صفحات الثقافة

من مفرق جاسم


طه خليل()

(الى درعا)

“من مفرق جاسم للصنمين.. حاج تهلي الدمع يا عين”.!

ترددها العاشقة لظل وراء حبة الزيتون..

يرددها نسغ النبات لرطوبة القلب..

والعروس تنتظر تتمة الأغنية.!

الأغنية مدماة.. هرشتها المجنزرات..

* * *

ينتظر المغنون في درعا أسبوعا آخر..

وسيف الدولة مشغول بمدائح المتنبي..

لا الخيل تتقدم.. ولا الليل ينجلي.. عن البيداء.!

الأقلام مكسورة.. والسيوف ما عادت بيد الرجال..

السيوف للعراضات.. في مسلسلات العار..!

السيوف تلمع تحت ضوء الكاميرات..

والكاميرات لا تصور الشهداء..

وتجيء الأغنية.. تجرجر أرجلها..

في منتصف الطريق يوقفون الأغنية..يفتشونها..

يمددونها على الأرض..

وتتيبس الأعشاب تحت بطنها.!

* * *

“من مفرق جاسم..

يتذكر هواء حوران الصدى..

يمر على البيوت المعتمة.. بيتا بيتا..

يمسح الهواء جبين الطفل النائم..

يهمس في أذنه: نم طويلا أيها الفتى..

لا تنهض من سريرك الصغير..

على الباب فرسان الليل…

لقد جاؤوا بحديد الشيوعيين القديم..

ليقصفوا المزهرية الصغيرة على الطاولة..

نم عميقا أيها الفتى الغريب..

هذه كانت بلادك يوما..!

* * *

في آخر الليل يرسل الله نجدته..

يغسل الشارع من الخطايا..

وفي الصباح يمر المغنون..

يمر الحديد..

يمر المغني.. وينسى انه المغني..

تلحق به الكلمات..

“إليك عني أيتها الكلمات.. ليس معي الكمان..”. يقول المغني.!

الكمان مسنود على جدار ينزف..

وربابة الحوراني خفيضة..

لا تطرب أحفاد لينين.!

* * *

يقول المذيع: “تلك ليست جثث القتلى..

تلك دماء الخيانة..

تلك شارات طلحة والزبير..

وهؤلاء قتلى الفتن..!

يتذكر القتيل صدى حجريا قديما: “كيف ترين ضرب بنيك يا أماه”.؟

ويقول المذيع: “ولقد ولدتكم أمهاتكم عبيدا..”

يقول المغني: “من مفرق جاسم للصنمين.. حاج تهلي الدمع يا عيني”.

يقول المذيع كثيرا..

وينسى المغنى كمانه.. ينزف على جدار هناك.

* * *

يجيء الليل كل يوم..

تحط اليمامة على سبطانة الدبابة..

تنقر فوهتها..

لا تعرف اليمامة هذا الحديد..

تفكر بعش الربيع..

تعجبها استدارة الحديد.. تغمض جناحيها لتنام..

يقنصها الشبح.. بطلقة أكبر منها قليلا..

تضع اليمامة بيضا أحمر..

يتلون ريشها بلون تراه على الأرض..!

وحين تمر على السنابل..

لا تعرفها السنابل.!

* * *

“من مفرق جاسم…

يخرجون من الأغنية.. يتنفسون قليلا..

ثم يحتضنون حجارة سوداء..

تجهش دماؤهم.. أمام الجنود..

ينزفون مسكا غزاليا حارا..

اكتظت الشراشف بهم..

اكتظت الغيوم بتلويحات أياديهم..

وإشارات سباباتهم..

سباباتهم لا تخطئ..

يصغون إلى وجع الأرض..

ثم.. لا شيء يكدر عليهم الموت.

* * *

“من مفرق جاسم..

يرددها الحوراني.. ويستمع إليه الشعراء في سوريا..

الشعراء.. يرممون قصائدهم القديمة..

لماذا يخجل الشعراء من قصائدهم القديمة.؟

ينادي المغني: أعيدوا لي حنجرتي.. وكماني النازف..

لا أحد يسمع صوت المغني..

يموت المغني كل يوم..

والعاشقة الحورانية تجهش بحناء شعرها..

تمد رأسها من زنبقة القهر و تردد: “من مفرق جاسم للصنمين

حاج تهلي الدمع يا عيني”.

() شاعر سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى