صفحات الرأي

من سوف يهزم «الواقع الفاسد»؟/ مطاع صفدي

 

 

 

سؤال أين هو الخطأ، أصبح أهم من السؤال، ما هو الخطأ. هذا الفارق بين السؤالين لا يعني أن البحث عن ماهية الخطأ أصبح أقل أهمية من البحث عن مكان الخطأ، عن وجوده. لكن الواقع العربي الذي انتهى تاريخه وتشكيله إلى الخطأ لم يعد صالحاً حتى للدلالة على أخطائه. كما لو أنه بات واقعاً فاقداً لوجوده، فما يكتنفه في مساحاته كلها لن يكون له جنس يختلف عن أجناس أمكنته عينها.

لا يمكن الحكم على هذا الواقع العربي بكلمة واحدة، وهي أنه أصبح هو والخطأ سيان، فما زال لهذا الواقع ثمة بعضُ الوعي الذي يمكنه أن يصرح بالفم الملآن أن الواقع ليس هو الخطأ ولكن هناك من يرتكبون الأضاليل باسمه، وهو غائب، ولا يمتلك لا حقاً ولا أداةً للدفاع عن براءته. لأن الواقع هو تشخيص عام. ولا شيء محدداً يمكنه أن يجسد التوصيف العام بتعريف جامع مانع. أي جامع لكل خصائصه الممكنة ومانع للدخول عليه بالطفيليات، آتيةً من أية مصادر غريبة عنه. فإن إلصاق نعت الفوضى بالواقع العربي الراهن لا يجعله مفهوماً أكثر بقدر ما يزيده غموضاً والتباساً. فالأصل في مسألة التعريف أنه في حال ابرازه لإحدى خصائصه لن يأتي بشيء جديد، وإن لم يبرزها فكأن هذه الخاصية فاقدة لوجودها. فالواقع الذي هو فوضى لا يفرض دليلاً حاسماً على بطلانه كواقع سليم، بل يأتي مؤيداً لهذا البطلان؛ كونه هو الواقع الذي يدعو بقية سكانه غير الفوضويين بعد أن يرفضوه، أن يشيدوا الحواجز العالية الفاصلة ما بين عالم ضحاياه وعالم الناجين من أهواله، إن أمكنهم ذلك.

مجتمعاتنا العربية في الخارطة الوجودية الراهنة. لا تعرف حتى الأن كيف يمكن للواقع الفاسد الفوضوي أن يفترس الواقع السوي، وأن يفرغه من محتوياته الحضارية، وأن يحيله إلى قاع صَفْصفٍ، من هياكل جافة هرمة وهو يفعل كل ذلك من دون أن يفقد شيئاً من ذاكرته الحضارية، من دون أن يلحق أي لَوَثٍ ببقايا أفكاره عن تلك المدنية المغدورة.

عندما ينجز الواقع الفاسد سيطرته الكاملة على الواقع القديم المنهزم، لا يعود ينشغل أحد في المساءلة عن الفساد، ومن أين وكيف أتى واجتاح واستبدّ بكل شأن في المدينة، وأناخ بكلكله على كل هامة فيها مهما علا مقامُها. يصير البحث عن أصول الفساد أشبه بلازمة تكفيرية عن مشروعيته الضالة؛ بمعنى أن الفساد المتمادي يبهره انكشاف أسبابه للملأ، مما يجعله أشد تمسكاً بآلياتها، كما لو أنها أضحت هي النسيج الحقيقي المتبقي للواقع العام. يحدث هذا في الوقت الذي ينخرط الجميع في تبرير سطوته باعتباره أمسى تعبيراً جماعياً عن الكل باسم هذا الكل عينه. هكذا لا يصير الفساد أمراً عادياً استناداً إلى دعم المنتفعين بخيراته فحسب، بل غالباً ما يتحول حتى أكبر ضحاياه إلى أشباه شركاء له، ينافسون أسياده الأوائل بالمزيد من خدماتهم المجانية في مجال التخريب المتحالف مع مؤسساته، القائمة في مختلف زوايا العمل العام.

الواقع الفاسد هو الحليف الأول للواقع السياسي الاستبدادي. بل ينبغي القول أن الاستبداد إنما يتقاضى أجوره من جيب الفساد وجهوده، فليس للطغاة من محاربين مخلصين وأصدقاء لفظائعهم إلا أولئك المتاجرون ببقايا كراماتهم مقابل حفنات من أموال الآخرين المسروقة. فالفساد يوظَّف الديكتاتورتات لحسابه الخاص. لكنه يفرض عليها استحقاق العار الذي بدوره يفرض مضاعفة أثمانه وأجوره. فلا فكاك من جدلية الاستبداد/الفساد. كل منهما مسؤول عن القطبيْن معاً. هذا لا يحتّم الاختلاط في الماهية ما بينهما. ذلك أن التداخل بينهما في الفعالية يفترض انفصالهما في المفهوم الذي لا يمنع أو يعيق أبداً تصالبهما معاً في الأوقات الحرجة، لكن لا بد لكل من مفهوم الواحد والآخر أن يكون له استقلاله المنطقي على الأقل: فحين ينهار الكيان السوي لمجتمع ما، أي عندما لا تتبقى للمجتمع المنهزم حضارياً وحقوقياً ثمة خاصية معرفية ما. حتى ولو كانت انسلابيةً كلياً، فلا يمكن تسويغ أسباب انهياره بمرجعية الطغيان أو مرجعية الفساد. ليس إحداهما سابقة للأخرى. إنهما الفاعلتان معاً، ولكن كلٌّ منهما بطريقتها الخاصة. ولا يمكن الاستنتاج سريعاً أن الفساد هو صاحب الضربة القاضية الُمنْزلة على رأس المجتمع المنهار. كما لن يكون الأمر ضرورة منطقية خالصة، القولُ أن الطغيان هو الفاعل الأول والأخير في الكارثة المطلقة. هناك من يعترض معرفياً على كلا الحالين، الاستبداد، والفساد فكلاهما توصيفان يلحقان بكلية أشمل هي المجتمع نفسه. فهو الأسبق في وجوده على وجود أوصافه، أو أنه ليس هو كياناً معرفياً إلا بما له من هذه الخصائص. فالعلة الحقيقية هي في طبيعة وجود الموضوع نفسه. فهل نحن مضطرون إذن إلى اعتبار أن منشأ مركب الاستبداد/الفساد ليس صانعاً أو مصنوعاً بأمر ذاته. وأن اللغز الأصلي إنما تخبئّه في حِرْزِها مفهوميةُ هذا المجتمع. فقد لا يعني هذا أن المجتمع هو منتج الاستبداد والفساد، وذلك لعلّة مافي ذاته كما يقول بعض المناطقة.

ولسوف يحارُ الفكرُ العلمي طويلاً قبل أن يتاح له فض هذا اللغز. غير أن تلك الحيرة لن تكون ذات أفق تجريدي خالص. بل ربما أباحت لبعض باحثينا الجديين التحرر قليلاً مما يدعى في علم المنطق بالدور الفاسد. فلن نجازف باتهام مجتمعاتنا المعذبة أنها تحولت إلى مصانع لإنتاج أصناف القتلة والذباحين واللصوص العلنيين. حتى كاد مركب الاستبداد الفساد يتأصّل، كأنه صار هو حجر الأساس في بنيان الانتظام الاجتماعي، وأنه بالتالي، لم يعد ممكناً بناء أي نسق هيكلي في هذا الكيان إلا بحصة هنسية ما يحددها له حجر الأساس هذا. أي أن الصراع ضد المركّب (الاستبداد/الفساد) إن كان له وعوده الجديدة مستقبلاً، فلن تتاح له الفرصة، ولن تتوفر له الأداة لتحقيق هذا الخلاص إلا تحت إِمْرةِ وفي عُهْدَةِ مؤسسة المجتمع المنهزم نفسه.هل بَطُلَتِ التعويذة الشعبية القائلة: وداوِها بالتي كانت هي الداء.

الحلقة المفرغة، أو الدور الفاسد، ليس اصطلاحاً متروكاً للغبار والنسيان. إنه وحش عقلاني رهيب، بل هو أوحش الوحوش العقلانية في تاريخ الفكر الإنساني، لأنه هو الأبقى والأدوم مهما تراكمت فوقه أطلال الدهور والأفكار المنسية. ولماذا كانت له هذه الإتهامات. لأنه أخرج نفسه من دائرة اليقين التقليدي المتمسك بقانون الصواب والخطأ. فهو لا يقرّ بسهولة بمبدئية هذا القانون: مثلما ليس هناك صواب مطلق كذلك ليس هناك خطأ مطلق. والتآخذ بين الحدين يفسّره قانون آخر مطرود من أكاديميات المدارس اليقينية المطلقة، إنه قانون الحلقة المُفْرغة الذي كان دأبه زعزعة اليقينيات المؤدلجة خاصة، ثم صارت مهمته اكتشاف الخروق في حصون كل ماهو مُغلق، أو حبيسٍ محاصر.

المجتمع العربي المهزوم سياسياً أخلاقياً، والمرشح لهزائم أخرى أكبر وأخطر، لا يمكنه أن يتهم أية قوة أخرى كونها قد أسقطته في أفخاخ لا تنتهي من إنتاج مركب الاستبدا/الفساد. ذلك أن خيباته النهضوية المتوالية جعلته يعوّض عنها بحفر أفخاخ من الهزائم الأخرى لطلائعه المتقدمة.لم يعد مجتمعاً صالحاً لحمل مزايا الشعوب الناهضة. فلقد انهكته طويلاً فبَرْكةُ العباءات المهترئة ليغطي بها جسده النحيل المتخشب. فلم يتساقط أخيراً في مهاوي التديّن والتذابح إلا يأساً من كل ما هو حرية لا تقوى على حملها أكتافُ متهالكة مقدماً. فالتداوي بذات السموم التي قتلت مجتمعاتنا التقليدية ليس تعبيرياً عكسياً بالعجز عن قتل المعتدي الآخر، والإنكفاء بدلاً منه إلى قتل الذات. ليس هذا المغزى الوحشي وحده هو مشرّع سياسات الانهزام المتنوعة. فالسموم القديمة لا تعرف إلا الاستعمال القديم. وظيفتها أن تقتل اليائسين بسلاح يأسهم عينه، بالاستسلام الطوعي لإرادة الإنمحاء المعمم.

كل أسماء الحزبيات والمذهبيات والأدلجات والجهاديات صارت لها أعلامها السوداء التي لن تغطي أنهار الدماء المتدفقة حولنا. قوافل المهاجرين والفارين تخالط قوافل القتلى والجنازات.. ذلك هو الواقع الفاسد الذي أفسد أخيراً الدم والموت والمنفى. لم يعد لشيء معناه المفهوم إلا أنه باحث عن حيزه في القاموس السياسي الجديد لمقتلة الأمة العربية المستدامة..

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى