صفحات الرأيمحمد أبي سمرا

من لبنان ميشال شيحا إلى لبنان حسن نصرالله/ محمد أبي سمرا

تحلّ الذكرى السبعون لاستقلال لبنان، فماذا بقي من لبنان كي يحتفل باستقلاله؟ ماذا بقي من ميشال شيحا وتأملاته في الدولة والمجتمع اللبنانيين ومصيرهما؟ ماذا بقي من اجتهاده في صوغ فكرة لبنان ودستوره وتمازج عناصر ثقافته؟ ومن لبنان ميشال شيحا الى لبنان “حزب الله” وخطيبه الملحمي السيد حسن نصرالله، ماذا بقي من لبنان اليوم الذي صارت حريته حرية كارثية، وذهبت احتمالات استقلاله أدراج الهويات الوهمية الخرقاء؟

ضمّت الدولة اللبنانية الناشئة في العام 1920 مناطق وجماعات أو أقواماً متباينة الهوية الدينية والاجتماعية والثقافية، ومختلفة في أهوائها وميولها السياسية. أما الهوية الوطنية للدولة الوليدة فقامت على “صيغة تعاقدية” هدفها لجم ما يُفترض أنه ناتئ أو نافر في هويات الجماعات، ويبعث خوف هذه الجماعة من تلك، ويتعارض مع العمل بالصيغة التعاقدية. لكن إرادة تأسيس الدولة اللبنانية، والعناصر الراجحة في هويتها الوطنية، غلب عليها، منذ البداية، اختيار الجماعة المسيحية وتجربتها التاريخية، إضافة الى حاجتها الى إقامة كيان سياسي مستقل عن محيطه العربي والاسلامي. لذا كانت العوامل هذه هي الأقوى حضوراً في صوغ مشروع الدولة وهويتها الوطنية والسياسية. أما مسلمو هذه الدولة الوليدة فكانوا ينشدون، على وجه الإجمال، الوحدة السورية والعربية الإسلامية.

هكذا نشأت الدولة اللبنانية على التباس وتنازع، مدارهما انشداد المسلمين عامة الى الداخلية وطلب الوحدة السورية والعربية، وانشداد المسيحيين الى الساحلية المتوسطية والغرب، والى الاستقلال عن المحيط السوري والعربي والاسلامي. هذا التنازع الذي وسم تاريخ لبنان الحديث، دولة وهوية وطنية، عرف مساراً متعرجاً ومحطات ارتفعت فيها حدّة الخلاف والنزاع تارة، وخفتت طوراً. لكن هذا التنازع في منشئه ومساره ومحطاته كلها، لم ينفصل قط عن عاملين تكوينيين أساسيين:

– صراع الجماعات وأقطابها وزعمائها السياسيين على حيازة القوة والنفوذ في مؤسسات الدولة والحكم والادارة.

– اتصال هذا الصراع اتصالاً وثيقاً في أوقات احتدامه، بأطراف خارجيين، إقليميين ودوليين، متصارعين في ما بينهم، وعلى استمالة الجماعات اللبنانية المتنازعة، واستتباعها وإلحاقها بالصراعات الإقليمية والدولية.

لقد نشأ لبنان، إذاً، وتكوّن، على مفارقة، يمكن القول إنها بنيوية، وسمت تاريخه الحديث وهويته الوطنية ونظامه السياسي. لكن هذه المفارقة مزدوجة الأثر في عملها وتحولاتها ونتائجها. فهي من وجه أول، علّة تميز لبنان الدولة والمجتمع عن محيطه، وعلّة حرياته السياسية والاجتماعية والثقافية، وازدهاره الاقتصادي. وهي، من وجهٍ آخر، مبعث حروبه الأهلية الإقليمية المنقضية التي قد تهدده في المستقبل. والحق أن المفارقة اللبنانية التاريخية هذه – وهي عادت بالفائدة على اللبنانيين، جماعات وأفراداً، وعادت عليهم بالمآسي ايضاً – تصدر عن تنوع طبيعة لبنان الجغرافية والمناخية (الجبال، الساحل المتوسطي، السهل الساحلي، والسهل الداخلي)، وعن التنوع الديني والثقافي وتنوع التراث الاجتماعي لجماعاته الكثيرة.

لكن صوغ الهوية الوطنية اللبنانية المستقلة والمميزة، ورسم ملامحها وصورتها المفارِقة القلقة، يعودان، في الدرجة الاولى، الى النخب المسيحية في عشيَّات انهيار الامبراطورية العثمانية وفي حقبة الانتداب الفرنسي. فحاجات المسيحيين ومصالحهم السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، الى إنشاء دولة مستقلة عن المحيط العربي والاسلامي، هي العامل الحاسم في تحقيق مشروع هذه الدولة التي قامت على التنوع الطبيعي والجغرافي والديني والثقافي. أما نخب الجماعات اللبنانية المسلمة (الأصح القول المسلمة المتلبننة رويداً رويداً)، فاكتفت – منذ صوغ الهوية اللبنانية وطوال مسارها المتعرج المتقلب – إما بممانعتها، وإما بالموافقة الجزئية الموقتة عليها، وإما بالسكوت عنها على مضض، وإما بالاحتجاج والخروج عليها. لكن أحمد بيضون في كتابه الاخير “لبنان – الإصلاح المردود والخراب المنشود” يرى أن الجماعات التي أظهرت “نفورها” من لبنان و”نظامه”، منذ “الاستقلال الى 1958 الى عشايا الحرب (1975 – 1990)… الى اتفاق الطائف (…) تزايدت، عقداً بعد عقد، شدَّة تعلّقها بهذا الكيان ورغبتها في تحسين موقعها منه”.

* * *

تُجمع الأدبيات السياسية والثقافية والدستورية المتعلقة بالهوية الوطنية اللبنانية، على اعتبار ميشال شيحا (1891 – 1954) العَلَم الأبرز بين المثقفين المسيحيين في صوغ ملامح هذه الهوية ومعالم صورتها. ففي كل ما كتبه وألقاه من محاضرات في اللغة الفرنسية، لم يتوقف ميشال شيحا عن مديح لبنان المتوسطي “الذي يتقبّل الناس مناخه من أين أتوا وتتزاور فيه الحضارات وتتبادل المعتقدات واللغات والطقوس تحيات إجلال. بلادنا متوسطية قبل كل شيء، لكنها، شأن المتوسط نفسه، تُحسّ بشعر العالم”. فشيحا هو بحق، المنظّر الأبرز لهوية مركّبة للبنان تميِّزه عن محيطه. وهو من صاغ فكرة لبنان الملجأ أو الملاذ للأقليات المضطهدة الخائفة في الشرق، مستلهِماً أفكار كثيرين من الكتّاب والرحالة الأوروبيين المستشرقين، في طليعتهم هنري لامنس. في مفتتح محاضرته “لبنان اليوم” قال إن لبنان “شيخ جاوزت سنّه ألوفاً” من السنين، من دون أن “يَعْجَبَ حينما يُقال عنه إنه في ريعان شبابه، إن صحّ أن اسمه الآخر، أي فينيقيا” مشتقّ من “اسم ذلك الطائر الأسطوري، فينيق، الناري الريش، الذي ما كان ليحترق حيناً ويموت حتى ينبعث من رماده”. أما في العام 1994، في الذكرى الأربعين لوفاة ميشال شيحا، فقد كتب غسان تويني في مقدمته للترجمة الجديدة لمحاضرة “لبنان اليوم” أن غاية إعادة نشرها في كتيّب مستقل، هي “وضع” أفكار الرجل “في التداول، وباللغة العربية”، لتبقى حيّة في “ذاكرة اللبنانيين التاريخية”. وذكّر تويني أيضاً بأن شيحا هو من “تُنسب إليه أبوّة الدستور اللبناني الأول، دستور العام 1926″، على اعتبار “اتفاق الطائف” الذي وضع خاتمة للحروب الأهلية الملبننة (1975 – 1989)، هو الدستور الثاني.

* * *

منذ بدايات تلك الحروب، تبدو فكرة لبنان الدولة والمجتمع المستقلين، أشبه بصرخة قليلة الأصداء في الأودية الفاصلة بين الجماعات والطوائف اللبنانية التي خرجت من دمار الحروب منكفئة على نفسها، وموالية ولاءً عضويا مرصوصاً مستميتاً لزعمائها أو لأمراء عصبياتها في مناطقها الجغرافية المتحاجزة. أما فكرة لبنان الموحد ودولته الواحدة وهويته المشتركة المركّبة، متوسطية أو غير متوسطية، فصارت كلها من المنسيّات، إلا في لغو الخطب اليومية الببغائية الجوفاء. هذا فيما لم يبقَ من ميشال شيحا وأفكاره وأفكار سواه من أمثاله، أيّ صدى ينبّه الى حضورهم وحضورها في ذاكرة الجماعات اللبنانية المتحاجزة ونخبها وأجيالها الجديدة، منذ انقيادها الى الحرب، وانصرافها المحموم الى استكمال سيطرتها العصبية على مؤسسات الدولة السياسية وأجهزتها الادارية والأمنية، في رعاية وَلِيِّها نظام حافظ الاسد السوري.

الحقّ أن الشقاق الأهلي بين الجماعات اللبنانية، في ما يتعلق بهوية لبنان وتاريخه وبسياسات دولته الداخلية والخارجية، لم يكن غائباً منذ نشوء دولة لبنان الكبير في العام 1920. واذا كان هذا الشقاق شديد التداخل والاندماج بالمنازعات على حيازة النفوذ والقوة والحظوة في مؤسسات الحكم والادارة والوظائف العامة، فإن مؤسسات الدولة التمثيلية (البرلمان) والتنفيذية (الحكومة) والزعامات السياسية، ظلت تعمل على لجمه وتصريفه تارة، وعلى بعثه ورفع وتيرته طوراً، وفق الظروف والنزاعات الداخلية والاقليمية المتصلة اتصالاً وثيقاً. لكن هذه المعادلة التي كانت تضبط المنازعات والشقاق الاهلي، بدأت تنكسر مع اتساع المعاقل والمعسكرات الفلسطينية المسلحة واشتداد قوتها ونفوذها بين الاهالي المسلمين في المدن اللبنانية وضواحيها، وعلى حدود لبنان الجنوبية المتاخمة لدولة اسرائيل الناشئة في العام 1948. أجّج النفوذ الفلسطيني المسلح، منذ نهاية ستينات القرن العشرين، الشقاق الأهلي والشعبي اللبناني بين المسلمين والمسيحيين، فاندفعت فئات شابة، متواضعة المنابت الاجتماعية في الجماعتين هاتين، الى التوسل بالعنف في منازعاتها في الشوارع والأحياء. في هذا السياق خرج الصراع على هوية لبنان وتاريخه وانتمائه، وعلى القوة والنفوذ في الدولة، عن اطاره السياسي والمؤسسي. كانت المنظمات الفلسطينية ونظام حافظ الاسد في سوريا، في حاجة الى توسيع هذه المنازعات الأهلية، للتخندق في شعابها، وصولاً الى حرب أهلية مفتوحة في لبنان. وسرعان ما بادرت دولة اسرائيل الى الدخول طرفاً اقليمياً إضافياً في معمعة هذه الحرب الأهلية الملبننة.

شهدت السنتان الاوليان من الحرب (1975 – 1976) الموجة الاخيرة الحامية من السجالات الايديولوجية والثقافية حول هوية لبنان وتاريخه وانتمائه، وكان لاستعادة ميشال شيحا وافكاره الحضور الابرز في هذه السجالات التي تصدّرتها نخب الجماعات والقوى المتحاربة. لكن سجالات الهوية والتاريخ سرعان ما صارت نسياً منسياً في غمرة حرب حوّلت جماعاتُها البلادَ معازل جغرافية خالصة، ثم حصّنتها بالسلاح والدم والشهداء، وجعلت التاريخ والهويات خرافات بدائية وأهازيج تمجِّد العنف والقتل. طوال 15 سنة من التاريخ اللبناني الدموي صارت المعازل اللبنانية منافي بشرية لأهلها وسكانها. وسط صخب أهازيج تصمُّ الآذان وتكمِّم الأفواه التي لا تردِّدها، أخذت الجثث تتكدس في مقابر المعازل، والنفايات والخراب في الشوارع، على ما كتب الروائي التشيكي إيفان كليما في روايته “حب وقمامة” التي تتناول “عالم الحمقى” و”لغة الحمقى” في الزمن الشيوعي، وتستعيد أيضاً ذكريات المحرقة اليهودية في الحرب الثانية، أيام “كانت القذارة تهبط فوقنا – يكتب كليما – وتجتاحنا حرفياً ومجازياً، مثلما يفعل الموت”.

* * *

اليوم، بعد أكثر من ستة عقود على كتابتها، تذكّر أفكار ميشال شيحا في محاضراته و”خواطره” الحكميّة التأملية التي تتضمن زبدة خبرته وفكره في خريف عمره، بنوع انقرض من معرفة وكتابة تتجاوب فيهما التماعات الحدس التاريخي والانتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية والفلسفة والشعر. المعرفة والكتابة هاتان، تذكّران أيضاً بصورة للبنان زالت وانقضى عهدها في وعي اللبنانيين ومخيلاتهم وأساليب تعبيرهم المتنوعة. وهي صورة لبنان الطبيعة والمناخ والبشر والتاريخ والتدبير الاجتماعي والسياسي ونمط الحياة اليومية، مرئية من الجبل والساحل والبحر، وباعثة في النفس شيئاً من الدعة ورومنطيقية الحزن واللوعة المتعاليين أو المتساميين. فالجبل والبحر هما مطلّ لبنان ميشال شيحا على العالم والتاريخ والأزمنة، ومصدر أفكاره التأملية في الطبائع والاخلاق والاجتماع والأمزجة والعمران، وفي الوجود والمصير البشريين. كأن الرجل الكاتب عرّاف في محراب الطبيعة والجغرافيا البشرية. بين لبنان الجبل والبحر المتوسط حكاية، بل ملحمة لا يكفّ هذا العرَّاف عن التلميح اليها. فالجبل اللبناني في “خواطره”، “ملاذ الأقليات المضطهدة في الشرق”، يعانق “البحر الذي عرف أول قارب وأول مجذاف”، متمرداً على بحر الجفاف والمساحات الشاسعة والقيظ في الصحارى من حوله. من الجبل هذا، يطلّ شيحا على البحر المتوسط، باسطاً مخيّلته الحسيّة كرحَّالة وجوَّاب أزمنة وحضارات قديمة ومصائر بشر، كأنه قارئ مسبق في أفكار المؤرخ الفرنسي الكبير فرنان بروديل الذي نشر مؤلفه الموسوعي عن المتوسط والعالم المتوسطي، بعد سنة واحدة من كتابة شيحا آخر “خواطره”. ذلك أن متوسط لبنان في هذه “الخواطر” شبيه بمتوسط بروديل الذي كتب في مقدمة مؤلفه أنه “البحر الداخلي للآداب والفنون، وكروم الزيتون والعنب، والمراكب والسفن والتجارة، وكانت بيئاته نصف ريفية، وكان بحّارته يعملون أيضا فلاّحين”. ثم إن شيحا في “خواطره” البحرية، يبدو منشداً مسبقاً لأشعار سان جون برس على شرف البحر في قصيدته الشهيرة “منارات”.

لكن شيحا كتب في “خواطره” نفسها مقاطع في رثاء الرومنطيقية الطالعة من كنف العيش في الطبيعة بين الجبل والبحر، كأنه حدَس أن عالم النصف الاول من القرن العشرين بدأ بالأفول. “فالناس ما عادوا يكترثون لتعاقب الفصول. سيّان عندهم الربيع والخريف، النور والضباب، لهبة القلب والروح والكآبة”. انسان “هذا العصر (اخذ) يهرب من الطبيعة، عوض أن يفتش فيها عمّا يهدئ روعه”. وهو “أمعن في تشويه وجه الأرض، وما عاد يهتزّ لنداء الفجر ولسقسقة الينابيع وخفقات النبات”. هكذا “سيأتي يوم يولي فيه كل انسان (حتى الوضيع الوضيع) اهتماماً بالكواكب أكثر من اهتمامه بالحقل الذي يزرع”.

لقد تحققت حدوس شيحا هذه. فاليوم لم يبق شيء تقريباً من لبنان الذي وصف ملامح من الحياة فيه، ولا من لبنان سواه من الشعراء والكتّاب والرسّامين الانطباعيين الذين فتنتهم روعة الجبل في إطلالته على البحر. الهوية اللبنانية المركّبة من عناصر وعوامل متباينة، وكذلك طبيعة لبنان وعمرانه المتوسطيان، أمست كلها من مخلَّفات ماضٍ آفل. لم يعد أحد من اللبنانيين، إلاّ في ما ندر، يعمل على محاكاة تلك الهوية واستلهامها سوى في لغو الخطب الجوفاء. أما الطبيعة والعمران والدولة اللبنانية، فقد اجتاحتها الفوضى وسوء الادارة والتدبير. وكم محزن لشيحا لو عرف أن لا الجبل ولا البحر منعا لبنانه من الوقوع فريسة القسوة… هل نقول الآسيوية؟!

* * *

تحصّلت أفكار ميشال شيحا وصيغتها التعبيرية من معارف في التاريخ والجغرافيا البشرية والحضارية، تعود الى ثقافة النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وصولاً الى حقبة ما بين الحربين العالميتين في القرن العشرين، والى بداية منعطف تاريخي ألمَّ بالعالم في نهاية الحرب العالمية الثانية. هذا المنعطف أَذِنَ في لبنان بما يمكن تسميته “الزمن الجماهيري” الصاخب والمأزوم. في خضم هذا الزمن نشأت الأزمة السياسية المتمادية في لبنان، فتفاقم خلاف الجماعات اللبنانية الطائفية على التاريخ والهوية، تاريخ بلدهم وهويته وأساطيره المؤسِّسة، بعدما صارت القضية الفلسطينية في ايديولوجيتها العروبية، تختصر الصراع كله على التاريخ والهويات. هكذا راح هذا الصراع يطغى على المنازعات اللبنانية حتى بدايات الحرب الأهلية الملبننة، فإذا بالكلام على لبنان الفينيقي والمتوسطي والسوري والعربي، وعلى القومية والأمة والحضارة واللغة اللبنانية، يحضر قوياً في الأدبيات التاريخية والسياسية والثقافية والايديولوجية من سجالات نخب الجماعات اللبنانية المتنازعة. لكن تمادي الحرب واتساعها ما بعد السنتين الأوليين منها، طويا صفحة هذه الأدبيات وعناوينها وسجالاتها، وأحالاها على ذمة التاريخ المنسي أو الميت، كأنها لم تكن. فالحرب، بما هي أهلية وجغرافية وإقليمية، وضعت خاتمة للجدال الإيديولوجي والثقافي على تاريخ لبنان وهويته، وجعلته صراعاً دموياً على الجغرافيا البشرية في المناطق والمدن والبلدات والقرى.

طوال هذه الحرب ومعاركها المتنقلة والمتقلبة، أقامت الجماعات اللبنانية المتحاربة معازل تسيطر عليها وتديرها منظمات وأجهزة تعبوية مسلحة، حطمت المجتمع المدني السياسي، وأنشأت على أنقاضه مجتمعاً حربياً. ساهمت المنظمات الفلسطينية المسلحة، والدولة السورية بقيادة حافظ الأسد، مساهمة أساسية في إدارة الحرب ومساراتها ومحطاتها، وصولاً الى إيقافها في العام 1990، بعدما كانت هذه الحرب قد استنزفت جيلين لبنانيين أو ثلاثة في القتل والتهجير الداخلي والهجرات الخارجية، وأدت الى تمزيق النسيج الاجتماعي والسياسي للدولة. أما الجيل اللبناني الجديد الذي وُلد في نهايات الحرب، فقد نشأ وشبّ داخل ثقافات المعازل الأهلية الناجمة عن الحرب، و”المتعايشة” متحاجزةً من دون حرب، أو في “حرب باردة” منزوعة السلاح.

وحده “حزب الله” الشيعي – وهو نشأ بعد الحملة العسكرية الإسرائيلية على المنظمات الفلسطينية وإجلائها عن جنوب لبنان وبيروت العام 1982 – بقي بأجهزته الأمنية والتعبوية والاجتماعية والمالية، حزباً مسلحاً في إدارة ايرانية – سورية مشتركة استعملته جيشاً لـمقاومة احتلال اسرائيل لجزءٍ من جنوب لبنان، قبل أن ينسحب منه الجيش الاسرائيلي في العام 2000. هذا بعدما كانت تسوية سعودية – سورية قد أوكلت رئاسة الحكومة اللبنانية وإعادة بناء مؤسسات الدولة المدنية وإدارة مشاريع إعادة إعمار لبنان ما بعد الحرب واتفاق الطائف في العام 1990، الى رجل الأعمال والمال رفيق الحريري. طوال حقبة هذه الوكالات والتسويات المتناقضة ما بين 1990 و2005، دار أحياناً سجال تحت عنوان رمزي يختصر شكلياً الدور المزدوج والمتناقض الذي يُراد للبنان أن يلعبه انطلاقاً من عاصمته بيروت. وقد دار هذا السجال حول السؤال الآتي: هل يُراد لبيروت أن تكون هانوي العرب و”المقاومة”، أم هونغ كونغ الإعمار والاعمال؟ لكن “حزب الله” الشيعي المسلح وحده، تحول منذ العام 1996، وخصوصاً ما بعد العام 2000، قوة ايرانية – سورية للسيطرة على مفاصل الدولة اللبنانية ومؤسساتها الهشة المتنازعة، في مواجهة مشاريع رفيق الحريري وسياساته لإعادة البناء والإعمار، ولمجابهة طموحاته في إرساء دعائم حكم سياسي مدني يقلّص سيطرة القبضة السورية وجماعاتها اللبنانية الموالية لها، على الدولة والحكم في لبنان. في هذا السياق جرى اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005.

* * *

مضى اليوم ما يزيد على عقدين على توقف الحرب، وثماني سنوات على “ثورة الأرز” التي أنهت ما سُميَّ “عهد الوصاية السورية” الثقيلة الذي أنهاهُ ذلك الحشدُ المليوني الشعبي بتجمُّعِهِ في بيروت، على نحو عفوي، في نهار 14 آذار 2005. لكن لبنان خرج من ذلك الحشد مأزوما. عوامل الأزمة متراكمة، وتعود الى إرث الحرب وعهد “الوصاية السورية” ورعايتها، مع ايران الخمينية، “دولة حزب الله” الشيعي. “الدولة” هذه أقوى عسكرياً بأشواط من الجيش اللبناني الرسمي. وهي تعتمد سياسة أمنية وعسكرية واجتماعية خدميّة وتعبوية وإعلامية، خاصة ومستقلة وغير معلنة إلا في خطب الأمين العام للحزب في اطلالاته التعبوية الجماهيرية المتلفزة. السياسة هذه تُعنى بكل شيء تقريباً في المناطق الشيعية: من تخزين السلاح وإدارة التدريب والمعسكرات وخوض الحرب، إلى إدارة المدارس والمستشفيات والتعاونيات على أنواعها، وصولاً الى النادي الرياضي والثقافي والكشفي… هذا كله بتمويل إيراني. قيادة الحزب الأمنية السرية هي التي ترسم هذه السياسة، وفقاً للأوامر والخيارات الاستراتيجية الايرانية في طهران. لبنان في عقيدة “دولة” الحزب هذه وممارساتها، ليس سوى معقل عسكري وأمني يتحصّن بالشعب والدولة اللبنانيين، بذريعة الحرب الأبدية على الدولة العبرية. هذه الحرب غايتها الأهم الاستيلاء على مفاصل الدولة والمجتمع وإسكات الجماعات الأخرى في المجتمع البناني، ووصمها بالعمالة والخيانة. هذا فيما مؤسسات الدولة متهالكة، أصلاً، وخاوية إلا من المنازعات المحمومة على مواقعها ومواردها وسلطة القرار فيها، وصولاً الى استتباعها وإلحاقها بنفوذ زعماء الجماعات الأهلية واقطابها، لتوزيعها مغانم وأسلاباً في ما بينهم.

مؤسسات الدولة في حالها هذه، مزمنة ومستعصية على الإصلاح، ويتحكم إرث الحرب بعملها وإدارتها. كل محاولات إصلاحها وتحسين عملها في زمن ما بعد الحرب، باءت بالفشل، أو توقفت في بداية مسارها وجُبهت بمعارضات عطّلتها، لأنها لم تستوفِ شروط المحاصصات بين الأقطاب والزعماء السياسيين النافذين في جماعاتهم: التعليم الرسمي في مراحله كلها وصولاً الى الجامعة اللبنانية، في حال مزرية من الانهيار، إلا في ما يتعلق بحيوية الصراع الشرس بين الجماعات وأقطابها على حيازة مناصبه الادارية، وحصول هيئاته التعليمية والأكاديمية على زيادات عالية على مرتباتهم. الاهتراء في الادارة وفي إدارة الصيانة والتجهيز التقني في قطاع الطاقة الكهربائية، وضعف الجباية المالية من جماعات عصبية واسعة من المشتركين، والفساد والصفقات المالية في مؤسسة كهرباء لبنان… هذه الظواهر كلها تترك هذه المؤسسة في حال عجز دائم يكبّد الدولة أكلافاً باهظة تضاعف الدين العام. الجماعات الأهلية العصبية التي غالباً ما تقوم بسرقة الطاقة من الشبكة العامة، سرعان ما تبادر الى قطع الطرق بحرق إطارات السيارات التالفة، احتجاجاً على انقطاع التيار الكهربائي وطول مدة تقنينه. هذا السلوك الاحتجاجي أصبح سلوكاً معمماً تتَّبعه فئات مهنية واجتماعية “مدنية” لم تكن تعتمده سابقاً في مطالباتها واحتجاجاتها.

هذا كله ليس سوى غيض من فيض نماذج دبيب الخراب في ادارة المؤسسات العامة. أما الجيش وسواه من الأجهزة الأمنية، فلا تستقوي وتمارس سلطتها في الشوارع والاماكن العامة، الاّ على “مواطنين” مدنيين يُظهر سلوكهم ومشهدهم أنهم لا ينتمون الى جماعات عصبية، وليس على زمر فتيان الشوارع المرتبطة بأجهزة القوة في الأحياء والمناطق السكنية شبه العاصية على السلطات الأمنية الرسمية. قبل مدة قصيرة من الحملة التأديبية العنيفة التي شنّها في 7 أيار 2009 مقاتلو “حزب الله” وأعوانهم من المنظمات الحليفة، على أحياء بيروت وسكانها، وبعد هذه الحملة، صارت دوريات الجيش والقوى الأمنية الرسمية الأخرى تكتفي بدور المتفرج على ما تقوم به زمر شبان أهل القوة من غارات احتجاجية غاضبة تجتاح أحياء تفترض الزمر أن أهلها من جماعة أو طائفة معادية.

هذه الظواهر الموصوفة ومثيلاتها، هي من أعراض مجتمع مأزوم، مرهق ومحتقن ومتنافر القوى والجماعات السياسية العصبية والخيارات “الوطنية”، فقدت سلطاته الرسمية والقانونية الخاوية سلطتها وهيبتها. إنه مجتمع استغرقت جماعاته في “المساواة الكارثية”، على ما اقترح المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه على أحمد بيضون أن يسمّي ما هي عليه حال الجماعات اللبنانية اليوم. وهو مجتمع يعيش في دولة معلّقة، واهية السلطات، وتمزَّق نسيجه الاجتماعي، فتذرّر وتحلّلت قيمه الأخلاقية، ثم اعتصبت جماعاته المتنافرة، وأوغلت في دبيب الفوضى وفي “الحرية الكارثية”.

* * *

يتصدر “حزب الله” اليوم هذه الحرية الكارثية في لبنان، منذ جلاء جيش الاحتلال السوري الأسدي عن الأراضي اللبنانية في العام 2005. الغريب والمفارق في سيرة هذا الحزب ومساره، أنه وليد احتلالين كارثيين للبنان، ووارثهما: الاحتلال الأسدي والاحتلال الاسرائيلي اللذان تخندق “حزب الله” – بعدما شاءت الأقدار الدولية والاقليمية إنهاءهما – في الجغرافيا البشرية والاجتماعية للطائفة الشيعية، وبعث تراثها الأسطوري، مستفيداً من ضعفها في أزمنة ما قبل الحرب، ومن تمزقها ودمارها وفجيعتها في زمن الحروب، ومستمداً عقيدته وبنيته التنظيمية وموارده المالية والعسكرية من إيران “الحرس الثوري” الخميني.

سيرة “حزب الله” تكاد تطابق سيرة خطيبه السيد حسن نصرالله، ومسيرة تصدره حزبه ونجوميته القيادية الصاعدة منذ أكثر من ربع قرن من السنوات المتصلة. وكما يمكن أن تكون سيرة ميشال شيحا وسيرة صوغه الفكرة اللبنانية، مرآة للبنان الحرية المنبثقة عن تلاقي الجماعات وتفاعلها وتفاعل ثقافاتها البطيء في إطار كيان سياسي دستوري مدني، اختياري واختباري، فإن سيرة لبنان “حزب الله” وخطيبه وصانع أمجاده، مرآة لإرث الاحتلالَين واحتراب الجماعات، وخروجها ممزقة متنافرة من الحروب. أما ما يريده “حزب الله” ويسعى إليه اليوم، وقطع شوطاً في تحقيقه، فهو اختصار وجود لبنان وتاريخه ودولته ومجتمعه في عقيدة حربية غايتها الوحيدة سلاحه المقدس المكتسب شرعيته من احتلالين، ليبقى مشرعاً في وجه اللبنانيين وفوق رؤوس مجتمعه باسم أمجاد حربية مدمرة، شعارها: “إن حزب الله هم الغالبون”، بماذا غير قوة السلاح؟! والغلبة بالسلاح والحرب جعلها الحزب الخميني واجباً دينياً ومذهبياً مقدساً متصلاً بطقس الدم الكربلائي الاستشهادي، مازجاً أساطير الماضي وخرافاته بتمزقات الحاضر واحتقان هوياته المتنافرة.

في عقيدة حزب الغلبة التي يستحقها كل من يتردد في طاعة سلاحه وجيشه السري وخطيبه الملحمي، يستطيع مَن يريد من اللبنانيين ألاّ يشاركه في حروبه وملاحمه، وينصرف انصرافاً ذميّاً إلى تدبير شؤون حياته الدنيوية الأدنى مرتبة وقدراً من الحرب، في سلّم قيم حزب لا قيمة عنده تعلو قيمة الحرب وأهل الحرب والسلاح.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى