صفحات العالم

من “محرقة” سوريا الى مذابح غزّة

د. نقولا زيدان
وكأنهما كانا على موعد. ولما لا؟ فالتاريخ قلما يقبل بالصدف، بل لا يقرها ولا يصدقها. ذلك أن له سيرورة ومساراً منتظمين بل يخضع لحتم قسري يندفع فيه باتجاه طاغٍ محتوم. هذا بالضبط ما نشهده في اللحظة التاريخية الراهنة بين النظامين السوري وإسرائيل.
انه في الوقت الذي ينتهز فيه النظام الدموي البربري القائم في دمشق فرصة تعطيل كل مبادرة وكل جهود وأي لقاء أو اجتماع دولي بل أي قرار سنح لمجلس الأمن المتخبط في شلل ومراوحة لا مثيل لهما، ليمعن في الشعب السوري قتلاً وذبحاً وحرقاً وتدميراً في مجازر ومذابح تفوق المخيلة في بشاعتها وبربريتها وحقدها الأسود المجبول بالذعر والخوف من سقوطه المحتوم، تقوم اسرائيل بلا مسوّغ ولا مبرر لا يقبله منطق الحرب نفسه بشن غارات وحشية على الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة، فتحيل هي الأخرى الأبنية السكنية والمؤسسات الى ركام، فيحصد الطيران الاسرائيلي عشرات الضحايا أمام صمت العالم وإذعانه للأمر الواقع. هذه مذبحة غزة التي تتساوق مع مذابح بابا عمرو وكرم الزيتون وادلب وجوبر…
نقولها ونجرؤ على الكلام أن الكيان الصهيوني والنظام السوري هما على موعد واتفاق تام منظم ومبرمج ومتناغم في سحق المقاومة الشعبية السورية والمقاومة الفلسطينية كلتاهما معاً وفي وقت واحد. ذلك أن لإسرائيل مصلحة كبرى وأساسية وحيوية في بقاء نظام الأسد والطغمة الحاكمة معه واستمراره.
لقد هبّت إسرائيل لنجدة النظام السوري بارتكابها مجزرة غزة للفت انظار الرأي العام العربي والدولي عن المحرقة المرعبة التي تدور الآن في سوريا. هذه هي الحقيقة المخيفة التي لا يمكن تجاهلها: نظامان يعملان ويصوّبان نار الدمار والهلاك باتجاه واحد.
هل هما على موعد واتفاق؟ ألم يكونا كذلك في لبنان عندما اندفعت الدبابات السورية وجحافلها لتجتاح لبنان عام 1976 بذريعة الدفاع عن المسيحيين ومنع التقسيم فضربت القوى الوطنية والمقاومة الفلسطينية، ثم استدارت فضربت المسيحيين أنفسهم، لا بل أخضع نظام دمشق لمشروعه 80% من الساحة اللبنانية. وفي الوقت نفسه اندفعت الدبابات والطائرات الاسرائيلية في حملات متتالية (1978، 1982) لتخضع لاحتلالها ما تبقى من أرض لبنان؟ فهل تخوننا الذاكرة لننسى الشريط الحدودي الذي خضع لاحتلال اسرائيل؟ لقد كان الوجه الآخر الضروري للوصاية السورية.
كان اسحق رابين يقول: “نحن نعلم أن لسوريا مصالح حيوية في لبنان، ونحن على استعداد لضمان هذه المصالح!”. بل أسوأ من ذلك بكثير عندما قام نظام دمشق بشتى الوسائل والطرق بإلغاء المقاومة الوطنية المسلحة في لبنان، واستنبات حزب واحد مسلح ألغى بقوة الحديد والنار والاغتيالات والتصفيات المنظمة باتقان وإحكام، كل مقاومة أخرى لإسرائيل. هكذا تحولت الفصائل الفلسطينية الى عبء على لبنان وتحولت المخيمات الى بؤر وملاجئ للفارين من وجه العدالة وملاذاً للارهاب. لا بل أدارت الفصائل الصنيعة لدمشق سلاحها بوجه الجيش اللبناني في نهر البارد والناعمة وفي المناطق الحدودية في البقاع.
هكذا تحول لبنان، بفضل التحالف الاستراتيجي بين دمشق وطهران الى ساحة يجري من خلالها تنفيذ طموحات النظامين الحليفين ليمسك حزب واحد بقرار الحرب والسلم، فلم تعد هناك حيلة لا للدولة اللبنانية ولا لمؤسساتها المدنية والعسكرية. فعلى إيقاع شعار المقاومة المشروعة للعدو الاسرائيلي، أصبحت أية مغامرة عسكرية لمصلحة النظامين مبررة بل مقدسة يسبغ عليها الحق الالهي. لا بل بذريعة حماية هذا السلاح جرى اجتياح بيروت والجبل وإكراه اللبنانيين على الإذعان والخضوع لقوى الأمر الواقع.
لقد ابتدع النظام الدموي الفاشي ومن ورائه النظام الايراني وطموحاته النووية مفردات لغوية لم نعهدها من ذي قبل كالممانعة والصمود الملايّن وما شابه مما ينتجه الاعلام السوري المبدع في الكذب والتضليل. أليس مثيراً للريبة حرصهما على أمن اسرائيل في الجولان وإثارة المتاعب لها في لبنان؟.
فلندرك جيداً أن “نتنياهو” في زيارته الأخيرة لواشنطن لم يحمل معه الى البيت الأبيض مخاوفه من اقتراب “طهران” من مرحلة صناعة “القنبلة” فحسب، بل أيضاً مخاوفه من تداعي نظام دمشق الذي تميد الأرض السورية من تحته وتزلزله الانتفاضة البطولية المستمرة.
فالقلق الاسرائيلي كبير من جراء الثورة السورية، والمنطقة كلها تسير قدماً بحتم تاريخي نحو التغيير. فلا مساعي “كوفي عنان” ولا محاولات “سيرغي لافروف” كسب الوقت ينقذ نظام الأسد من سوء المصير، ولا المذابح الاسرائيلية في غزة لصرف الأنظار عما يدور على أرض سوريا، لقادرة مهما بلغت الهمجية والبربرية الأسدية من الاعدامات بالجملة وحرق الأحياء وذبح الأطفال ومحو المدن والقرى عن بكرة أبيها لتوقف عجلة التاريخ.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى