صفحات الرأييزن الحاج

من سيصدّق عطيل؟

 

يزن الحاج

في مقالته بمجلة نيو ستيتسمان البريطانية (شباط 2013)، “لا تجعل أورويل يخدعك”، يبدي الصحافي إِدْ سميث اعتراضه على أطروحة جورج أورويل التي نشرها عام 1946 في مقالته “السياسة واللغة الإنكليزية” ويعتبر فيها بأن “النّفاق هو العدوّ الأكبر للّغة الواضحة. وحينما تكون هناك هوّةٌ بين الأهداف الحقيقية والمعلَنة، ينزع المرء، غريزياً، إلى الكلمات الطويلة”. يرى سميث العكس، “فعندما يريد السياسيون ردم الهوّة بين كلامهم والحقيقة، تكون تقنيّتهم المفضّلة هي التحدّث ببساطةٍ مضلِّلة. وتصبح عبارة “لنكن واضحين”، هي التقنية الأكثر انتشاراً، بالمقارنة مع الفصاحة التي يريدها أورويل”.

ولو حاولنا تطبيق مقاربة سميث عربياً، لوجدنا أن السياسيين العرب انتبهوا مبكرين إلى أهمية الكلام البسيط في “الخطابات الجماهيرية”. فعند المقارنة في الحالة اللبنانيّة عام 2005، بين خطاب 14 آذار الممثَّل بسعد الحريري، والخطاب المقابل لقوى 8 آذار الممثَّلة بحسن نصر الله، سنجد أن خطاب 8 آذار كان هو الطّاغي شعبياً، بصرف النّظر عن نتائج الانتخابات التي ترتبط بقانون انتخابيّ إشكاليّ. كانت لغة نصر الله البسيطة مفتاحاً لدخول الغرف المغلقة في البيوت، عبر جهاز التّخدير المركزيّ (التلفزيون)؛ وكان الترقّب على أشدّه للخطابات على قناة المنار، بالمقارنة مع الفيديوهات الساخرة التي انتشرت حينها للحريري ولعثماته أمام مجلس النواب؛ دون أن نعني في هذا المثال والأمثلة القادمة، بأن الطرف الآخر في المعادلة هو الأصدق بالضرورة.

في الحالة السورية، تبدو المقاربة أوضح. فمع تأسيس المجلس الوطنيّ انتشرت أجندته الإعلامية من خلال اللغة الواضحة لبرهان غليون، ولكن مع تسارع الأحداث انخفضت شعبية غليون مقارنةً بأشخاصٍ أقل ثقافةً وخبرةً سياسية كان للغتهم الأقرب إلى العامية والمباشَرة أثرٌ كبير في صعودهم المدوّي (مثل بسام جعارة أو عمار القربي). وتبقى النتيجة ذاتها فيما لو قمنا بمقارنة لغة غليون ما قبل الثورة وأثناءها، إذ ابتعد عن المصطلحات الأكاديمية التي كانت ملتصقةً بشخصيته، وبدأ التحدّث بلغةٍ أكثر بساطة. ومع ظهور معاذ الخطيب، رئيساً للائتلاف السوريّ، انخفضت أسهم الأكاديميين والسياسيّين الآخرين شعبياً. وبالرغم من إمكانية إضافة تديُّن الخطيب كسببٍ إضافيّ في شعبيته، إلا أن الإطلالة البسيطة واللغة الهادئة والصوت الخفيض كانت عوامل محوريّة في انتشاره، مستندًا على خبرةٍ طويلةٍ من الخطابات “الجماهيرية” في خطب الجمعة.

ويرى سميث بأن “الطبقة السياسية تتحدّث الآن كما تلبس: ببذلاتهم الكحليّة وقمصانهم مفتوحة الياقات. حيث لاقت الصّفاتُ الفصيحةُ المصيرَ ذاته الذي لاقَتْهُ ربطات العنق القصيرة (البابيون). ولكنّ هذا ليس تطوّراً أخلاقياً؛ بل هو موضةٌ فحسب”. ولو عدنا إلى خمسينيات القرن الماضي، سنجد بأن اختيار الضبّاط الأحرار لأنور السادات كي يلقي “بيانات الثورة” كان مقصوداً بسبب صوته الخطابيّ، وسمرة بشرته اللذين يجعلان منه صورةً مثاليةً لـ “القائد البسيط”، بالمقارنة مع الأزياء الباذخة والسُّمنة المفرطة للملك فاروق. وقد استمرت هذه اللعبة التوريطية، في اللغة واللباس البسيطين، عقوداً طويلة وصولاً إلى محمد مرسي وخطابه المدوّي في ميدان التحرير، على عكس أحمد شفيق ببذلاته الباذخة و”اختبائه” خلف شاشات الفضائيات.

وكذلك يشير سميث إلى قدرة اللغة البسيطة على “تحويل القاتل إلى ضحية”. إذ يمكن تطبيق هذه النقطة عبر الانتقال من السياسة إلى الأدب، حيث تبدو الأمثلة الأدبيّة أكثر وضوحاً من الوضع السياسيّ الضبابيّ، فالصورة الشعبية لـ إياغو (في مسرحية “عطيل” لشيكسبير) “تأتي من دقّة كلماته. ويتمّ تصديقه (على عكس عطيل) لأنه يتحدّث عن الحقائق البسيطة”.

وهنا، لن تُفيد عطيل لغتُه العالية أو حتى تعاطف أو تصديق قسمٍ من الجمهور إذ أن “الجماهيرية” بقيت بيد إياغو (كسلطةٍ سياسية وأدبية) ولغته البسيطة التي كان لها مفعول السحر في التأثير على الجمهور الضمنيّ في المسرحية، والجمهور الخارجيّ كصورةٍ مصغّرةٍ عن الشعب الذي يتوجَّهُ إليه السياسيون بخطاباتهم.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى