صفحات سوريةعلي العبدالله

من دروس الثورة السورية: لا تسوية مع النظام


علي العبدالله()

لم تكن الثورة السورية وليدة عمل حزبي أو منظم، فقد أطلقتها قوى اجتماعية غير منظمة أو مسيسة في الأغلب الأعم. لذا فقد استحقت وصف ثورة شعبية بجدارة، ولهذا فقد عرفت مواقف وممارسات عفوية غير منسقة وغير نمطية. ممارسات متغيرة، متطورة. وقد ترتب على هذه الانطلاقة وهذه السمة نتائج ودروس يمكن إجمالها بالآتي:

1 انفجرت الثورة احتجاجا على واقعة اعتقال تلاميذ في مدينة درعا وتعذيبهم من قبل مخابرات النظام، ولم يكن في ذهن من تظاهر لا مشروع محدد للتغيير ولا الثورة على النظام، وقد تطور الهدف ردا على معالجة النظام القمعية والهمجية، فانتقلت من الاحتجاج إلى إسقاط النظام، مرورا بالإصلاح. وقد تطور اداء الثوار وأخذت تتشكل أطر عملياتية تحت مسميات عدة: تنسيقيات، مجلس ثورة، مجلس قيادة ثورة، مجلس ثوار، وفق نسق مفتوح وسري في الوقت نفسه، تقوم بدور تنظيم التظاهرات من تحديد الشعار، الى تسمية الجمعة، مرورا بتجهيز اللافتات، وتأمين وسائل لعلاج الجرحى. ثم تطورت مع التصعيد في استخدام الاسلحة من قبل قوات النظام ومخابراته وشبيحته، وتزايد عدد الجرحى، الى مشافي ميدانية، ناهيك عن اغاثة الاسر والمدن والبلدات والقرى المنكوبة ببطش النظام بتوفير اغذية وألبسة… الخ.

تطورت العفوية وردات الفعل مع مرور الوقت الى تبلور وعي بطبيعة المواجهة مع النظام، باعتبارها ثورة من اجل الحرية والكرامة، وهذا يستدعي اسقاط النظام وإقامة نظام ديموقراطي تعددي تداولي، والى فعل منظم له ملامح واضحة وخطط قريبة وأخرى بعيدة، أدى الى دخول مدن وبلدات وقرى في المواجهة / الثورة بشكل متواتر، والى تبني رؤى سياسية وبرامج مستقبلية. ما عنى ان الفجوة بين النظام والشعب كبيرة والقطيعة النفسية بينهما عميقة جدا، وان المجتمع السوري يختزن طاقات كبيرة في انتظار من يفجرها، ولكن عدم وجود قوة سياسية قادرة على ذلك لعب دورا في تأخير انفجار الثورة حتى جاءت ثورات الربيع العربي فلعبت دور المفجر.

2 – لم يستطع النظام الاستبدادي تفهم مشاعر المواطنين المعادية له، ناهيك عن مواقفهم الرافضة لبقائه، فهذه في نظره من المحرمات، والرد عليها يجب ان يكون حاسماً وعنيفاً وقاسياً إلى أبعد الحدود. لذا جاء رد النظام، ومنذ اللحظة الأولى، على التظاهرات السلمية، دموياً، عبّر فيه عن صدمته من موقف المواطنين منه، ورفضه المطلق لحقهم في الاحتجاج والخروج عليه، وعن تمسكه بالوضع القائم، ورفضه لأي تغيير مهما كان حجمه أو مستواه. وهذا يفسر تصعيده لعمليات القتل واستخدامه لأسلحة ثقيلة وفتاكة، وقصفه المدن والبلدات والقرى بالدبابات والراجمات والهاونات والمروحيات. واستهداف مستلزمات الحياة اليومية، من ماء وكهرباء ومحروقات وأفران، وصولا الى الذبح للنساء والأطفال واغتصاب الفتيات والنساء على اسس طائفية.

غير ان العنف والقتل المنهجي أعطى نتيجة عكسية، فبدلاً من كسر إرادة المواطنين وإعادتهم الى القمقم، الى حال الخوف المديدة التي كانوا فيها، جذب جموعاً جديدة من المواطنين إلى الثورة ووسع التظاهرات وطور الأهداف، فكلما زاد توحش النظام وتصاعد قتله وتنكيله زادت الكراهية وزاد لهيب الثورة.

3 ادى استمرار الاحتجاجات واتساع نطاقها، افقياً وعمودياً، وصمود المواطنين وتضحياتهم الكبيرة، الى تحرك المجتمع الدولي، بحيث تصاعدت الادانات وصدرت قرارات بمعاقبة رموز النظام، بالتوازي مع تصاعد عمليات القتل والتنكيل، كما صدرت مبادرات للحل. لكن رفض النظام لهذه المبادرات، وتمسكه بالبقاء في السلطة، دوّل القضية، وحوّل سوريا إلى ساحة للصراع الدولي وللمقايضة على المصالح بين القوى الاقليمية والدولية ولتصفية الحسابات فيما بينها.

4 أدى عنف النظام واستخدامه المفرط لكل الاسلحة المتوفرة لديه وتبنيه لخيار عسكري حربي، بعد فشل الحل الأمني البوليسي، الى دفع عدد متزايد من العسكريين للانشقاق عن الجيش، وتشكيل كتائب تحت اسم الجيش السوري الحر، والى ميل المواطنين لاستخدام السلاح دفاعاً عن النفس والأهل. وقد ترتبت على ذلك نتيجتان، الأولى حدوث قطيعة نفسية بين المواطنين والنظام، وتحوّل في مشاعرهم ازاء النظام بكليته، وانتقالها من الولاء الى الولاء الجزئي فالرفض الكامل. والنتيجة الثانية تبلور نمطين من النشاط في الثورة سلمي وعنفي، وخطين في ادارة المواجهة، تظاهرات ومعارك بالسلاح، أحدهما يتغذى على الآخر بحيث يتراجع النشاط السلمي/ التظاهرات في المناطق التي تشهد مواجهات مسلحة. ومعها خسارة التظاهرات آلاف المشاركين نتيجة لتغير الاساليب والأدوات، وهي ظاهرة موضوعية حدثت في الانتفاضتين الفلسطينيتين الاولى والثانية. والعكس صحيح، كلما تراجع استخدام السلاح، تقدم المتظاهرون وانتعشت حركة الاحتجاج السلمي. ومن جهة ثانية حصول مواجهات مباشرة بين الجيش والجيش الحر، في حرب غير متكافئة بسبب اختلال ميزان القوى كمّاً ونوعاً لصالح جيش النظام، وهذا أدى الى إلحاق خسائر كبيرة بالأرواح بين المواطنين وعناصر الجيش الحر على حد سواء، بالإضافة إلى الأضرار المادية الجسيمة التي تلحق بالمدن والبلدات والقرى، نتيجة اعتماد الجيش الحر على تكتيك حرب المواقع، بينما يقضي المنطق العسكري الالتفاف على اختلال ميزان القوى، باعتماد تكتيك حرب العصابات، والتوزع الى مجموعات صغيرة سريعة الحركة، تنتشر في طول البلاد وعرضها، بحيث تدفع الجيش الى الانتشار على مساحات واسعة، تبعده عن مصادر إمداده، وتجعل الدعم اللوجستي صعبا، ويستغرق وقتا طويلا، ما يضع جنود وضباط النظام في حال نفسية صعبة، نتيجة تعرضهم لهجمات مباغتة من مجموعات الجيش الحر. هكذا وبسبب النقص في الإمداد، وبوجود مجموعات تقاتل وفق قاعدة اضرب واهرب، بحيث تستنزف قدرات الجيش وتنهك رجاله، من دون أن تمنحه فرصة استثمار تفوقه في العديد والعدد. لكن ما يحدث هو الدخول في مواجهة مباشرة، تمنحه فرصة تسجيل انتصارات على الثورة، كما حصل في بابا عمرو وادلب والزبداني وغيرها. وهاتان النتيجتان قادتا الى تراجع عدد المتظاهرين في مناطق الاشتباكات المسلحة وتكبد الثوار خسائر عسكرية في هذه المواقع، وهذا اعطى انطباعا سلبيا وكأن الثورة تتراجع وتفقد شعبيتها، والنظام يحقق انتصارات ويستعيد السيطرة على الارض.

5 – كشفت الثورة المستمرة والمتصاعدة عجز النخبة السياسية السورية، ونقاط ضعفها، فقد بدت لحظة انفجار الثورة معزولة عن الواقع الشعبي، وقد تجلى ذلك في تفاجئها بالحدث نتيجة لقراءتها غير الدقيقة للواقع المحلي، حيث لم تحسن تقدير المزاج الشعبي، وتتلمس النار المتقدة تحت الرماد، ولم تتوقع حصول ثورة، وبهذه القوة، كما انكشف عجزها في طروحاتها وفي ادائها العملي، حيث كشف تحركها العملي، عبر الندوات والمؤتمرات والصيغ الجبهوية (تحالفات، ائتلافات) عن نمطية تكرر وصفات لم تثبت نجاعتها في الماضي، وهي تحاول ترويجها في ظروف ثورة مشتعلة. وقد توزعت قواها على مواقف متعددة متباينة بين من التحق بالثورة، وهم قلة قليلة، وشارك فيها بطريقة مباشرة وغير مباشرة، ومن يريد ركوب موجة الثورة من دون فعل حقيقي، ومن يريد حلا وسطا مع النظام، رأى انه السقف الذي يمكن ان تبلغه الثورة، ومن اثار هواجس ومخاوف من الثورة وتداعياتها على المجتمع والدولة على خلفية طبيعة القوى التي تتظاهر والتي تهيمن على الشارع، والعمل على احتواء الثورة.

لقد كشف الشعب، وخاصة جيل الشباب، بثورته، اغتراب النخبة السياسية السورية العميق وانفصالها عن المجتمع الذي تعيش فيه، لذا كانت استجابتها الأولى للحدث العظيم مرتبكة ومتخبطة وعاجزة عن الفعل، لم تجد في وعيها وخبراتها، التي كوّنتها في العمل السري وفي الغرف المغلقة والصالونات والمقاهي، أجوبة للأسئلة التي طرحتها الاحتجاجات الشعبية، ناهيك عن الامراض الذاتية التي طفت على السطح: شخصنة المواقف، وذاتيات متضخمة، وحساسيات، ومعارك تصفية حسابات في لحظة سياسية تستدعي نقيض ذلك، لحظة تستدعي ايجابية عميقة وتضحية ونكران ذات، تستدعي تجاوز الوعي التقليدي وتجاوز النمطية، تستدعي استجابة سريعة للمتغيرات وسعة خيال لإبداع تصورات وحلول تخدم الحدث وتدفعه الى الامام، الى الاستمرار والصمود في وجه نظام متوحش، والانتصار عليه، وتحقيق الأهداف، وتستدعي الانخراط في الحدث، والتكيف مع المتغير، والتفاعل مع الثوار، وبخاصة جيل الشباب، وإجراء اعادة تقييم للذات وللبرامج القديمة والتعاطي مع الثورة وفق مقتضياتها لا وفق خبرات كشف الواقع الحي عدم صلاحيتها.

لقد واجهت النخبة السياسية السورية لحظة سياسية شديدة الزخم والفعالية، برتابة ونمطية فجة، وبحلول مكررة أخرجتها من جعبتها التي علاها الغبار والصدأ، لتكشف عن حالة تصلب شرايين سياسي عميق وعجز عن التكيف والفعل المبدع الخلاق.

نجحت قوى اجتماعية غير منظمة، شبابية في قسمها الأعظم، في ردها الحاسم على الاهانة والمذلة، في تحريك قطاعات واسعة من الشعب، وزجها في أتون حدث ثوري كبير وعظيم، على خلفية السعي لاستعادة الحرية والكرامة المسلوبتين، ومازالت بالرغم من المعاناة العظيمة والتضحيات الجسيمة مستمرة في المواجهة ومصرة على بلوغ هدفها في الحرية والكرامة.

النظام من جهته اعتمد، ومنذ اليوم الأول، على القوة المفرطة. وقد صعّد عنفه مؤخراً في مواجهته للقوى الشعبية السلمية والمسلحة بتبني سياسة الارض المحروقة، وهو في سباق مع الزمن علّه ينجح في أحد أمرين: دفع المبادرات والحلول السياسية المطروحة الى طريق مسدود، وإجبار القوى العربية والدولية على الانسحاب من الساحة، والتخلي عن البحث عن حل، وتركه يواجه الشعب بالطرق التي يرتئيها، أو سحق الثورة وفرض امر واقع، والاحتفاظ بالسلطة، والتكيف مع مرحلة من العزلة، قد تطول قبل أن يعود، بحكم الأمر الواقع، الى الحظيرة العربية والدولية.

أما لمن ستكون الغلبة، فالتاريخ وروح العصر ينحازان الى الشعوب، والثورة السورية ثورة شعب وهي تسير مع التاريخ، وخدمة لتحرر الانسان ورقيه، ولسوف تنتصر وتحقق اهدافها في الحرية والكرامة.

() كاتب سوري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى