صفحات العالم

من سيقود الشرق الأوسط؟


حتى قبل قذائف “حماس” الأخيرة والضربات الجوية الإسرائيلية لقطاع غزة، تصدر القطاع عناوين الأخبار بصفته وجهة دبلوماسية لزعماء الشرق الأوسط. فالشهر الماضي، زار أمير قطر غزة، كما يدرس العاهل البحريني إمكانية القيام بزيارة مماثلة. ومن جانبه، أعلن رئيس الوزراء التركي نيته السفر إلى القطاع.

التقارير الإخبارية تذهب إلى أن اهتمام الزعماء سيزيد من شرعنة زعماء “حماس” في غزة على حساب السلطة الفلسطينية التي يقودها عباس في الضفة الغربية. غير أن الاهتمام الدبلوماسي المفاجئ بغزة له علاقة أكثر بقادة يسعون إلى تلميع صورهم كزعماء إقليميين محتملين. فالانتفاضات والثورات والحروب الأهلية التي غيرت الحياة السياسية في العالم العربي بشكل دراماتيكي كان لها تأثير عميق على موازين القوة الإقليمية. ويمكن القول إن الشرق الأوسط بات محل تنافس الجميع، غير أن البلد أو البلدان التي ستتزعمه لا تقل غموضاً وتعقيداً عن الجهود الحالية الرامية لبناء أنظمة سياسية جديدة في مصر وليبيا وتونس وغيرها.

والواقع أن موضوع الزعامة مهم وأساسي بالنسبة للمنطقة، والبلدان التي تحظى بالهيبة والاحترام وتمتلك الموارد المالية والدبلوماسية والعسكرية تستطيع تحريك الأحداث في الشرق الأوسط، تحريكاً يؤمل أن يكون نحو الأحسن، لكنه من الممكن أن يكون نحو الأسوأ.

في ربيع 2011، كان بعض المراقبين يعتقدون أن تركيا تشكل نموذجاً للبلدان التي تتطلع إلى حياة سياسية ديمقراطية واقتصادات ناجحة في العالم العربي. اعتقاد كرسته زيارة أردوجان للقاهرة وتونس وطرابلس في سبتمبر 2011 والتي كرست فكرة أن أنقرة هي المركز الطبيعي لنظام إقليمي جديد صاعد.

والأكيد أن تركيا لديها الكثير لتقدمه، فهي أكثر ديمقراطية من أي بلد في العالم العربي، وتفاخر بكونها الاقتصاد السادس عشر في العالم. كما أن اللهجات العربية المختلفة التي يتحدثها المصريون والليبيون والسعوديون وسياح آخرون عند مكاتب مراقبة الجوازات بمطار أتاتورك الدولي في اسطنبول أو في البازار الشهير، تعكس جاذبية تركيا الإقليمية. غير أنه بعد أكثر من عام ونيف على جولة أردوجان العربية، أخذت شعبية تركيا تتراخى نسبياً، وإن كانت لا تزال قوية. ففي استطلاع حديث للرأي، كشفت “المؤسسة التركية للدراسات الاقتصادية والاجتماعية” عن تردد متزايد بين العرب بشأن دور تركيا الإقليمي. ومثلاً، فقد تحدث 69 في المئة من المستجوَبين، عبر 16 بلداً شملتها الدراسة، عن انطباع إيجابي حول تركيا. لكن عدد العرب الذين يعتبرون تركيا نموذجاً تراجع إلى نحو النصف مقارنةً بالعام الماضي، حيث بلغت نسبة تأييد نفوذ تركيا الإقليمي 60 في المئة. وبشكل مجرد، يمكن القول إن هذه نتائج تحسد عليها تركيا، لكنها تمثل تراجعاً بثماني إلى تسع نقاط مئوية في ظرف عام واحد فقط.

ثم إن مقاربة أنقرة بخصوص الأزمة السورية تثير بعض الشك والارتياب بين العرب بشأن احتمال أن تكون لدى الأتراك أجندة طائفية ستزرع النزاع في المنطقة.

وإذا كانت أهمية تركيا الإقليمية قبل الانتفاضات تقوم جزئياً على قدرتها على أن تكون حكماً محايداً وتقوم بمساع حميدة لحل مشكلات المنطقة، فإن هذا التقدير ربما فُقد وسط الفوضى السورية وتعقيدات التحول العربي. كما أنه وسط ما تثيره “العثمانية الجديدة” من رومانسية، نُسيت حقيقة أنه إذا كان الأتراك مجاورين للشرق الأوسط جغرافياً، وأغلبيتهم من المسلمين، فإنهم ما زالوا أجانب بالنظر إلى تركتهم الكولونيالية في العالم العربي. وهذا الرأي عن تركيا شائع ومنتشر بين العرب من كبار السن، بل وحتى النشطاء الشباب الذين خرجوا إلى الشوارع لخلع الحكام المستبدين باسم الكرامة والديمقراطية.

وأخيراً، فإن المراقبين يميلون إلى الخلط بين قوة تركيا الناعمة والقدرة على تشكيل ملامح الحياة السياسة في المنطقة. فملصقات أردوجان بمخيمات صابرا وشاتيلا قد تمثل شاهداً على موقف الزعيم التركي من الموضوع الفلسطيني، غير أن هذا النوع من الشعبية على مستوى القاعدة لا يمكن أن يخفي حقيقة أن الجهود التركية لتهدئة بؤر ساخنة، مثل ليبيا وسوريا وغزة، قد باءت بالفشل. فقد عجز أردوجان عن التأثير على الديكتاتور الليبي السابق القذافي لتبني الإصلاح، مثلما عجز عن الضغط على صديقه السابق بشار الأسد، لوقف هجماته المميتة على المحتجين السلميين. كما فشل في فرض نهاية للحصار الإسرائيلي لقطاع غزة.

وإذا لم تكن تركيا، فمن سيصعد إلى الواجهة يا ترى باعتباره القوة أو القوى الإقليمية المقبلة في الشرق الأوسط؟

الواقع أن المتنافسين الآخرين يعانون من نقص في القوة الناعمة، ومن قدرات محدودة ستجعل من الصعب على أي منهم فرض نفسه كزعيم بلا منازع للمنطقة. بل سيكون من الصعب حتى بالنسبة لائتلاف من عدة بلدان تزعم مصالح مختلفة وتنافسات إقليمية. كما أن العرب لن يقبلوا الخضوع لزعامة تركية حتى وإن كانت بشراكة مع بلدان عربية. والقاهرة، على سبيل المثال، لم تبد تحمساً كبيراً لعلاقات استراتيجية مع أنقرة.

هذه المشاكل تتضح بجلاء في فشل بعض العرب والأتراك في تشكيل معارضة سورية أوسع وأكثر توحداً، وهو شيء تطلب تحقيقه ضغطاً من الولايات المتحدة.

وبدون وجود زعامة واضحة، فإن الدول الإقليمية ستواصل المناورة حول بعضها البعض، باحثةً عن امتياز ونفوذ حيثما أمكن ذلك إلى أن يوفر نوعاً من التحول الدبلوماسي أو الجيوسياسي -سقوط نظام الأسد ربما أو ضربة لبرنامج إيران النووي- فرصةً لبلد ما للتقدم إلى الأمام وتزعم المنطقة.

ستيفن كوك

كاتب وباحث أميركي، زميل بـ”مجلس العلاقات الخارجية”

ينشر بترتيب خاص مع خدمة “كريستيان ساينس مونيتور”

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى