صفحات سوريةعمر كوش

من حرب النظام الشاملة إلى جحيم الإبراهيمي

 

عمر كوش

(إلى عمر عزيز..الهادئ حتى في زنزانة سجانيه)

من وقت لآخر كان الصديق عمر عزيز، المعتقل حالياً في سجون أجهزة أمن النظام الدموي الأسدي منذ 20/11/2012 وإلى يومنا هذا، يدعوني لشرب فنجان قهوة في أحد مقاهي دمشق. وقبل أن يحين موعد اللقاء بدقيقة، أو اكثر، كنت أجده جالساً، ينتظرني في المقهى المعتاد..

ومع فنجان القهوة، كانت الأحاديث تدور، لتطاول الأحوال والمستجدات والأدوار الممكنة لدعم الثورة وناسها، وتمتد إلى تناول ما يتشكل من مجالس وهيئات وتشكيلات سياسية، وما يطرح من مبادرات وأفكار.

سألني مرة، شو رأيك بتعيين الأخضر الإبراهيمي؟ يعني رح يطلع معه أكثر من كوفي أنان؟ أحسست بأنه لا ينتظر جوابي، إذ لم تمض بضع لحظات حتى أردف قائلاً، الإبراهيمي خرج من رحم النظام الرسمي الجزائري، وذهب إلى حاضنة موظفي الأمم المتحدة، الذين يهمهم كمية الدولارات التي تزيد في كل شهر رصيدهم البنكي، ولن ينظر إلى الثورة السورية بإنصاف. ثم أضاف مازحاً: على كل هو فرانكفوني جزائري، وأخاف من أنه لا يدرك تماماً ما تعنيه بعض الكلمات العربية، مثل ثورة مثلاً، فيزل لسانه..

ويبدو أن تحفظ الصديق عمر على مهمة الأخضر الإبراهيمي يتقاسمه كثيرون، فالرجل لم يعترف يوماً بأن ما يحصل في سوريا هو ثورة شعب على نظام استبدادي، بل تعامل مع النظام بدبلوماسية، تحاول إضفاء الشرعية على نظام فاقد لها. بالمقابل لم يقدم الإبراهيمي سوى تحذيرات لقوى الثورة المعارضة منذ بداية مهمته، ثم أراد أن يجرب لغة التهديد، فأعجبته، لينتقل من “مبعوث خاص” للأمم المتحدة والجامعة العربية إلى “مهدد خاص” للثورة السورية ومعارضتها السياسية، فها هو يهدد ليس بالصوملة فقط، بل بتحول سوريا إلى دولة فاشلة، يتحكم بها أمراء الحرب، إذا لم تقبل المعارضة بحل مبهم، يبقي على النظام الأسدي. والأدهى من ذلك تهديده بجحيم ينتظر السوريين، وبأكثر من مئة ألف شهيد، إن لم يتم القبول بحله السياسي الغائم، الذي لا يقول شيئاً عن محاسبة القتلة على جرائمهم، بعد أكثر من ستين ألف شهيد، بل يبقيهم في وضع المتحفز، كي يستمروا في قتلهم لشباب الثورة السورية وشيبها ونسائها وأطفالها.

والمفارق في الأمر أن الحل الذي أرفقه الإبراهيمي بلغة التهديد والوعيد، طرحه في دمشق، وسرعان ما تخلى عنه في موسكو، أمام سرغي لافروف، الذي ينطبق عليه وصف الوزير الخشبة، أي الفاقد الأحاسيس، والمعادي حتى العظم للثورة السورية. ولا غرابة في أن تكون موسكو قد أقنعت الإبراهيمي بسحب تصوراته لأي حل، بانتظار ما ستسوقه من أطروحات تشبيحية، القصد منها شراء الوقت، في اللعبة التي تجيدها الدبلوماسية الروسية لصالح النظام، ولإسناد النزعة التشبيحية ودعمها بكافة السبل.

وليس الإبراهيمي وحده من ينحاز إلى طرف النظام السوري، بل كثير من المحللين الخائضين في المسألة السورية، من قوميين ويساريين وأترابهم، أولئك الذين تتفتق أذهانهم دفاعاً عنه، ويطلقون العنان لمخيلتهم في إسقاط وإطلاق أوصاف على الوضع في سوريا، من “اللبّننة” إلى “الجزأرة” و”الصوملة” و”العرقنة” إلى “الليّبنة” إلى “البلقنة”، وصولاً إلى “السوّرنة”. وجميعها يُضمر مسميات لاحتراب أهلي طائفي، يتساوى فيه أهل النظام وأهل الثورة، ويصاحبه تدمير وتفتيت وتقسيم للوطن والشعب. وهي توصيفات قيْست على أشكال مختلفة من الحروب والنزاعات الطائفية والعرقية، باختلاف المواقع والأزمنة، كما حصل في لبنان والجزائر والصومال والعراق وليبيا والبلقان وسواها.

وينطلق أصحاب هذه المسميات من منطق مقايسة وإحالة وإرجاع، يحكمه عقل ميتافيزيقي، متعال ومتعجرف، لا يعترف بالواقع والمعطيات والظروف، ويساوي بين جميع الأطراف في المسؤولية، الأمر الذي ينجم عنه تشويش كبير، وعدم تمييز بين ممارسة عصابة النظام وقواها المجرمة، وبين أهل الثورة ومركّبها العسكري.

ويدفع الحديث المتزايد عن الحرب الأهلية في سوريا إلى فحص مفهوم ومركبات الحرب الأهلية في الفقه القانوني الدولي، وفي المواثيق والأعراف الدولية، ومعرفة الدوافع والحيثيات التي جعلت قوى دولية تدفع باتجاه متزايد نحو الأخذ بها لتوصيف الوضع السوري، والتحذير من عواقبها وإرهاصاتها على سوريا والمنطقة. والأهم هو معرفة مدى تطابق الوضع في سوريا مع توصيف الحرب الأهلية، خصوصاً وأن قوى عديدة في العالم مازالت تتردد في الأخذ بمقولة الحرب الأهلية، من منطلق رفضها المساواة في الأرضية الأخلاقية والإنسانية للصراع ما بين النظام وبين المعارضة وجمهور المحتجين.

ولا شك في أن تفرد الحالة السورية، وخصوصيتها، من جهة طول أمد الأزمة وتداخلاتها الإقليمية والدولية، جعلها موضع نقاش وسجال واختلاف حول دقة التوصيف لما يجري منذ أكثر من اثنين وعشرين عشر شهراً، لكن ذلك لا يحجب حقيقة أن الثورة بدأت في صورة حراك احتجاجي سلمي، تركز حول مطالب الحرية والكرامة، إلا أن الحرب التي يشنها النظام جعل الحراك الثوري يمرّ بأطوار عديدة، خصوصاً بعد الانشقاقات والتسلح.

وبالرغم من أن النظام يرتكب في حربه المجازر العديدة، إلى جانب تماديه في الشحن الطائفي والمذهبي، إلا هناك من يتغاضى عن كل ذلك، ويحاول توصيف الوضع بأنه حرب أهلية، وهو أمر لا يعكس حقيقته، ذلك أن تعريف الحرب الاهلية يشي بوجود صراع مسلح بين مجموعتين منظمتين في دولة واحدة، هدفه السيطرة على هذه الدولة أو على جزء من أراضيها للانفصال عنها.

وقد بني مفهوم الحرب الأهلية تاريخياً، في العالم الحديث، في نطاق النزاعات المسلحة غير الدولية. وهو مفهوم سائب، غير صلب، وغير مقيد، يتداخل مع سواه من النزاعات الداخلية، ولا يوجد توافق في المواثيق والقوانين الدولية حول مركباته أو حول معناه الدقيق. وهناك من فقهاء القانون الدولي من يعتبر الحرب الأهلية حرب ساحات مفتوحة، وحرب الأحياء والشوارع والسجون، يتقاتل فيها الجار مع الجار، والصديق مع الصديق، والخصم مع الخصم، أو حسبما قال الفيلسوف توماس هوبز حرب الكلّ ضد الكل. كما يعتبر بعض فقهاء القانون الدولي أن الحرب الأهلية تندلع داخل الوطن الواحد بين طرفين مستقلين، بوصفهما عدوين، يسعى كل منهما الانتقام من الآخر وتصفيته، ولا يعترف أحدهما بالآخر أو بحكم مشترك بينهما.

وتضع مختلف التعاريف القانونية والسياسية الحرب الأهلية في خانة النزاعات المسلحة غير الدولية، مركزة على نطاق النزاع المسلح، وعلى وصف الأطراف المتنازعة، الأمر الذي يكسب المفهوم صفة الاتساع والعمومية والشمول. أما وثائق القانون الدولي، فلم تتطرق إلى مفهوم الحرب الأهلية، بل ركزت على النزاعات المسلحة الدولية بشكل عام.

ولا يستطيع أحد أن يزعم وجود معايير محددة بذاتها لوصف وضع ثوري أو مأزوم في بلد من البلدان بالحرب الأهلية، نظراً لاختلاف مركباتها من وضع إلى آخر، وإن كان ثمة مشتركات ومؤشرات عليها، تتمحور في اقتتال أهلي واسع، تشترك فيه مكونات المجتمع الواحد، وداخل الوطن الواحد. وهو أمر لم يحصل في تاريخ سوريا، وليس حاصلاً في حاضرها. ذلك أن ما يجري منذ أكثر من اثنين وعشرين شهراً هو حرب شاملة بدأ النظام بشنها ضد الثورة السورية، التي بدأت حراكاً احتجاجياً، تحول إلى مقاومة شعبية، نشأت في سياق الرد على حرب قوى النظام على الثورة وناسها.

ولا يمكن وصم حراك ثوري مجتمعي بالاقتتال الأهلي، لأن طابعه يخص عموم الناس، من سائر المتضررين من ظلم النظام، ويجمع قطاعات واسعة من الناس، من مختلف المشارب والفئات والانتماءات، من شباب وشيوخ، ونساء ورجال، محركهم الأساس الخلاص من الاستبداد ورفع الظلم، ويقوي عزيمتهم الاعتقاد الراسخ بالسعي لتحقيق المطالب والآمال بالحرية والكرامة.

إذاً، الحرب الوحيدة في سوريا هي حرب النظام ضد الثوار وحاضنتهم الاجتماعية، والتي بدأها منذ 15/3/2011، وما يزال مستمراً فيها، وبالتالي فإن جحيم الإبراهمي أهون لدى ثوار سوريا من حرب النظام وقمعه واستبداده.

غير ان الإبراهيمي لا يقول المطلوب عن حرب النظام ضد الشعب الثائر، ولا يهدده بالجحيم، بل يخاطبه وفق منطق سيادة فقده منذ إطلاقه أول رصاصة على المحتجين، ولن تنطلي تهويمات الحلول السياسية التي يسوقها، نيابة عن القوى الدولية، التي تريد فرض تسوية تنتصر للنظام، حسب ساسة النظامين، الإيراني والروسي، أو تبقي على جسم النظام الأساسي، حسب القوى الدولية الأخرى.

وأيا تكن توصيفات الوضع في سوريا، فإن الحراك الثوري لن يوقفه أياً كان، قبل أن يبلغ مراده وأهدافه، فهو مستمر بالتضحيات مهما تغوّلت قوى النظام في القمع والقتل. وقد برهن على تقديم مثال للتضحية بكل ما لديه، كي يحقق طموحاته التي يسعى إليها في العيش بكرامة ومن دون خوف، وأن يحقق مواطنيته، بما تقتضيه من حقوق وواجبات، والأهم هو أنه لن يتوقف عن امتلاك مختلف سبل المقاومة المدنية والعسكرية، والتصميم على تحقيق أهدافه ومطالبه.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى