبط بتكوينه الثقافي والنفسي وخبرته وأيديولوجيته وموقعه الاجتماعي، بل تتخطّى ذلك إلى تفضيلات الثقافة السائدة ومصالحها وتحيّزاتها وأيديولوجياتها. وعادةً ما يتكشّف ذلك كلّه على نحو خاص في عمليات التكليف بالترجمة التي توكلها جهات النشر المختلفة إلى المترجمين، حيث تسود بلا منازع ترجمة الروايات الخفيفة والكتب السياسية المرتبطة بالظواهر الآنية وأشياء أدنى بكثير، أي ترجمة الكتب الأكثر رواجاً (best sellers) لا ترجمة الكتب التي تقضي الدراسة العلمية المنهجية بأنّ الثقافة والمجتمع يحتاجانها أشدّ الاحتياج. بيد أنّ الكلام على ثقافة سائدة ومصالحها يشير بالتضاد إلى ثقافةٍ مقاومةٍ لم يَخْلُ منها مجتمعٌ يوماً. وإذا ما كانت الترجمة، على ما يقول دوغلاس روبنسون، مرتبطة بالقوة والسلطة واستُخْدِمَت للسيطرة على الشعوب المُسْتَعْمَرَة و«تعليمها» وتشكيلها عموماً؛ فإنها تبقى فى الحاضر منغمسةً فى تعقيدات ما بعد الاستعمار السياسية والثقافية، حيث تؤدي الدور السابق كما تؤدي دوراً واضحاً بوصفها قناة مهمّة للمقاومة وتحرر العقول والأجساد. ومثل هذا التجاذب بين السيطرة والمقاومة اللتين تتنازعان الترجمة يقتضي من الترجمة المقاومة وعياً بموقعها، ومن المترجم المقاوم الفرد وعياً بدوره، الأمر الذي يقتضي رؤية إلى الترجمة بوصفها تتجاوز الاختلاف بين اللغات، والمصاعب التي تكتنف نقل الرسائل من لغة معينة إلى نظام نحويٍّ وتداوليٍّ جديد فى لغةٍ أخرى، لتصل إلى الاعتبارات الثقافية والمعايير الأيديولوجية وأنظمة القوة الاجتماعية والسياسية.

تندرج معظم الأعمال التي قمت بترجمتها في إطار الدراسات الفكرية النقدية. ولطالما كنتُ مقتنعاً، ولا أزال، بأن أكثر ما تحتاجه الثقافة العربية هو الدراسات العلمية والفكرية والمعرفية النقدية، من دون أن ينتقص ذلك من أهمية الأدب بشتى أنواعه. ومع أنّ المقام لا يتّسع لتناولٍ مفصَّل للكيفية التي أمكن بها التوفيق بين قناعتي وسوق النشر، والمصاعب الكأداء التي اعترت ذلك، فإنّي لن أمرّ على هذا سريعاً من دون أن أقول إنَّ الصبر ووعي المرء قضيته، في تضافرهما مع حسن أدائه وتضامنه مع الذين يشبهونه، كفيلان بفتح ذلك الحيّز الخاص بالترجمة المقاوِمة النقدية في تلك السوق. وتنبع أهمية الصفة النقدية التي شغلني ويشغلني تعزيزها لديّ ولدى جمهور القرّاء في الثقافة العربية من أنَّ النقد هو مصدر إنتاج المعرفة وإعادة إنتاجها. وهو الذي يضع على المحكّ، في سياق إنتاجه المعرفة، ما يظن الحسّ السليم أو الفهم الشائع أنه يقيني وصحيح. وباختصار، فإنَّ مثل هذه الروح النقدية التي تفتك بالبديهيات المطمئنة هو، في رأيي، أشدّ ما تحتاجه ثقافتنا العربية في تبعيّتها من جهة وفي تمحور معظمها على الماضي بعقلية الماضي من جهة أخرى.

يفترض مثل هذا الاختيار المعرفي النقدي محاولة المترجم تلبية أبعاد الترجمة المختلفة، اللغوية والمعرفية والنقدية. وفي حين يقتضي البعد اللغوي معرفة اللغتين في بنيتيهما وتطورهما وإتقان مهارات الكتابة…الخ، يقتضي البعد المعرفي معرفة الموضوع وسياقه الثقافي والتاريخي وسياق كاتبه الاجتماعي والفكري وظروف كتابته وجمهور المتلقين المستهدَف…الخ. أمّا البعد النقديّ فيرتبط بمدى الجهد الذي بذله المترجم في تكوين موقع فكري وزاوية نظر خاصة ومدى وعيه لكلّ ذلك، الأمر الذي يمكنه من أن ينطلق من هذا الموقع للاختلاف او الاتفاق مع ما يترجمه وتحديد مدى الفائدة التي يمكن استخراجها منه إذ يوضع في سياقه الجديد. ومثل هذه الأمور أو الأبعاد، إذا ما وُجِدَت، لا بد أن تتجلّى في سطور الترجمة وخلفها، وفي هوامشها ومقدماتها. فالغاية في النهاية هي تجاوز الرواية إلى الدراية المحرضة على الإبداع.

الفرد المعزول

معلومٌ، بالطبع، أنّ النهوض بما سبق لا يتوقف على المترجم الفرد المعزول مهما تكن براعته. وعملية الترجمة، مهما تكن، هي عملية ثقافية واجتماعية متعددة الأطراف. ولا يتوقف اختيار ما سيُتَرَجم على المترجِم في أكثر الأحيان، بل يتجاوزه إلى الناشر على الأقلّ، سواء كان ناشراً خاصاً أم عامّاً. بل إنَّ الترجمات الهامّة وذات الأثر غالباً ما كانت مرتبطة في تواريخ الثقافات، ومنها تاريخ الثقافة العربية والإسلامية، بمشاريع كبرى، مثل الاستعمار والنهضة والاستقلال والتنمية إلخ. وفي مثل هذه اللحظات تبدو الترجمة واختياراتها كما لو أنها مساهمةٌ في الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها هذه المشاريع وجهدٌ على طريق تحقيق تطلعاتها. وتشير التجارب إلى أنَّ ما تقتضيه مثل هذه اللحظات كضرورة هو وجود مؤسسات للترجمة لا مجرد دور نشر خاصة أو تابعة للدولة تنشر الترجمات (نتذكّر هنا «بيت الحكمة» أيام المأمون، و «مدرسة الألسن» أيام محمد علي)، مؤسسات تجعل الترجمة ككلّ، لا اختيار ما يُتَرْجم فحسب، ذلك المشروع المتكامل الذي يقتضي وضع الاستراتيجيات والخطط العملية وعمل الفريق والمتابعة.

لقد فات اللغة العربية أن تترجم كثيراً من أمهات الكتب الضرورية في معظم المجالات، وهذا وحده دورٌ شاقٌ على الأفراد، وعلى المؤسسات الصغرى، فما بالك بأن تُضاف إليه ترجمة الفكر العلمي النقدي، والمناهج الحديثة، والمنظومات الكبرى، وما يستجد في كلّ ذلك، فضلاً عن الآداب وسواها. مثل هذا يجب أن تقوم بقسطه الأكبر مؤسسات ومشاريع كبرى تتخطّى ما هو قطري إلى ما هو عربي عموماً، وذلك بدلاً مما ووصفه د. جابر عصفور بالعشوائية والتشرذم وغياب خطة قومية تشمل الاقطار العربية. ومن الواضح أنّ كل هذا يستدعي دور الدولة الوطنية قومية التوجّه التي بات وجودها ومستقبلها محل شكوك عميقة في السنوات الأخيرة التي اندلعت فيها لا ثورات الحرية والكرامة والخبز وحدها، بل الصراعات المرتبطة بسياسات الهوية والإرهاب والتكفير أيضاً.

لقد أمكن الجمع في تاريخنا العربي مرّات بين خيارات المترجم الفرد وتفضيلاته وضرورات الثقافة ومؤسساتها، بين وعي الفرد العلمي النقدي ووعي المؤسسة والمشروع الاستراتيجي المستدام. لا ينتقص من ذلك قصر أعمار المشاريع التي لمعت ولم تلبث أن خبت. كما تؤكّد عليه بعض النقاط المضيئة التي لا تزال كالمشروع القومي للترجمة في مصر، والمنظمة العربية للترجمة في بيروت، ووزارة الثقافة في سورية، ومشروع كلمة في ابو ظبي، ومؤسسة عالم الفكر في الكويت، مع أنَّ هذه الجهود لا تكفي وتُعَدّ أضعف من أن تواجه التحدي، ذلك أنَّ حركة الترجمة إلى العربية تبقى بالغة الضعف والوهن قياساً بالإنتاج العالمي للمعارف والعلوم والفنون والآداب.

ثمّة تقصير فادح في دعم الترجمة إلى العربية والتشجيع عليها. ولعل كلمة التقصير لا تعبّر عن فداحة الأمر، تلك الفداحة التي لعلّها تبلغ حدّ طرح السؤال عما إذا كانت الثقافة العربية، ومعها العرب، تريد أن تعيش في العصر أم تريد العودة إلى الماضي المجيد.

قبل أن تغدو حركة الترجمة سليمة، وفي مقدمة ذلك خياراتها العلمية والنقدية، يصعب الكلام عن واقع ثقافي صحي. الترجمة وخياراتها عَرَض واسم وعلامة دالّة في السرّاء والضرّاء.

(كاتب سوري)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى