صفحات الثقافةوائل السواح

من المجتمع إلى العائلة إلى الفرد

وائل السوّاح

في ستينيات القرن الماضي كانت السينما طقساً اجتماعياً وحالة فنية يشوبها نوع من الرعشة والخشوع. كنا نرتدي أفضل ملابسنا ونذهب قبل ربع ساعة من العرض للاستمتاع بالطقس ولنكون على قدر المناسبة. وكان الراديو والصحافة والبريد، كلها أمور  تلعب دور التواصل الحقيقي، فكان للبرنامج الإذاعي وقعه وتأثيره، وكانت للجريدة قيمتها ولإطلالة ساعي البريد خفقان قلب، ونحن نتوقع ما الذي تحمله الرسالة المغلقة التي يحملها إلينا. كانت السينما والمقهى والجريدة ثقافة وليس فقط تزجية للوقت. وكان حضور الفيلم في جمهور كبير والجلوس منتصبين متحفزين ومتوقعين ما سيحدث يعطينا دفقة نفسية وشحنة نستمدها من زملاء الصالة الذي يجلسون قربنا ويشاهدون الفيلم نفسه.

وعندما انتشرت الأندية السينمائية، أخذت السينما بعداً آخر، بعداً فنياً وثقافياً، ولكنه سياسي أيضاً. وانخرط الشباب في سبعينات القرن الماضي بنقاشات حامية حول دور الفن في المجتمع ودور الثقافة في التغيير.

في العام 1980، رأيت لأول مرة جهازاً غريباً. كنت في زيارة صديق لي، عندما أخرج شريطاً أكبر من شريط الكاسيت ووضعه في جهاز يشبه المسجلة، ثم فتح التلفزيون، ورأينا على شاشة التلفزيون فيلم “الفراشة” لستيف مكوين وداستن هوفمان. لقد بدأ عالم الفيديو في سوريا. وترافق دخول الفيديو مع القمع المعمّم الذي مارسه الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد على مجمل السوريين بعد تدميره لربع مدينة حماة وانتصاره على الإخوان المسلمين في بداية الثمانينات وحصاره السوريين أمنياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً. وقد آثر السوريون البقاء في منازلهم وتقليل خروجهم في تجمعات، حتى ولو كان ذلك في مسرح أو صالة سينما.

تحولت مشاهدة الأفلام من طقس ثقافي اجتماعي، إلى تزجية عائلية للوقت. وبدلاً من ارتداء ملابسك الأنيقة، صار بإمكانك البقاء في البيجامة والاستلقاء على الأريكة أو الجلوس على الأرض لمتابعة فيلم السينما أو المسلسل العربي بعد الأخبار، وأنت تحتسي الشاي أو تتناول العشاء. ومع دخول أجهزة التلفزيون في كل بيت، خفت الحاجة إلى تبادل الزيارات بين الأهل والأصدقاء، وصار ثمة نوع من الاكتفاء الذاتي داخل العائلة. ولكن حتى عندما يتزاور الأصدقاء، كان التلفزيون حاضراً في زياراتهم، فهو على الأغلب مفتوح على أغنية أو مسلسل أو نشرة أخبار. والزوار مع مضيفيهم يسترقون النظر بين الفينة والأخرى إلى ملابس الفنانة الجميلة أو يعلقون على خبر في نشرة الأخبار، أو لعلهم يصمتون كلياً ليتابعوا آخر حلقات مسلسلهم اليومي.

ولكن الوضع في السنوات الأخيرة أخذ منحى جديداً مع أجهزة الكمبيوتر اللوحية (كالآي باد) ووسائل التواصل الاجتماعي، مثل فايسبوك وتويتر وإنستغرام وفايبر وغيرها من وسائط التواصل. فمع دخول هذه التقنيات الجديدة، صارت العائلة نفسها منقسمة في ما تشاهده وتفكر فيه. وما عاد المسلسل اليومي أو نشرة الأخبار أو فيلم السهرة يجمع شمل العائلة أو الأصدقاء، بل بات كل فرد مستقلاً في جهاز الآي باد أو الهاتف الذكي، يتابع ما يعلّقه أصدقاؤه الافتراضيون أو يتابع فيلماً أو أغنية، وقد وضع في أذنيه سماعتين، تفصلانه نهائياً عمن حوله من وسط اجتماعي.

يعطي فايسبوك وتويتر شعوراً مخادعاً بأننا نتواصل مع أصدقائنا. فما دمنا نتابع تعليقاتهم على فايسبوك وتغريداتهم على تويتر، فنحن نعلم أنهم بخير، نعايدهم في عيد ميلادهم، ونضع “لايك” على ما يكتبون، أو نعلق عليه بكلمة أو عبارة، وقد نضيف وجهاً ضاحكاً، أو عابساً.. إلخ. ويعطينا ذلك إحساساً كاذباً بالاكتفاء: فما دمنا نتواصل معهم، فليس ثمة حاجة ملحة إذن لأن نقوم بزيارتهم إذا كانوا في المدينة، أو الكتابة إليهم إذا كانوا على سفر. وإذا زرنا أصدقاءنا أو جلسنا في مقهى معهم، انشغل كل منا عن الآخر في متابعة ما يجري في العالم على هاتفه الذكي.

وتغيرت أيضاً لغة التخاطب بين الأصدقاء على مواقع التخاطب الاجتماعي، وانعكس ذلك على أسلوب كتابتنا. ولأن التعليق أو الرسالة النصية لا تأخذ أكثر من دقيقة لنرسلها، ما عاد التدقيق اللغوي مهماً. ودخلت عادة الاختزال، فبتنا نكتب نصف الكلمة أو ربعها أو ما يرمز إليها، وما عدنا نتحاشى اللغة النابية كثيراً في تعليقاتنا، أي في تواصلنا مع الآخرين. واختلطت لغة الخطاب الداخلي (أي التفكير) مع لغة التخاطب، فصار التخاطب شكلاً من أشكال التفكير بصوت عال.

على أن ذلك ليس حقيقة. فوسائل التواصل الاجتماعي، وإن أمَّنت نوعا من التواصل، إلا أنه ليس اجتماعياً على الإطلاق. ما تؤمنه هذه الوسائط هو تواصل بين أفراد منعزلين، بين جزر متباعدة، وإن كانوا يعيشون في مدينة واحدة أو حي واحد أو  بيت واحد.

أمضت عالمة الاجتماع شيري توركل عقداً من الزمن وهي تدرس تأثير وسائط التواصل الاجتماعي على سلوك الأفراد، وهي تقول إن هذه الوسائط لم “تغير فقط ما نحن عليه ولكنها غيرتنا من الداخل.” وبدلاً من الخطاب وجهاً لوجه أو في رسالة أو عبر الهاتف، صرنا نفضل اللجوء إلى روبوتات “عاطفية.” وصرنا نفضل أن نصادق أشخاصاً لا نعرفهم على فايسبوك لأن ذلك يمنحنا فرصة أن نبقي مسافة عاطفية بيننا وبينهم. وبدلاً من الهاتف أو الرسالة (أو حتى الإيميل) صرنا نرسل رسائل نصية قصيرة مليئة برموز غريبة، أو نغرِّد بما لا يزيد عن 140 حرفاً (بما في ذلك الفراغات بين الكلمات)، فإذا كتبنا أكثر، احترنا أي الكلمات ينبغي قصها لتفصيل التغريدة على قياس الموقع.

ولكن الأسوأ من كل ذلك كله هو الإحساس بالتعويض الكاذب عن الفعل الحقيقي، وخاصة عندما نرى أنفسنا مناضلين منخرطين في ثورتنا فقط لأننا نكتب تعليقاً أو تغريدة أو شتيمة أو نضيف وجهاً باسماً على أحد تلك المواقع، متناسين أن الثورة الحقيقية تكون على أرض حقيقية ومع أشخاص حقيقيين.

نقلتنا وسائط التواصل الاجتماعي إلى عالم من الأفراد المنعزلين روحياً ونفسياً وإن كانوا يعيشون معاً، واختصرت الزيارة إلى تغريدة، وجلسة المقهى إلى منتديات الإنترنت والرسالة إلى S.M.S. ولكننا مع ذلك كله، لا زلنا نقرأ بمتعة رسائل فانسنت فان غوخ إلى أخيه ثيودور، ونتعلّم من رسائل ماكس فيبر وتشارلز داروين وكارل ماركس، ونشعر بالعبق الذي يطفح من رسائل جبران خليل جبران ومي زيادة، ونتعجب من التألق اللغوي الساحر في مخاطبات أنطون فرح ومحمد عبده عن العلمانية. ليست نوستالجيا، ولكنها رسالة تحذير.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى