صفحات الرأي

من ترجمة اليسار إلى اليسار المتَرجِم/ سامر فرنجيّة

 

 

شهدت صفحات المجلة اليسارية «ديسنت» في عددها الأخير نقاشاً حاداً حول الموقف المطلوب من اليسار (الغربي) تجاه الإسلاميين. والسجال، الذي دار بين مايكل والزر وأندرو مارش، وهما أستاذان في الفلسفة السياسية في الولايات المتّحدة، أعاد طرح مسألة هوية اليسار ودوره في ظل حاضر لم يعد يحضر وفق مقولات هذا التقليد السياسي. وقد تكون نقطة ارتكاز هذا البحث هي الإسلام أو الإسلاميون، والتي تشكّل اليوم تحدياً لليسار الغربي في قدرته على استيعاب «الآخر» من دون التضحية بقيم اليسار، وهذا ضمن جو عام من العداء للإسلاميين.

لتساؤل اليسار الغربي هذا تاريخ يعود إلى الثورة الإيرانية، كما أشار والزر، إن لم يكن إلى ثورة الجزائر وتمزّق اليسار الغربي، خاصة الفرنسي منه، من حولها. غير أنّ الثمانينات، في موازاة مسار الثورة الإسلامية من جهة والتشكيك الغربي بكونية التنوير من جهة أخرى، أطلقت عملية إعادة تركيب اليسار، بعدما خسر دوره السياسي وفقد ضمناته النظرية. وإذا كان الجدال الذي أطلقه كتاب «الاستشراق» من أولى إرهاصات إعادة التركيب هذه، على الأقلّ في العالم العربي، فتفاقم الصراع مع قضية سلمان رشدي وصعود مسألة الإسلام والثقافة ومن ثمّ الحروب على العراق، وربط مسألة التنوير وكونيته بمشروع هيمنة أميركية، أخذت من عناوين كالديموقراطية وحرية المرأة وحقوق المثليين غطاءً لمشروعها السياسي. في وجه هذا الواقع الجديد، انقسم اليسار الغربي حول مسألة مركزية التنوير، ما أدّى بعديد «اليساريين» إلى الانزلاق إلى مواقع المحافظين الجدد من طريق الدفاع عن إرث التنوير. وفي المقابل، صعد «يسار» آخر، شكّلت حرب العراق تجربته الأساسية وبنى مشروعه حول علاقة تشكيك بالإرث التنويري وادّعاءاته الكونية.

تأتي مسألة علاقة اليسار بالإسلاميين في أعقاب هذا الانقسام. ففي وجه «الخطر الإسلامي»، يعود مايكل والزر إلى مقولة كونية التنوير ليطالب اليسار بالخروج من خوفه من تهمة «الإسلاموفوبيا» و«الاستشراق»، والدفاع عن قيمه وجماعاته في وجه الصعود الديني. في موقفه هذا، عودة إلى ما قبل حرب العراق تحت ضغط المعركة الأيديولوجية القادمة. فالقيم كونية، مهما شكّك بها العديد، لا تحتاج إلّا لعملية ترجمة، تراعي بعض الحساسيات الثقافية والسياسية. وبهذا المعنى، فاليسار لغة متكاملة، لا تحتاج إلّا لترجمة في مجتمعات مختلفة ومتلقية لهذه اللغة.

هذا ما يرفضه محاوره الذي يرى دور اليسار في مقاومة التبسيط الجدالي السائد في الغرب، بأن يُحمَل على محمل الجد تحدي «الآخر» لمعتقدات اليسار وقيمه، ما يترجم سياسياً بأولوية مقاومة جرائم الغرب في العالم الإسلامي، وهي جرائم «أقرب» إلى هذين الكاتبين من جرائم «الآخر». قد يكون الموقف الأخير أكثر تعبيراً عن يسار ما بعد حرب العراق، الذي بات أقرب إلى «مترجم» مما هو «ناقد». ففي واقع مميز بيسار فاقد لدوره السياسي، ومقتنع بهذه النتيجة كعقاب عن ماضٍ ما، أعاد البعض اكتشاف هذا التقليد السياسي كتقليد «ترجمة»، أي ترجمة الإسلام للغرب وترجمة الغرب لذاته. هكذا، وإلى حد بعيد، بات المنتوج الثقافي ليسار حرب العراق مقسوماً إلى شقّين: شق يترجم الإسلام لجمهور غربي محاط بخطابات عنصرية أو استشراقية، محاولاً التلاعب على التماثل والاختلاف لإظهار إسلام مختلف عمّا يظهره الإعلام الغربي، وشق آخر يعيد كتابة التاريخ الغربي نفسه لـ «ترييفه» وإظهار عملية كبت هذا الآخر القابع في ذاته. إنّها عملية «ترجمة» تحاول تغيير الذات من خلال ترجمة «الآخر»، وبالتالي تستبدل سؤال تغيير الآخر لاستقبال قيم اليسار بسؤال تغيير الذات لاستقبال هذا الآخر.

من المستحيل العودة إلى موقف كونية اليسار، مهما كانت الرغبة شديدة، وكأنّ المسألة ما زالت مسألة ترجمة قيم بلغات مختلفة. غير أنّه يبدو أيضاً أنّ دور اليسار كمترجم يشرف على نهايته، أو أنه يتحول إلى مجرّد خطاب «غربي»، يدور حول معرفته لذاته وتاريخه وسياساته وجالياته، غير قادر على قول أي شيء عن مسائل لا تدخل كلياً في ثنائية الترجــمة هذه. وإذا كانت حرب العراق ساحة تطور هذا الدور، فقد جاء حدث آخر، هو الثورة السورية، حدثٌ لم تتبلور معــانيه بعد، غير أنّه ينذر بتحوّل ما، أو على الأقلّ يطالب بهكذا تحوّل. فالثورة الســورية لم تفضح فقــط خواء جزء كبــير من جــماعة «مناهضة الحرب» ودعمهم الضمني لبشار الأسد، بل، وبما هو أهم من سقوط البعض، أظهرت حدود اليســار الذي تشــكّل حول حرب العراق واستحالة مواكبته لواقع لا ينتظم بمنــظومات ماضي ما قبل الحرب على العراق ولكنّه أيضاً، لم يعد ينتظم بماضي ما بعد الحرب على العراق.

انتهت حرب العراق، وقد يكون انتهى معها دور اليسار كمترجم في وجه الغرب، أو بكلام آخر، هو انتهى لكونه نجح وبات مقبولاً وجزءاً من مؤسسات الغرب ذاته. هذا إنجاز لا عودة عنه. غير أنّ التحدي اليوم هو العودة إلى مفهوم آخر للسياسة، قد يواكب وقائع الثورات العربية وفشلها، ويبحث عن علاقة مختلفة مع صراعات هذه المنطقة خارج علاقة المترجم. هذا الدور قد ينتظر بعض الوقت. فطيران بومة منيرفا، كما قال أحدهم، لا يبدأ إلاّ بعد أن يرخي الليل سدوله. والليل لم يرخ سدوله بعد.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى