صفحات الرأي

من المثقف إلى المفكر… وبالعكس/ فهمي جدعان

 

 

 

في معركة النهضة والتقدم العربية الشاخصة منذ أواسط القرن التاسع عشر إلى أيامنا، يحتل “المثقفون” مكانة فذّة، على الرغم من أن الذين نهضوا للنظر في أعمالهم – ومن بينهم: ألبرت حوراني وأنا أيضا وآخرون – تعلّقوا بنسبة فريق منهم إلى “الفكر العربي”، ونعتوهم بـ”المفكرين”. وفي زمننا الراهن يذهب بعض الباحثين إلى أن يتبيّنوا في جمهرة المثقفين أصنافا: فثمة “المثقف العضوي” على طريقة غرامشي، وثمة “المثقف المعرفي” التقليدي، وثمة “المثقف الشبكي” الميديائي الذي يروّج له الكثيرون اليوم. والإجماع منعقد على أن هؤلاء “الجنود” هم الذين يحملون “الهم العربي” وبهم يُناط آمِرُ التحرر والتحرير والخروج من النفق.

بكل تأكيد، أنا لن أكرر معزوفة النقد والتشهير والتقصير والإخفاق التي يُلحقها كثير من أصحاب “مقالات الرأي” في حق هؤلاء المثقفين. وأنا نفسي أقدمت على ذلك في وقت من الأوقات، ويروق لي أن أعود إلى مثله في بعض الأحيان بسبب ما أشهده من عوارض ثقافية منفّرة أو طاردة عند هذا “المثقف” أو ذاك. وما أقصد إليه هنا أبعدُ من ذلك وأخطر.

فأنا ألاحظ وأرى، مع كثيرين آخرين، أن “حصاد الفعل الثقافي” العربي المجدي يبعث على قدر عظيم من خيبة الأمل، وأن بعض هؤلاء الآخرين يغلو في النقد والجرح ويجرّد هؤلاء المثقفين من أية قيمة. أنا لا أذهب هذا المذهب. لكنني أعتقد أن المشكلة الرئيسة التي يثيرها “وضع” المثقف العربي تكمن في أنه يضع نفسه “في غير محله”، وأنه يمارس فعلين في آن واحد: فعل التفكير والمفكر، وفعل طلب التغيير الجذري في الأغلبيّ من الأحيان. هذا من وجه، ومن وجه آخر هو يتوسل في الحالتين بما سمّاه أفلاطون “الظن” أو بما سماه ابن رشد، من بعد أرسطو؛ “القول الخطابي” لا القول “البرهاني” الذي هو فضيلة المفكر، أو الفيلسوف، أو العالِم. فـ”القول الثقافي” قول يصدر، في ماهيته، عن الرغبة والإرادة والظن والحساسية العاطفية وارتكاسات “الذاتية”، وقَلّ أن يؤسس مقولاته وقضاياه ومقاصده على آليات معرفية، علمية أو فلسفية، رصينة، يقينية، كافية. أي أن المثقف، سواء أكان عضويا أم معرفيا أم شبكيا، لا يملك كامل الجهاز العلمي والفلسفي والمعرفي -الموضوعي – من أجل أن يفي بشروط ومطالب القضايا التي ينهض للدفاع عنها أو تسويغها أو معالجتها أو إذاعتها.

لهذا السبب نلاحظ أنه مستغرق في “استيهامات” الرغبة والإرادة وطلب النتائج السريعة، وتغليب “الأهواء” – أو “الهوى” ، بحسب أبي بكر الرازي والعقلانيين – على العقل. ولهذا أيضا تستبد بأقوال المثقفين “الخطابية”، “الشطحات الفكرية”، و”الآراء الهوائية” التي تنفلت عن “طبع” ينبغي زمُّه وكبح جماحه ورده إلى حدود العقل والعلم. والالتزام بحدود العقل والعلم والمعرفة “المؤسَّسة” التي هي أقرب ما تكون إلى اليقين، هو ميزة “المفكر” وخاصته الرئيسة. وهذا الذي نسميه “المفكر” هو امرؤ يجمع بين قواعد مركزية أساسية، هي: العلم، والفلسفة، والخبرة، والمعرفة الشاملة. فالإدراك العقلي والوعي والتحليل المستقصي والنقد، والإحاطة بجملة العناصر المقترنة بموضوع النظر والاقتراح.. هي المبادئ والأسس التي توجّه فعاليته “الفكرية”، المقودة، قبل أي شيء آخر، بطلب “المعرفة اليقينية”، و”الوعي الخالص”، أي المجرد عن بواعث الرغبة والإرادة والهوى.

هل معنى ذلك أن “المفكر” لا يأبه ولا يُعنى بمبدأ أو بمقصد “التغيير”؟ وأن وظيفة المفكر هي وظيفة “مجردة” مثلما هي الحال في الأنطولوجيا أو الميتافيزيقا في الفلسفة النظرية؟ وأن المفكر – ونحن هنا في قبالة المفكر العربي الشاهد لعالم مأزوم على حافة الخطر – هو في حالة “استقالة” في قبالة التحولات ومعركة المصير؟

ينبّهنا هذا السؤال على أن ثمة “خلطا” صارخا بين مفهوم المفكر وبين مفهوم المثقف، فضلا عن سوء تقدير وتحديد لوظيفة كل منهما، ولما يترتب على ذلك من أحكام غير سديدة تطال المفكر بالذات. يستنفرني ما جاء في إحدى “مقالات الرأي” لواحد من “المثقفين” هذا التقدير لما سمّاه “المفكر العربي” الذي في اعتقاده، في الإجمال، “فقد شجاعة التساؤل والتحدي والاندماغ في الحدث الذي يتهدده، وبات لا يفتش عن أكثر من مدى لشخصه يستريح فيه، ويسد حاجاته المادية و”المعنوية” فقط، وبأساليب هي غاية في الأنانية والمنفعة والتبلّد. توقف طموحه عند هذه الحدود، والأمور بالنسبة إليه باتت مرشحة للاستمرار في هذا النهج الحياتي الجديد. بمعنى أعم يمكن القول إن المفكر العربي استقال من موقعه، واصطنع الفراغ، ليضيف إليه فراغا لا يكلفه شيئا. إنه إذن يبدو فاقدا لإحساسه بالأشياء وتطوراتها من حواليه، وذلك مهما كانت جذرية ومصيرية تمس حياته وحياة شعبه أو أمته. وموت الحس معناه، في النهاية، أن المرء لا محالة في الطريق إلى الموت الكلي” (العربي الجديد 22 فبراير/ شباط 2016).

قد يكون هذا القول، في الإجمال، صحيحا، لكنه بكل تأكيد لا يلحق بـ”المفكر العربي” إنما ببعض “المثقف العربي”. ذلك أنني أعلم حق العلم أن الذين ينطبق عليهم هذا الرسم، رسم “المفكر العربي” من أمثال: المهدي المنجرة وعبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وفاطمة المرنيسي، ومحمد عزيز الحبابي، وكمال عبد اللطيف، وطه عبد الرحمن، وعبد الإله بلقزيز من المغرب، وهشام جعيط، وعبد المجيد الشرفي والمنصف المرزوقي.. من تونس، وحسن حنفي وفؤاد زكريا وسيد ياسين.. من مصر، وناصيف نصار وعادل ضاهر ورضوان السيد وجورج قرم.. من لبنان، وإدوارد سعيد وعزمي بشارة وفيصل دراج وأنا نفسي من فلسطين، هم جميعا ممّن لا يمكن إطلاقا “إسباغ” هذه “المحمولات” الضالة عليهم، أو نسبتهم إلى “التبلد” والاستقالة! وهي إذا ما كانت تصدق على أحد فإنها لا تصدق إلا على “عصبة” من المثقفين لا عليهم جميعا.

أما “المفكر العربي” الحقيقي الأصيل فإنه ينطلق بجهازه المعرفي الشامل الذي يمتح بشكل خاص من العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، ومن التفكير العلمي والفلسفي في القضايا الجوهرية التي تغزو عالمه المشخّص وتتطلب تفكيرا عقليا موضوعيا يفضي إلى إنارة هذه القضايا وتحليلها و”البرهنة عليها” بالأدلة والحجج “الموثوقة” – بقدر ما هو في الإمكان -ويسهم في تأسيس وتشكيل استراتيجيات معرفية دقيقة – بقدر الإمكان – تفضي عند الأخذ بها وتطبيقها إلى إدراك “تقدم” حقيقي في جملة أحوال الوطن والمواطن والمجتمع والدولة. وعودا إلى السؤال الذي أثرته قبل قليل في أمر وظيفة المفكر بعد ذلك، وهل هي وظيفة نظرية مجردة فقط أم أنها أيضا تنشد التغيير؟ وبخاصة في أوضاع الحاضر واحتمالات المستقبل؟

الرأي عندي أن “فعل التغيير المشخّص” يظل خاصة “المثقف” في أحواله المختلفة: العضوي، والتقليدي، والشبكي أيضا. لكن هذا المثقف مُطالب بأن يؤسس فعل التغيير على أفكار ومبادئ يستقيها من “الاجتهادات” و”الأفكار” و”النتائج” الفكرية التي أفضى إليها عمل المفكر التحليلي، النقدي، الرصين. ووفقا لهذا التصور، يتدخل المثقف ليدافع، وليسوّغ، وليذيع بين الناس، بآليات القول “الخطابي” ما انتهي إليه من قضايا وأفكار ومقاصد تبين أسسها السديدة لدى المفكر. بتعبير آخر تتحدد مهمة المفكر في التحليل والنقد والاقتراح، في حدود وعي وإدراك يلتزم بالمعطيات المشخصة والقضايا الجوهرية لعالمه الروحي والوجودي ويؤسس هذا الوعي وهذا الإدراك على معرفة علمية مدققة مستقصية وعلى نظر فلسفي يصدر عن أدلة “برهانية” مسيجة بحدود العلم والمنطق والفهم والخبرة.

أما المثقف، فتستبد به وطأة أمواج الوقائع والنوازل الداهمة وارتكاسات الفعل العاجلة، وأهواء الرغبة الطاغية التي يغلب عليها الاندفاع في مجرى التيارات الأيديولوجية أو المطالب السياسية أو الاجتماعية العارضة. يلقى ذلك كله بآليات “القول الخطابي” أو “الشعري” الذي يحفل في كثير من الأحوال بشتى “المغالطات” و”الشطحات الفكرية” والوجدانية. ولعل هذا هو ما يفسر “الأقوال الشاذة” التي تصدر عن فئات الشعراء والروائيين والأدباء، الذين يدخلون أصلا في زمرة “المثقفين”، لكنهم ينحرفون عن “الجادة” ويحشرون أنفسهم في زمرة “المفكرين” ويتحولون إلى “خبراء” في القضايا الفكرية والوجودية الكبرى، وإلى “مفتين” لا يميزهم عن جهاز الإفتاء الديني إلا زعمهم أنهم علمانيون أو ليبراليون! أنحصر في التنبيه على هذه الآفة وأعدل عن سوق رموز الشعر والرواية الذين شهروا بـ”الإفتاء الفكري”.

بيد أن المسألة يمكن أن تطال مسارا آخر. هو مسار “المفكر” الذي تنطوي كينونته الوجودية على “طفل” آخر يوجهه إلى أبعد من خالص التحليل والنقد والاقتراح، أعني غائية “التغيير” و”التطوير” و”الفعل” من أجل عالم أفضل وأقوَم وأعدل، من حيث أن هذه الغايات والمقاصد تمثل عنده “معنى” يستحق العمل من أجله، بل الموت من أجله أيضا. ذلك، بكل تأكيد، وجه من وجوه “الفعل الثقافي”، وهو مشروع بكل المقاييس، ورموزه لا عد لها ولا حصر، ومن أجل التمثيل فقط في حدود وجودنا العربي الكوني، أستحضر فقط طيب الذكر إدوارد سعيد، الذي جمع الفضيلتين، فضيلة المفكر الأصيل، وفضيلة المثقف الحقيقي.

قد أكون قاسيا في حق “المثقفين العاديين”، لكنني لن أذهب إلى حدود الدعوة إلى “نفيهم من المدينة” مثلما فعل أفلاطون في أمر الشعراء، لأنني أعتقد أنهم ذوو فائدة حقيقية لـ”الجمهور”، من حيث أن الجمهور لا يقدر على متابعة “من هم أكثر معرفة وعلما وإدراكا وتقنية”، لكنني أرى أن مشروعية بقائهم واستمرارهم والاستماع إليهم، ينبغي أن تكون مشروطة بتمثلهم للمعرفة الدقيقة، وبالنزاهة في التفكير، وبالارتقاء فوق الرغبات والأهواء الذاتية، وبالعدل في التقييم وفي الأحكام، وبالتحرر من “الآراء الهوائية” والأيديولوجيات الراديكالية، وبتقدير الأمور حق قدرها.

أما “المفكر” فيظل هو الذي يتعيّن على الدولة وعلى المجتمع الاستماع إليه.. لأنه قد طال إهمال رجال الدولة والسياسة للإصغاء إلى ما يقوله المفكرون، إذ تنحصر المشورة عندهم، إن كان ثمة مشورة، بموظفي الوزارات “العاديين” أو بمستشارين يتم استحضارهم من مواطن خارجية، أو بعناصر تفتقر إلى الخبرة والكفاية والفهم، أو باستراتيجيين قصيري النظر. وبكل تأكيد نحن لا نريد أن يكون “المفكر” أو “الفيلسوف” ملكا أو حاكما، لكن لا شك في أنه خير من يقدر على إنارة الدولة والمجتمع والتنبيه إلى أفضل “الطرق السالكة”، وعلى رد عوارض البوار والأفول إلى حدود الأمن والخروج من المأزق.

(مفكر عربي)

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى