صفحات الرأي

من هو النادي الذي يريد أن تستولي روسيا على العالم؟/ ناتاشا بلوث

 

 

تعمل مجموعة صغيرة من المثقفين على وضع مخطط أوليّ لإمبراطورية روسية جديدة.

في الخريف الماضي، نشرت صحيفة روسية يمينية بارزة تُدعى “زافترا” قصة خيالية عن حركة سرية يُقال إنها تتآمر ليُنتَخب فلاديمير بوتين مستشاراً لألمانيا. كان ذلك قبل أيام فقط من خوض البلاد الانتخابات البرلمانية، بينما تواجه مستشارته الحقيقية، أنجيلا مركل، تهديدات غير مسبوقة من اليمين المتطرف وهي تسعى إلى الحصول على فترة ولاية رابعة.

يبدو أن مصدر إلهام زافترا جاء من تقرير نُشر على موقع يميني سويدي، زعم ظهور ملصقات في العاصمة الألمانية، برلين، عليها شعار “صوتوا لبوتين مستشاراً لألمانيا”. ولكن بإمعان النظر، كان واضحاً أن الصورة المستخدمة في التقرير مزيفة- وربما تكون الملصقات نفسها غير حقيقية أصلاً.

بدا الأمر تضليلاً إلكترونياً نموذجياً- محاولة لنشر ادعاء مثير للجدل يمكن كشف زيفه بسهولة، لكنه مع ذلك أثار جدلاً، وخلق انطباعاً باحتمالية أن يكون صحيحاً، ببساطة لأنه قد نُشِر.

حقيقة أن هذه القصة نُشرت في “زافترا” أعطتها قيمة إضافية، لأن ألكسندر بروخانوف، رئيس تحرير الصحيفة، هو أيضاً رئيس مؤسسة فكرية قومية متشددة ذات نفوذ متزايد، تُعرف باسم “نادي إيزبورسكي”، وهي عبارة عن “حلقة فكرية” من الفلاسفة والصحافيين ورجال الأعمال والكهنة الأرثوذكس، وهي مكرسة لتعزيز السلطة الروسية.

يطلقون على أنفسهم اسم “الإزبوريين” ويزعمون أنهم يسعون إلى نظام عالمي أكثر “عدالة”، ولكن مع طموحات إمبريالية واضحة لوضع روسيا في المركز. ومنذ أن أنشأ برخانوف النادي منذ ست سنوات، عمل هو وأعضاؤه بجد في محاولة جعل أفكارهم حجر زاوية في سياسة الكرملين.

سُمي النادي على اسم مدينة في غرب روسيا حيث أُنشئ، وهو ينادي إلى “الأوروآسيوية”، وتوسيع نطاق سيطرة موسكو ونفوذها على منطقة تشمل الاتحاد السوفياتي السابق وأوروبا الشرقية وأجزاء من آسيا. ستؤدي الإمبراطورية الأوراسية الشمولية بقيادة روسيا في النهاية إلى الإطاحة بالغرب والقيم الديموقراطية التي يمثلها. ولتحقيق ذلك، يدعو النادي أيضاً إلى طريقة ستالين في سياسات التصنيع، وتحويل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي إلى الاكتفاء الذاتي، ودمج الحكومة مع الكنيسة الروسية الأرثوذكسية.

لا يكتفي الإزبوريون بـ”زافترا” فحسب، بل يستفيدون بشكل كامل من انفتاح الإنترنت ومجموعة من المواقع الداعمة الأخرى لإيصال رسالتهم. ويظهرون بشكل منتظم على شاشات التلفاز وفي المؤتمرات أيضاً. يمكن القول إن هذا النادي هو أول مبادرة ناجحة لجلب جميع الفصائل المتنافسة من أقصى اليمين في روسيا، وأفكاره، تحت مظلة واحدة.

انتصار في القرم

في يونيو/ حزيران 2014، اجتمع وفد يضم أكثر من عشرين إيزبورياً في قصر ليفاديا على ساحل شبه جزيرة القرم. كان الزوار، الذين ارتدوا ملابس غير رسمية، يتخلفون وراء بروخانوف أثناء قيامهم بجولة في ما كان ذات يوم الملاذ الصيفي لقياصرة روسيا. لاحقاً، ركع أعضاء النادي لتقبيل أراضي شبه جزيرة القرم وقاموا بجولة في واحدة من بوارج أسطول البحر الأسود الروسية.

كان وجود دبابة للجيش تعود إلى الحرب العالمية الثانية، تذكيراً بأن هذا لم يكن مجرد مكان استعماري سابق لقضاء العطلات، بل كان أيضاً مكاناً لعقد مؤتمر يالطا عام 1945، حيث قام ستالين وتشرشل وروزفلت بتقسيم عالم ما بعد الحرب. في نظر الإزبوريين، كانت تلك لحظة شكلت حاجزاً أمام طموحات روسيا المشروعة.

ولكنهم هذه المرة كانوا هنا للاحتفال بالسلطة الروسية. قبل بضعة أشهر، نجحت قوات الكرملين في ضم شبه الجزيرة. رفع الإزبوريون أياديهم وأذرعهم إلى السماء مبتهجين، والتقطوا صورة أمام قصر الغرانيت الأبيض. بعد مرور ستين عاماً على منح خروشوف شبه جزيرة القرم لأوكرانيا، أعادها فلاديمير بوتين- في نظرهم- إلى مالكتها الشرعية، روسيا.

وكان نيكولاي ستاريكوف، الكاتب والرئيس المشارك في حزب الوطن العظيم Great Fatherland، المحافظ والمؤيد للأرثوذكسية، من بين المحتفلين الإزبوريين. وقال للصحافيين الروس إن ضم شبه جزيرة القرم كان “نقطة البداية لتطور معين في الأحداث، ليس في روسيا فقط، بل في العالم كله”. بدا الأمر بداية حقبة جديدة لبروخانوف وأتباعه أيضاً.

اتبع مؤسس نادي إيزبورسكي مساراً مثيراً للاهتمام. فهو أولاً صنع اسمه كناشر، خلال الحقبة السوفياتية. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، أطلق بروخانوف مجلة موجهةً إلى أقصى اليمين، ثم بدأ تعاوناً مع الفيلسوف اليميني والاستراتيجي ألكسندر دوغين، وهو رجل يُعد من حاملي شعلة القومية الروسية المتطرفة.

والآن وقد أصبح أشهر الإيزبوريين، صارت لدوغين حياة مهنية أكثر تنوعاً، فهو يقدم المشورة للسياسيين ويخدم في المناصب الأكاديمية رفيعة المستوى، بينما يساعد في الوقت نفسه على إنتاج بعض الأندية والمؤسسات المحافظة جداً والتي انطلق منها نادي إيزبورسكي. كما أنه كاتب غزير الإنتاج، وله قناته الخاصة على موقع “يوتيوب”.

المثير للجدل هو مدى تأثيره على السياسة الخارجية والداخلية لروسيا. من المؤكد أن وسائل الإعلام الغربية كانت أحياناً تبالغ في تقدير أهميته، وأحياناً كانت الحكومة الروسية تعامله بلا مبالاة. إلا أنه لا يزال يمتلك صوتاً مسموعاً. وكتابه “أساسيات الجغرافيا السياسية” يظل عنصراً أساسياً في المناهج الدراسية في العديد من مؤسسات التعليم العالي في البلدان السوفياتية السابقة. ولطالما كانت استعادة شبه جزيرة القرم سمة رئيسية في خطة دوغين الرئيسية، وهي خطوة أولى ضرورية لمنح روسيا وصولاً بحرياً أفضل إلى القارة الأوروبية.

وليست هذه هي الطريقة الوحيدة التي يبدو بها أن نادي إيزبورسكي هو غرفة المحركات الفكرية الخاصة بـ”كرملين” فلاديمير بوتين. فأعضاؤه معنيون بتهديد “الثورة الملونة” في روسيا فحسب، حيث يراقبون الثورات المتعددة التي أسقطت الحكومات في الجمهوريات السوفياتية السابقة خلال الخمسة عشر عاماً الماضية.  فقد ساند “الإزبوريون” بقوة كذلك مبادرة بوتين لإنشاء الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وتحويله إلى ند للاتحاد الأوروبي. وبالمثل فإن الجهود الروسية للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية تتماشى مع أهدافهم.

وهم كذلك يتمتعون باتصال مباشر مع “الكرملين”. فإن أحد أعضائه، وهو سيرغي غلازييف، يعمل حالياً مستشاراً لبوتين، بينما تولى آخرون مناصب حكومية سابقاً، أو تمتعوا بعلاقات مقربة بالزعيم الروسي. بل إن الأسقف تيخون، وهو أحد القساوسة الأرثوذكس في النادي، معروف بأنه كاهن الاعتراف الشخصي لبوتين.

وعلى رغم كل روابط التأسيس لدى “الإزبوريين”، فإنهم كذلك قد أبدوا استعداداً لمعاداة بعض مؤيديهم الطبيعيين. فعام 2015، أثار بروخانوف حفيظة الكهنة في مدينة ساراتوف الجنوبية بتعميد أيقونة تصف ستالين وهو محاط بقادة الحرب الروس ويعلوه أربعة قديسين ومريم العذراء وطفل. أدان الأسقف المحلي التصرف ووصفه بأنه “تحريف شديد لمشاعر دينية ووطنية”، داعياً الهيئات الكنسية وغيرها من المؤسسات إلى عدم التعاون مع “الإزبوريين” وبروخانوف بصفة شخصية.

وفي العام ذاته، انضم النادي إلى مجموعات قومية أخرى في انتقاد بوتين لسحبه دعم المشروع المعروف بـ”روسيا الجديدة”، وهو تخيل لاتحاد كونفيدرالي لدول في جنوب شرقي أوكرانيا، حيث اندلعت الحرب عام 2014. وقد وافق “الكرملين” على دعم الفكرة في ذروة القتال. ولكن بعد عام تغيرت أولويات الحكومة، ووجد “الإزبوريون” أنفسهم غير مسايرين ولا يظهرون في الإعلام الذي توجهه الدولة، وهو وسيلة حكومية روسية تقليدية لاستغلال المجموعات القومية وتوجيهها.

ولكن يصعب أن تكون هذه نهاية نادي إيزبورسكي. قال مارك غاليوتي المؤرخ المختص في الشأن الروسي إنه ما زال مفيداً بشكل كبير للكرملين، في توفير مصدر للأفكار التي تمكن استعارتها منه “عندما يكون هذا ملائماً”. رفض بروخانوف وغيره من أعضاء النادي كل الطلبات بالتعليق.

عمل النادي أيضاً كعتبة محافظة في السياسة الروسية، بإسكات أي أصوات تدافع عن اتجاه أكثر تحرراً، أو عن التقارب مع الغرب. ويصلح هذا الأمر في اتجاهين أيضاً، حيث يسمح للكرملين بالحفاظ على مسافة منه، حين يصفه بالمتطرف للغاية عند الضرورة. يقول مارك غاليوتي: “إن الدولة سعيدة حقاً بهذا النادي”، وأضاف: “بمجرد أن تحظى بهذا الجمع من اليمينيين المتشددين الصارخين… فهذا سيظهرك بمظهر المعتدل”.

على رغم ذلك، ما زال أعضاء النادي يتمتعون بالتأثير، من طريق نشر الأفكار المتطرفة عبر وسائل الإعلام وظهورهم الجماهيري، بحيث يحركون السياسة في الاتجاه اليميني. وهم مشغولون أيضاً على الجبهات الأخرى، بمحاولة بناء تحالفات دولية مع القوى اليمينية الأخرى.

كانت ألمانيا هدفاً مهماً، إذ كان كل من بروخانوف ودوغين يقيمان روابط مع الناشر يورغن إلساسار. كان إلساسار في ما سبق يسارياً متطرفاً عارض إعادة توحيد ألمانيا. أما اليوم، فهو يدير مجلة “كومباكت” المفرطة في المحافظة، التي تعتقد بوجود تحالف أوراسي بين ألمانيا وروسيا دام لفترة طويلة. وقد انحاز إلى روسيا في صراعها في أوكرانيا ولديه علاقات قوية بالحزب اليميني المتشدد الجديد في ألمانيا، وهو حزب “البديل من أجل ألمانيا” الذي حصل على أكثر من 90 مقعداً في انتخابات العام المنصرم.

وقد تكون للكرملين يد في التقدم المبهر لحزب “البديل من أجل ألمانيا”، من طريق البرامج الإعلامية الدعائية التي تستهدف المواطنين الألمان من أصل روسي والجهود المبذولة لإثارة الخلافات حول قضايا مثل المهاجرين واللاجئين.

وهناك مؤسسات روسية أخرى، مثل المنتدى البرلماني الدولي، تقوم أيضاً بمبادرات “الإزبوريين” لبناء روابط مع السياسيين المؤيدين للكرملين، في كل مكان بأوروبا.

وعلى رغم وجود نقاط تشابه في المظهر بين “الإيزبوريين” وغيرهم من الجماعات اليمينية المتطرفة الأخرى خارج روسيا، فهناك نقاط اختلاف أيضاً. فحزب ألمانيا الجديد “البديل من أجل ألمانيا” على سبيل المثال، يشجع بشكل فعال على المواقف المناهضة للإسلام ضد كل المسلمين. بينما الأوراسيون الروسيون، على الجانب الآخر، يدعمون عموماً المسلمين الذين يتخذون موقفاً معادياً للولايات المتحدة الأميركية.

على رغم ذلك، هناك تفاصيل صغيرة تخص جماعة طموحة مثل نادي إيزبورسكي. فمثل هذه المجموعات السياسية تنجح من طريق القيام برهانات متعددة بشكل متزامن. أما في ما يتعلق بالحاضر، فيبدو أن النادي يزدهر، إذ أعلن عن افتتاح فرع جديد في مدينة سان بطرسبرغ العام الماضي. وكان هذا الفرع هو المكتب الإقليمي الثاني والعشرين بين مقراته الرئيسية بالقرب من الكرملين وسط موسكو. وهذه إشارة إلى أن زمن “النادي” قد حان، وفقاً لألكسندر دوغين.

فقد قال في مقابلة مصورة إن “الشعب إيزبوري”، مضيفاً: “إن وطننا إيزبوري”.

هذا المقال مترجم عن codastory ولقراءة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي

The club that wants Russia to take over the world

درج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى