صفحات مميزةياسين الحاج صالح

من المملكة الأسدية إلى الجمهورية الثالثة


ياسين الحاج صالح

إلى روح عمر أميرالاي

لم تتأسس الجمهورية في سورية في تاريخ محدد. وليس هناك وقت تأسيسي يتصل بقيامها ويستذكره عموم السوريين أو بعضهم. ولا يعرف تاريخ سورية المعاصر، ولا يكاد يكون لها تاريخ غير معاصر، صراعات من أجل الجمهورية.

الجمهورية الأولى

صارت سورية جمهورية في سورية وهي تحت الاحتلال الفرنسي. كان ذلك حلا لمشكلة قلة الملوك، أو عدم ثقة الفرنسيين بالمتاح من الأمراء، وقت احتلالها لسورية عام1920. ولعل كون فرنسا ذاتها جمهورية، تميل إلى نسخ نفسها أو مظهرها الخارجي حيث حكمت، عامل محدِّد لتشكل الجمهورية في سورية. بعد طرد فيصل الأول إثر معركة ميسلون في تموز 1920، لم تستقر سلطة الانتداب على شكل سياسي نهائي للبلد، كيانا ودولة، حتى عام 1943، أي حين كان الانتداب ذاته ينازع. ولقد بدا أن الاصطناع التام للكيان السوري يناسبه نظام حكم غير تقليدي أو أحدث، خلافا، مثلا، للمغرب، البلد العربي الوحيد الذي استعمره الفرنسيون وحكمته أسرة ملكية.

كان النظام السياسي في سورية حصيلة الصراع بين سلطة الانتداب الفرنسي ونخب وطنية، ولقد استقر كنظام جمهوري رئاسي، يهيمن عليه الوطنيون المناهضون لسلطات الانتداب، في وقت متأخر من الحرب العالمية الثانية. وكما هو متوقع فقد هيمن في الكفاح الوطني مطلب الاستقلال عن المستعمر، وليس مبدأ الجمهورية، وإن استقر الأمر في أوساط النخب الاستقلالية، المنحدرة من طبقة أعيان المدن التقليدية عموما، على أن يكون النظام السياسي جمهوريا وديمقراطيا تمثيليا.

استقلت سورية عام 1946. وبتأثير التعليم والجيش والصحافة والأحزاب السياسية ونشوء مجال اقتصادي موحد، كان يتشكل شعب سوري، متميز بدرجات متفاوتة عن روابطه العضوية، العشيرة والمحلة والجماعة الدينية. ولقد كان هذا الميل هو الغالب حتى سبعينات القرن العشرين حيث تعرض لنكسة كبيرة، كما سنرى.

لم تكد تنقضي 3 سنوات على استقلالها حتى ولجت سورية زمن الانقلابات العسكرية، الأمر الذي كان إشارة على تداعي هيمنة طبقة الأعيان، الأمر الذي سيكتمل على دفعتين في السنوات اللاحقة: عند قيام الوحدة السورية المصرية في شباط 1958، ثم في الانقلاب البعثي في آذار 1963.

وخلال العقدين التاليين لأول انقلاب عسكري كان تاريخ سورية تاريخ صراعات سياسية وانقلابات عسكرية واستقطابات إيديولوجية حادة وتجاذبات دولية وإقليمية على البلد الفتي، وفي الخلفية تبدلات متسارعة في الجيولوجيا الاجتماعية في بيئة سياسة محلية ودولية جديدة تماما، دون توفر أطر مؤسسية أو فكرية مرنة لاستيعابها، بل مع تطور استعدادات استبعادية في الداخل السوري، ومع وجود مناخات سياسية وفكرية دولية مشجعة للاستبعاد.

لكن الاستبعاد ارتفع إلى مرتبة نظام سياسي في عام 1963، واستقر و”تمأسس” عام 1970. في هذا العام الأخير وقعت البلاد تحت الوطأة الثقيلة لنظام جعل من دوامه أولوية وطنية عليا، وفرضها بالقوة الخام. ولقد تحقق له بالفعل دوام يقطع الأنفاس لما يزيد على أربعة عقود، ليتعرض اليوم لمنازعة عامة، تدعو علانية لإسقاطه. فإذا اصطلحنا على أن أعوام 1943 -1970 هي زمن الجمهورية الأولى، وأعوام 1970-2011 هي زمن الجمهورية الثانية الطويلة، كان من المناسب التكلم على جمهورية ثالثة هي ما يتعين أن تتحول نحوها سورية بفعل انتفاضتها المجيدة الراهنة.

جمهورية بلا جمهوريين

بفعل ملابسات قيامها، قامت الجمهورية في سورية دون وجود جمهوريين، تيار فكري وسياسي يتمحور تفكيره حول مبادئ المواطنة الفاعلة وسيادة الشعب والحرية والمساواة، وضد المراتب المحفوظة والامتيازات الوراثية وتعسف السلطة. هذا جعل الجمهورية في سورية فكرة ضعيفة الشخصية، فاقدة للوعي الذاتي، ولا تستطيع الدفاع عن نفسها. ليس هناك كتابات سورية من أي نوع تتناول الجمهورية، فكرة أو تاريخا أو قيما، ولا أية صراعات سياسة وإيديولوجية متصلة بالمبدأ الجمهوري. وإذا انطلقنا من اسم سورية الرسمي منذ نحو خمسين عاما، الجمهورية العربية السورية، فإن مدرك العربية نال اهتماما كبيرا جدا، وأقل منه السورية، وأقل منهما معا الجمهورية.

وحتى وقت ما من سبعينات القرن العشرين، كان مدرك الجمهورية يتقابل مع مدرك الملكية، مع تضمينات إيجابية للأول وسلبية للثاني. ولقد كان يبدو أن الملكيات العربية الثلاث، الأردن والسعودية والمغربية، رجعية وتابعة بطبيعتها، فيما الجمهوريات تقدمية ومتحررة، وهي مستقبل الممالك المحتوم. هذه يحكمها ملوك وأسر حاكمة، فيما يحكم الجمهوريات الشعب أو ممثلوه، وإن لم يعرف نقاش مهم عن كيفية تمثيل الشعب في الجمهوريات (ستفرض هذه النقطة نفسها كواحدة من القضايا الرئيسية في تفكير وسياسة التيار الديمقراطي العربي الذي أخذ يهيمن ثقافيا منذ أواخر سبعينات القرن العشرين). على أن أمر التمايز بين تنويعتي نظام الحكم هاتين انحل غالبا في المنازعات والتجاذبات العربية أكثر مما أسس لتفكير سياسي جمهوري.

قبل ذلك، في خمسينات القرن العشرين وستيناته كانت هناك عناصر جمهورية وشعبوية محمولة على العقيدتين الشيوعية والبعثية، ومنها بخاصة مفهوم الشعب ورفض الامتيازات الموروثة. لكن فكرة المواطنة المتساوية كانت ضامرة، ومثلها فكرة القانون الضابط للسلطة التعسفية.

ولقد أسهمت الانقلابات العسكرية المتتابعة بين 1949 و1970، وضغوط البيئة الإقليمية والدولية، في تغذية حالة من السيولة السياسية الشديدة المتولدة أصلا عن حداثة سن البلد وعن افتقاره إلى مؤسسات وتقاليد سياسية مستقرة، وعن افتقار كيانه ذاته إلى إجماع وطني داعم.   كان وعي الكيان سائلا بدوره ومتغيرا. وقد تحولت سورية أكثر وأكثر إلى بلد عربي بمعنى ماهوي للكلمة، لا بمعنى تاريخي، ولا بمعنى تعاقدي، وإن تكن أصول هذا التحول أقدم، وتعود حتى إلى ما قبل مواجهة الاحتلال الفرنسي تحت راية عروبية (وليس سورية)، عودا إلى الحركة الاستقلالية العربية ضد العثمانيين. وكان ذو دلالة أن الكردي إبراهيم هنانو، قائد ثورة الشمال السوري، كان يخاطب السوريين بعبارة: أيها العرب! ومثله سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى 1925-1927. وكان شكري القوتلي، أول رئيس لسورية المستقلة، قد قال، وهو يرفع علم البلاد إثر استقلالها، إنه لن يرتفع بعد اليوم فوق هذا العلم إلا علم الوحدة العربية.

في الخمسينات كانت العروبة تتحول إلى عقيدة تدعو إلى وحدة العرب “من المحيط إلى الخليج”، وإلى تحرير فلسطين، وتأكيد متشدد على خصوصية العرب ومجدهم ورسالتهم، وخصومتهم الجوهرية مع الغرب. وبعد أن كانت العروبة واقعا “طبيعيا”، لا يشعر بالغربة ضمنه حتى غير العرب، جرى “تعريب العروبة”، بحيث بات حتى العربي مطالبا بتقديم أورقا اعتماده إلى هذه العروبة العقدية. ومن باب أولى غير العرب. جرى تسييس العروبة، فأضحت حزبا، فلم تعد موضع إجماع. هذا وقت أخذت تحتل موقع الإجماع المفترض، أي الدولة.

وأكثر من التسييس جرى “تعقيد” العروبة، بمعنى مزدوج لكلمة تعقيد: تحويلها إلى عقيدة بعد أن كانت “طبيعة”؛ ثم جعلها أمرا معقدا، يحتاج المرء إلى جهود خاصة ومؤهلات مميزة حتى يستحقها. وبفعل التعقيد والتسييس، أضحت العروبة أمرا محكوما بمنطق الندرة، شيئا لا يتاح للعموم، وترفع حيازته الحائزين عليه فوق غيرهم درجات.

ولم يكن ذلك نتاج عمل إيديولوجيين يجدون ما يرفع من شأنهم في “تندير” العروبة، وإنما يتعداه إلى كون هذه العروبة النادرة إيديولوجية صعود نخبة عسكرية من أصول برجوازية صغيرة في مواجهة أعيان المدن التقليديين، الذين كانوا توسلوا عروبة أكثر وفرة وليبرالية واستيعابية في مواجهة الفرنسيين. أتاح تعريب العروبة إلحاق هزيمة إيديولوجية بطبقة الأعيان، بخاصة عبر إدماجه مع الاشتراكية، وقد كانت موجة صاعدة وطريقا مختصرا لتجاوز “التخلف”، وتحقيق العدالة والتنمية. وأول غير الحائزين على العروبة المعربة هم غير العرب الذين سينظر إليهم بما لا يقل عن الارتياب، لكن منهم أيضا عرب ارتفعت عتبة تماهيهم بالعروبة الجديدة، فجنحوا إلى تعريف أنفسهم بالإسلامية أو بالقومية السورية أو بالشيوعية، وهذه كلها كانت مذاهب “معقدة”، قائمة على مبدأ الندرة والحصرية والتأهيل الخاص من أجل الارتفاع إلى مستواها.

على هذا النحو كان في الجمهورية السورية منذ أواخر الخمسينات مقدار يقل من السورية، ومقدار أقل من النزعة الجمهورية الواعية بذاتها، مع مقدار يتضخم من العروبة، هو ما حتم تعديل اسم سورية بعد انفكاك الوحدة المصرية السورية في خريف 1961 من الجمهورية السورية إلى الجمهورية العربية السورية. لقد تسبب هذا الواقع فيما يشبه انفصام الشخصية عند عموم النخب السورية. فهي بشخصيتين. شخصية عروبية مرغوبة، لكن نصيبها من الواقع محدود، وشخصية سورية واقعية، لكنها تكاد تكون غير مرغوبة أو معترف بها، يتيمة. وهذا مصدر إضعاف للمبدأ الجمهوري الذي يحيل إلى عالم الشعب والمواطنين والعلاقات السياسية، لا إلى عالم الهويات والقرابات الثقافية. أو لنقل إن مدرك الجمهورية ينتمي إلى عالم الوجود السياسي الفعلي لجمهرة سوريين عينيين، بينهم من ليسوا عربا، لا إلى عالم الماهيات الثقافية ولا إلى عالم واجب الوجود، وإن من شأن قوة ظهور الماهية والواجب أن يضعف المبدأ الجمهوري. لا ريب أنه يمكن للجمهورية أن تقتبس رموزا وذاكرة من التاريخ، العربي أساسا، لكنها تتعرف أساسا بانفتاحها على جمهور السوريين المنثور، وقد كانت حاجاته المادية والسياسية والثقافية كبيرة جدا. ولعل الفضيلة الوحيدة لترجمة ريببليك إلى جمهورية هو الإحالة إلى كثرة عيانية لا إلى وحدة مجردة.

ثم أن انفصام شخصية سورية، كان مصدر تشوش فكري واضطراب نفسي سياسي أصاب نخبها القائدة جميعا، فحال دون التراكم السياسي، الفكري والمؤسسي. وهو ما فاقمته هزيمة حزيران 1967 المدوخة، وسهلت بعد حين انزلاق البلاد في دكتاتورية سياسية عاتية.

ولقد كان نموذج الاشتراكية التوزيعية الذي انحازت له النخب السياسية والثقافية بين خمسينات القرن العشرين وسبعيناته، وكان مهيمنا عالميا، عنصرا مهما في رفع الطلب على السلطة القوية التي تتولى التوزيع، وفي النظر إليها كقوة مسوية اجتماعيا وقاطرة تقدم في آن. ولقد سارت هذه السلطة القوية مع خفض وزن الجمهور السياسي والنيل من الحريات العامة، ومع التعسف.

لكن ينبغي القول إن ارتباط العروبة بالاشتراكية وسع قاعدتها الاجتماعية، وحد من طابعها الاستبعادي، فكان مفعوله معاكسا لمفعول التعقيد والندرة.

“سورية الأسد”

عام 1970 اكتمل موت الجمهورية الأولى التي كان ينطبق عليها قول تشرشل قبل ذلك نحو عقدين: سورية هذه لا تعرف كيف تحكم نفسها ولا تدع أحدا يحكمها! “سورية هذه” صارت تحكم نفسها، وبعد حين غيرها. لكن ليس دون إلغاء تام للحياة السياسية الداخلية، الأمر الذي لا يحل المشكلة المضمنة في كلام السياسي البريطاني الشهير، أي تفلّت الكيان والدولة والمجتمع من أطر مؤسسية أو فكرية جامعة، بل فقط يجمدها، بحيث قد نجدنا في مواجهتها ما إن ينتهي زمن التجميد. ولعلها من القضايا التي ستواجه سورية بحدة في وقت قريب.

منذ وقت مبكر كان واضحا أن الضابط الذي أنهى الجمهورية الأولى، حافظ الأسد، يتطلع إلى سلطة لا حد لها: لا يقيدها مبدأ أو قاعدة، ولا تنتهي في الزمان. هذا وحده يتعارض مع الفكرة الجمهورية التي يفترض أنها تتميز عن الملكية بتعارضها مع التعسف وانضباطها بقوانين عامة.

لم يكد يستولي الرجل على السلطة حتى كانت هناك “أغان وطنية” تمجده، و”مسيرات شعبية عفوية” تحمل صوره، “ابن الشعب البار”. وفي الوقت نفسه سجلت المخابرات حضورا محسوسا في الحياة العامة، ومعها أجهزة عسكرية وميليشياوية مولجة بأمن النظام. الجهازان الرمزي والأمني ركنا الحكم الأساسيان حتى يومنا. الواقع أن الجهاز الرمزي هو أقرب إلى كهنوت ديني غير منظم، دينه وديدنه هو تقديس الرئيس، أو ضمان ندرته المطلقة. أما الجهاز الأمني أو مركب الأجهزة الأمنية فوظيفته هي بالضبط الإرهاب، أو بناء جدران خوف عالية حول السكان المحكومين، أو بالأحرى في داخلهم.

في هذه العقود الثلاثة كانت سورية دولة الشخص الواحد الذي لا ينضبط حكمه بأية قاعدة، الطاغية. فقد تمركزت الحياة السياسية والعامة كليا حول شخص الرئيس الذي يفتديه محكوموه بالروح والدم، ويعرض أعوانه استعدادا طيبا للقتل من أجله. وقد فعلوا، وبوفرة. المنازعة السياسية ألغيت بالكامل عبر عبادة الرئيس، وكذلك عبر السجون و”الجبهة الوطنية التقدمية”، لكن مرورا بمقاومات كبيرة كلفت عشرات ألوف الضحايا. بدءا من مطلع الثمانينات تحقق للنظام الاستيلاء على المجتمع بالقوة بعد أن كان استولى على السلطة بالقوة. “الشعب” لم يعد موجودا إلا كركيزة حكم سلبية، كـ”جماهير” تهتف وتغني، وتبكي عند اللزوم، وتستعرض خضوعها الجماعي في “المناسبات الوطنية والقومية”، بتوسط جهاز التلفزيون الذي كان لا يمل من تكرار هذه الاستعراضات. في هذه الجمهورية الثانية القليل جدا من الجمهورية، وأقل بعد من الجمهور، والكثير جدا من الرئيس الذي صار يوصف بدءا من النصف الثاني من الثمانينات بأنه “سيد الوطن”. أما العروبة فانقلبت أداة للهيمنة الإقليمية والتخوين الداخلي. والسورية أضحت المعادل المجرد للرئيس. إنها “سورية الأسد”، ورئيسها هو “سيد الوطن”.

ومنذ وقت مبكر من العهد أخذت تتشكل امتيازات ومراتب امتيازية جديدة، منفصلة عن العامة ومتعالية عليهم، مكونة أساسا من رجال السلطة الذين صاروا يعيشون بمستوى البرجوازية المدينية التقليدية وفي أحيائها (أبو رمانة والروضة والمالكي في دمشق)، ويدخلون في شراكات تجارية مع ما بقي منها. وبالتدريج أنتجت هذه المراتب إيديولوجية الامتياز والاستثنائية التي تبررها وتثبتها، وتجعل من توريث مراتبها ومواقعها واجبا وطنيا وحتمية طبيعية. حجر الأساس في هذه هي استثنائية الرئيس وعبقريته. إنه الوحيد، النادر بإطلاق. كان واضحا منذ ثمانينات القرن الماضي أن رئيس “الجمهورية” العربية السورية يتطلع إلى توريث الحكم في أسرته. وحين مرض عام 1984، رأى شقيقه رفعت في نفسه المرشح الطبيعي لوراثته. وفي التسعينات، وكان الرئيس تخلص من أخيه الأرعن، ظهر أنه يريد التوريث في نسله هو. وما إن توفي ابنه باسل في حادث سيارة عام 1994، حتى جرى تنصيبه قديسا، بغرض واضح: تكريس عقيدة الاستثناء الخاصة بالرئيس وآله، وتطبيع السوريين على انتظار وريث من نسله. ومعلوم أن “الأب القائد” استدعي على الفور ابنه بشار الذي كان يدرس الطب في لندن، وجرى تجهيزه بصورة مكثفة لوراثة الوالد. حتى إذا توفي الرئيس المؤسس عُمِّد بلقب “القائد الخالد”، فيما نال الابن لقب “قائد مسيرة الحزب والشعب”، وفي سنوات ما بعد 2005 صار يوصف بأنه “سيد الوطن” مثل والده.

لا حاجة إلى القول إن التوريث يضرب المبدأ الجمهوري في مقتل. فالجمهورية تفترض مساواة جوهرية بين السكان، وتنفي وجود دم أزرق ينفرد به الملوك أو “النبلاء”، وتقرر تشارك الجميع جميعا في دم أحمر واحد، وهو بالطبع ما تؤكده العلوم الحديثة. ورسوخ مبدأ المساواة الجوهرية هو ما أدى إلى زوال الحكم الملكي الوراثي في أوربا، أو في تجريد الملوك من أية سلطة تنفيذ فعلية. السلطة العمومية لا ينبغي أن تكون وراثية، وما يكون وراثيا لا ينبغي أن ينال سلطة عامة. أما الجمع بين الوراثية والسلطة فأضحى علامة على الاستبداد. وفي هذا لا تسجل الجمهوريات العربية فرقا ذا بال عن الملكيات.

وليس في الجمهورية سيد إلا الشعب، وسيادته هي ما تؤسس للمساواة الحقوقية والسياسية بين أفراده، فتجعل منهم مواطنين فاعلين، مدعوين إلى المشاركة في حياة الدولة. ووجود سيد للوطن، الرئيس، يلغي الجمهورية والمساواة بين السكان، ويؤسس لعلاقات التبعية الشخصية وللمراتب والامتيازات، ويفتح الباب للطوائف والأصناف الاجتماعية الثابتة.

قانونيا حكمت البلاد بحالة الطوارئ التي تعني إطلاق يد عصبة السلطة بالبلد وموارده، والتصرف فيهما وفق منطق ظرفي قائم على الهوى والاستنساب. وصار ينظر إلى المجتمع السوري كروابط أهلية مختلفة، عشائر وأديان وطوائف ومحلات، وليس كشعب. وجرى تمثيله فعلا على هذا النحو في أجهزة الحكم الحزبية والتمثيلية، وإن دون قوانين، وبصورة استنسابية جدا. ومنح البعثيون أفضليات متنوعة في التعليم والتوظيف والإيفاد إلى الخارج، مع تفضيل ذوي القرب من البعثيين أنفسهم، على مستوى البعثات الدبلوماسية بخاصة. وفي سياسته الداخلية كما في سياسته الإقليمية، تمركز تفكير النظام ومخططيه حول الأديان والمذاهب والطوائف والإثنيات، وليس حول الدول والمواطنين والشعوب.

الملكية وإيديولوجيتها

الإضافة التي مثلها عهد الرئيس بشار الأسد تمثلت في حقن مبدأ الحكم الوراثي بإعادة هيكلة الاقتصاد وملكية الموارد الوطنية، بما يرفع من القيمة العامة للملكية والثروة، ويظهر إلى العلن طبقة إقطاعيين جدد، منحدرين من صلب النظام، ومتمتعين بامتيازات هائلة، وبحصانة سياسية وقانونية تامة حيال العامة. وعلى هذه الصورة اجتمع في العهد مبدأ الملكية السياسية والملكية الاقتصادية.

والعنصر الجديد الآخر المهم هو اعتناق العهد إيديولوجية “حداثوية”، محابية للطوابق العليا من المجتمع، ومعادية بحزم للعامة والديمقراطية، وللإسلام الاجتماعي الثقافي (صار يسمى “قِدامة”) والسياسي (“أصولية”). وسيشترك في هذه العقيدة المركب السياسي الأمني، أي نواة النظام الصلبة، ومثقفون يدورون في فلكه، أو يشاركونه انحيازاته. وفي سورية تأخذ هذه الانحيازات الإيديولوجية دلالات اجتماعية وسياسية محسوسة، يغلب فيها الطبقي على الطائفي، وإن قام الطائفي والحداثي بدور التثبيت الإيديولوجي لهذه الأوضاع الامتيازية الجديدة، أو إضفاء الشرعية الحداثية عليها. وسيطور إيديولوجيو الحداثة نظرة جوهرانية إلى مجتمعاتنا، تجعل من “الإسلام” المحدد الأول والأساسي، إن لم يكن الحصري أيضا، لسلوك الإنسان فيها، ومنبع تخلفها وجمودها والاستبداد فيها. وستفصل هذا الإنسان الإسلامي، الهوموإسلاميكس، عن غيره من بني البشر، وتنسب له خصوصية سلبية مميزة حتى وهي تنكر هذه الخصوصية بلسانها حين يزعمها الإسلاميون. فهو متعصب وعنيف ومتخلف وغير عقلاني، مع إرجاع خصائصه هذه إلى عقيدته الدينية. في واقع الأمر، “الإسلام” و”الإنسان الإسلامي” معا غير موجودين، وما هو موجود هو عمليات إضفاء الإسلامية يقوم بها إيديولوجيون إسلاميون وأخصام “علمانيون” لهم، علاقتهم بالعلمانية (والحداثة) لا تختلف في شي ء عن علاقة الإسلاميين بالإسلام، علاقة اعتقاد وتقديس.

الحداثية هذه هي الإيديولوجية المشرعة للنظام الإقطاعي الجديد. إن الامتيازات الطبقية والسياسية التي يورها هذا النظام لشريحة ضيقة تتخفى هذه المرة وراء التمايزات الدينية والمذهبية الظاهرة التي تضفي عليها الثبات المطلوب.

ومن المفاعيل المهمة لهذا التطور الإيديولوجي أنه قوض الشرعية المعرفية (الأبستمولوجية) لمفاهيم الشعب والمواطن والمساواة، وأسس للخصوصيات والماهيات المتفاصلة. وبذلك رسخ الأوضاع الامتيازية وحماها عمليا من النقد.

في أفق الجمهورية الثالثة

وهكذا بلغت الجمهورية الثانية نهايتها بالانقلاب التام على نفسها، على نحو ما ينتهي الحب بالزواج، وينقلب.

الجمهورية الأولى غير مستقرة ومنفصمة الشخصية. فوق الفصام القديم، الجمهورية الثانية ليست جمهورية أصلا، مملكة.

نحن اليوم في أفق الجمهورية الثالثة.

ما يعترض عليه السوريون هو التحول الملكي أو السلالي الذي سبقهم إلى الاعتراض عليه التوانسة والمصريون واليمنيون والليبيون. يعترضون أيضا على الاعتباط المطلق الواسم لنظامهم وللنظم السلالية عموما، والمتجسد في تلك الأذرع الأمنية الإرهابية التي تعاملهم بوحشية مطلقة. ويعترضون على الامتيازات غير الشرعية وغير العادلة وغير العقلانية التي يحظى بها أفرد وأسر دون وجه حق. ويعترضون على ملكية البلد من قبل حاكميه.

تندرج هذه التطلعات ضمن المبدأ الجمهوري بيسر تام. يلزم فقط مزيد من الجهد الفكري من قبل المثقفين الديمقراطيين، أو الجمهوريين في هذا السياق، للربط الواضح بين الانتفاضة والجمهورية. أن تعي الانتفاضة ذاتها كانتفاضة جمهورية أو من أجل الجمهورية.

من وجهة نظر تاريخية يفترض أن تستجيب الجمهورية الثالثة لحاجات الاستقرار السياسي والتحكم بالذات، وقد افتقرت إليهما الجمهورية الأولى، وأن توفر ما افتقرت إليه الجمهورية الثانية، المملكة الأسدية في الواقع، من حريات عامة وحكم القانون والمساواة بين المواطنين والسيادة الشعبية.

وفي الوقت نفسه يفترض أن تحري عملية إعادة هيكلة الهوية الوطنية بصورة تمنح السورية الهيمنة على العروبة وعلى الإسلامية. السورية هي قاعدة المواطنة والحريات والحقوق العامة، فيما يمكن للعروبة أن تكون سندا ثقافيا واستراتيجيا، وللإسلام أن يكون أرضية ثقافية وقيمية. تقتضي الجمهورية والفكر الجمهوري إعادة هيكلة الهوية الوطنية في الاتجاه المشار إليه حتما. لا ينبغي وضع السورية في تقابل استبعادي مع العروبة ومع الإسلام. العلاقة الصحيحة فيما نرى هي علاقة هيمنة واستيعاب: تهيمن السورية عليهما وتستوعبهما.

وبينما يظهر الإسلام اليوم قوة تمرد على النظام الاستبدادي الامتيازي القائم، فلا ريب أنه بعد سقوط الطغيان أو الحكم المطلق سوف تظهر تناقضات بين الفكر الجمهوري وبين الإسلام، إن في صيغته الاجتماعية أو السياسية، بخاصة في تلك الدوائر التي يحرس فيها الدين امتيازات غير عقلانية، مثل مجال الأحوال الشخصية والعلاقة بين الجنسين ومجال الولاية العامة ومجال العلاقة بين الجماعات الدينية المتنوعة. لا ينبغي أن يكون للجمهورية دين رسمي، ولا وجه عادلا لاشتراط انتساب رئيسها إلى أي دين.

وبالنظر إلى التكوين الاجتماعي الثقافي، التعددي، للمجتمع السوري، قد يلزم التفكير في نظام برلماني، يحوز ممثلو الشعب فيه سلطة تقرير مهمة. لكن الوضع الجيواستراتيجي الحساس لسورية يزكي بالأحرى نظاما رئاسيا. كيف يمكن الجمع بين مزايا النظامين؟

وعدا مناهضة المبدأ الملكي الوراثي، وعدا التعارضات المحتّمة بين الإسلام والمبدأ الجمهوري، من شأن هذا الأخير أن يتفرغ من مضمونه إن هو لم ينفتح على الجمهور العيني، صاحب المصلحة المبدئية في التغيير. يتعلق الأمر هنا بالأكثرية الاجتماعية التي تشغل المواقع الدنيا في الهرم الاجتماعي، والمعرضة أكثر من غيرها لأشكال من التهميش والإفقار، المعرضة أكثر من غيرها أيضا للتلاعب الديني والطائفي. سند الجمهورية، والديمقراطية، هو تكوين جبهة اجتماعية واسعة، لا تنجح في مناهضة أية مشكلات طائفية محتملة إلا بقدر ما إنها تعمل على نقل الصراع السياسي إلى أرض الطبقات والشرائح الاجتماعية والصراعات الاجتماعية العابرة للطوائف والأديان.

حياة المبدأ الجمهوري مرهونة بهذا التحول الذي يتعين العمل عليه منذ الآن في سورية.

أخيرا، من شأن مراجعة سريعة لتاريخ سورية السياسي أن تظهر الوزن الكبير للعامل الجيوسياسي والجيواستراتيجي في مسارات البلد التاريخية. سورية تقع في قلب المنطقة الأكثر تدويلا في العالم، ” الشرق الأوسط”. هذا يكاد يحرمها من تاريخ ذاتي، ويحكم على الاقتصار على الداخل الاجتماعي والسياسي السوري بأن يتسبب في تشوهات معرفية خطيرة. صحيح أن النسخة الرسمية من تاريخ سورية المعاصر معرضة لتشوهات خطيرة بدورها، بفعل إغفالها شبه التام للداخل السوري، لكن لن تكتمل عودة الداخل، وهو محرك الانتفاضة ومركز ثقلها، دون الخروج على النظام الشرق أوسطي الذي هو بالفعل بمثابة سجن للشعوب. بأمل أن نتناول هذه النقطة في مادة مستقلة، نكتفي بالإشارة هنا إلى محدد رابع للجمهورية يضاف إلى الحكم المطلق الوراثي، وإلى الحكم الديني وتنويعاته الخفيفة والثقيلة، وإلى حكم الأوليغاركية أو نظام الإقطاعيين الجدد، هو النظام الشرق أوسطي الذي يحتل المحور الأميركي الإسرائيلي موقع السيادة فيه.

وبينما تواجه الانتفاضة السورية الكبرى الحكم المطلق اليوم والأوليغاركية المرتبطة، فلن تتأخر عن مواجهة القضايا الأخرى في السنوات القادمة.

ياسين الحاج صالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى