صفحات المستقبل

من يأكل “قلب العروبة النابض” ؟/ روجيه عوطة

 

بعد توطئة سلسلة “نثور بلا ثورة”، جاءت الحلقة الأولى عن القتلى في سوريا، والثانية عن العلاقة بين نظام الأبد، ودولة البقاء، والفارين في أرض الموت. هنا الحلقة الثالثة عن تقاطع الخطابين الممانع واللاممانع حول حادثة “أبو صقار”.

في حال رغب المرء في البحث عن حادثة، تطابق على إثرها، الخطابان اللاممانع والممانع، سيقع على الفيديو الشهير، الذي يظهر فيه واحد من المقاتلين، يدعى خالد الحمد، وملقب بـ”أبو صقار”، وهو يستأصل جزءاً من قلب أو رئة أحد الشبيحة، رافعاً إياه نحو فمه، محاكياً قضمه بأسنانه، والتهامه، مهدّداً جنود بشار الأسد بالقول: “نقسم بالله سنأكل من قلوبكم ومن أكبادكم. تكبير. والله يا أبطال باب عمر… سأخرج قلوبهم لأكلها”. أمام هذا الشريط الـ”يوتيوبي”، الذي انتشر بعد أن أضاءت عليه مجلة “التايم”، اجتمع الخطابان، كل بحسب قاموسه وغايته، على شجب وإدانة الفعل التنكيلي، من أجل التأكيد على “وحشية” مواجهي الأبد و”بربريتهم”، أو لنقد العنف الظاهر في ممارساتهم “المشوّهة لصورة الثورة”.

لم تتردّد الممانعة في تحويل الفعل إلى وصف شامل، موضوعه كل مقاتلي النظام، وذلك انطلاقاً من هدفها المعروف، أي سحقهم. إذ أدخل حزب الله عبارة جديدة إلى قاموسها، يتهم بها المعارضين بأنهم “قاطعو رؤوس ونابشو قبور وآكلو قلوب”. في المقابل، لم تحسن اللاممانعة التعامل مع الفيديو سوى كوثيقة دامغة على أن الثورة تأخذ مساراً عنيفاً، سيتضاعف أكثر فأكثر. كما أنها، وبطريقة ممانعة معكوسة، لم تجد في “أبي صقار” نموذجاً عاماً من المقاتلين، بل من ممكنهم التحولي، بحيث أن الغالب منهم قد يصير مثل الحمد، نظراً إلى غياب الانضباط، وبسبب عنف النظام المستمرّ. فإذا كانت الممانعة تقول “كلكم مثل أبو صقار”، اللاممانعة تردّد بدورها “كلكم ممكنه”، وفي الحالتين، ثمة شمولية موضوعها الحالي وإمكانه، وداخلها، الثورة بمثابة كُل، قد تشنجه أي ممارسة، وتقربه من الانهيار. هذه علامة أخرى على تغيير الثورة إلى نظام مضغوط، في ظلّه، لا مكان للتفرّدات أو الكثرة، التي تختلف من دون أن تعكس صورة ما، أو تمثلها.

تشميل المحتمل

ذلك، أن ثورة اللاممانعة تنقبض على إثر أي فعل تفرّدي، ينطوي على مخالفة صورتها المجردة، خصوصاً أن خطابها لا يتوقف عن التراجع أمام كل حدث بعد تشميل احتماله. بكلام آخر، وبالنسبة لخالد الحمد، وقعت اللاممانعة في فخ النظام، ليس لأن المقاتل قد تحول إلى “بربري”، أي أنه “تشابه مع القاتل”، بل لأنها كرّرت ما تقوله الممانعة بطريقة مقلوبة. إذ اعتقدت أن فعل “أبا صقار” ليس حادثة منفردة، أو تصدر عن شخص بعينه، على العكس، نظرت إليه على أنه الممكن الضامر في داخل كل واحد من المقاتلين، الذين سيحققون يوماً ما، تصور الممانعة عنهم، أي سيصبحون “وحوشاً”. كما أن قراءة الخطاب للفيديو، وبسبب انقباضه، وتعرّضه لضغط الإعلام الدولي، قد جاءت مشوبة بالأخطاء. أولها، أن خالد الحمد ليس من “قيادات المعارضة البارزة”، على ما أشاعته بعض المجلات والصحف، أو “قائد المعارضة”، على ما زورت بعض المواقع الممانعة، بل إنه كان عنصراً في “كتيبة الفاروق”، قبل أن يؤسس ورفاقه مجموعة “عمر الفاروق المستقلة”. وثانيها، أن المقاتل لم يشتم “العلويين” في ظهوره الفيديوي، مثلما أذاع الكثير من المعلقين وقتها، كأنهم لم يعاينوا المقطع على “يوتيوب”، وثالثها، أن “كانيبالية” الحمد اقتصرت على النظر إلى الكاميرا، وتثبيت العضو المستأصل، وهو على الأرجح قطعة من القلب أو الرئة، بين الأسنان، بدون أن يدرك المشاهدون إن كان إلتهمه، أم رماه من يده، نتيجة انقطاع التسجيل.

لا شك أن اضطراب القراءة تلك، مردّه إلى الضغط، الذي مارسه جزء من الصحافة العالمية، إذ بدا وقتها كأنه حصل على مبتغاه، كي يسوِّغ موقف الأنظمة الدولية من الحراك الثوري، ملمّحاً إلى مقارنة بين “الرئيس الشاب، المودرن بشار الأسد” و”رمز المتمرّدين الكانيباليين خالد الحمد”، بغض النظر عن فظائع الأول، الحاضرة والموثقة على “يوتيوب” وغيره، وتوصيف الثاني، الذي تغيب عن فعله شروط الرمز الجامع. هذا، ويردّ ارتباك القراءة إلى أن الخطاب اللاممانع كان يجهد حينها، وعلى عادته، في الإجابة عن سؤال الممانعة حول انعدام “إنسانية” أعدائها. وبالتالي، حصرته في تهمة “الشر”، الذي حاول دفعه عنه، متموضعاً في “الخير”، ومرسخاً ثنائيتهما. “أنتم أشرار، ترتكبون جريمة وحشية” تقول الممانعة، “نحن أخيار، وندين هذه الممارسة غير الإنسانية”، ترد اللاممانعة. إلا أن حادثة “أبي صقار” تتجاوز هذا التقسيم، وتتعدّاه ببنائها المشهدي، مثلما أن إدانتها أو الدفاع عنها لا ينفعان خصوصاً حين ينطلقان من معيار مجرد، ويعلقان فيه، إما كدعوة إلى العنف كسبيل وحيد لإسقاط النظام أو بحجة الابتعاد عن تكريسه. “استنكروا، لا تبرّروا”، يكتب الكثيرون من دون أن يدركوا أن البحث في فعل شرس، كالذي أقدم عليه “أبو صقار”، يتخطّى تصنيفه على أساس “الخير والشر”، “الإنسانية واللا- إنسانية”.

مع العلم أن تخطي هذه الثنائيات لا يعني الحُكم على الحمد أنه “وحش”، بمعزل عن معنى “الوحشية” في سياق حادثته، ومن ثم الانتقال إلى تعداد الأسباب، التي دفعته إلى فعله، أي إرهاب النظام في البلاد، وقتل أقربائه ورفاقه في منطقة بابا عمرو، فضلاً عن مشاهدته فيديو الاغتصاب في هاتف الجندي النظامي… إلخ. فهذه الطريقة، التي تنطوي على حُكم مخفف بالسببية، ليست قادرة على معارضة السلطات، بل إنها، من جهة، تستند إلى ثنائية “فعل/ ردة فعل” أيضاً، ومن جهة أخرى، تؤكد للنظام أن استراتيجيته قد نجحت في “جرّ الناس إلى الحرب”، التي تصبح كل ممارسات المقاتلين فيها مجرد عنف مضاد، وليس صناعة للمواجهة، أو ابتكاراً لها. فجميع الفارين من الأبد، بحسب هذه الثنائية، ليسوا فاعلين، بل يحركهم النظام بالضد منه. وعلى هذا الأساس، تصبح السلطة هي الفاعل، ومقاتلوها يتأرجحون بين كونهم مفعولا به وفاعلا سلبيا، أما الفعل فهو العنف، الذي يتطلب الوقوف عليه حديث آخر.

باختصار، ثنائيات الخطاب اللاممانع، وبمستوياتها المتفاوتة، تقبض على قدرة الناس، وتغتال مسؤولياتهم أمام أي حدث، وتعطل خوضهم إياه. الممانعة تقول لهم: “أنتم وحوش على عكس رئيسكم المودرن”، اللاممانعة تخبرهم: “أنتم مفعول بكم، وقد تصبحوا وحوشاً إذا لم تكونوا مودرن ضد رئيسكم…كرئيسكم”، أما، الناس، بالمفرد والجمع، فلا تزال تجرب أن تصير فاعلة في ابتكار ممكنها، والتحول داخل الأحداث.

كاميرا الإنفصام

يقول “أبو صقار” في إحدى المقابلات معه، إنه لم يكن يريد ممارسة فعله، “لكني كنت مضطراً”، وعندما يُسأل عن التهامه العضو المستأصل من صدر الجندي، أي القلب أو الرئة، يجيب أنه لم يأكله، بل رفعه من أجل الاستعراض فقط. والحق، أن المقاتل، بحسبما يظهر في التسجيل، نظر في الكاميرا قبل تقريبه قطعة اللحم البشري إلى فمه، والعضّ عليها. بالتالي، كان يرغب في تأليف عرض أمام العدسة، وافتعال حدث داخل المشهد، حيث وقف كموضوعٍ وحيد، يدور موبايل المصوِّر من حوله. وهذا، ما يرتبط بشخصه كـ”مولع بالكاميرات”، بحسب ما يذكر أحد رفاقه للصحافية مونيكا ج. برياتو.

إذاً، العدسة ليست مفصولة عن تلك الحادثة، ذات البصرية “الكانيبالية”، التي شكلها “أبو صقار” بهدف عرضها. وفي هذا المطاف، من الضروري الإشارة إلى ما كتبه أحد المعلقين تحت واحدة من مقابلات الحمد، إذ توجّه له قائلاً: “يا أخي، كنت افعل بالجندي ما تشاء، بس ما تصوّر، ما تصوّر”. غير أن المقاتل فعل “ما يشاء” لأنه أمام الكاميرا، أو كي تُلتقط صورته المتحركة، وتُنشر. فخلال ذلك الحدث-المشهد، لم يكن يعرف الحمد ماذا يفعل، “حقيقة لا أتذكر”، كما يقول، بحيث صار شخصاً آخر، لا يشبهه بعيداً من العدسة، أو خارج إطارها، لذا، وعلى طريقة انفصامية، لا يتردّد في إدانة فعله، وفي التأكيد على أنه ليس قاتلاً، ولا مجرماً، ولا حاقداً.

لكن، هذه الانفصامية لا تظهر في ذلك فحسب، بل إنها تطغى على معظم مقابلات الحمد وفيديواته، فمرة، يندم، ومرة، ينفي ندمه، وحيناً، يقول إنه مضغ لحم كبد، ثم رئة، ثم قلباً، وأحياناً، يعود وينفي قضمه، لكن، الثابت في كل ذلك، أنه، أمام كاميرا، تحول إلى موضوع يستعرض قوته، التي يؤكد أنها “ردة فعل شخصية”، لا تمثل أحد، صحيح، لكنها، على ما يبدو، لا تمثله أيضاً. فهو خارج الإطار غير داخله، بحيث أنه في المكان الأول، يدين العنف، لكنه، في الثاني، يمارسه، نظراً إلى أن العدسة تحفز على صناعة الحدث. ففوق تلك الجثة، لم يكن هناك مجال لافتعال مشهد جديد سوى بتركيز كل النظام فيها، وتحويلها إلى جسده، ومن ثم شقه، واستخراج قطعة منه، والقول إنه “قلبه”، أي العضو الأكثر فعالية، والذي لطالما احتكره الأبد لوصف سوريا بـ”أنها قلب العروبة النابض”.

مخاطبة بمرآة مثيرة

وربما يصحّ في هذا السياق، تركيب معادلة بصرية، مفادها أن إشهار الكاميرا أمام المقاتل الواقف إلى جانب جثة ما، ستحفّزه على افتعال حدث جديد، وهو إسكان جسد آخر داخلها، وقتله من خلال التنكيل بها، أو تمثيل التنكيل على وجه الدقة، أكان صوتياً كشتمها، أو جسدياً، كشقها. وعند عطف هذه المعادلة على التصوير في سوريا كفعل لتمويت الأبد، أو كاستخلاص الموت منه، من الممكن تلمّس خطورة حادثة “أبو صقار”.

ذلك، أن الكاميرا، في حادثة “أبا صقار”، لم تُمِت الأبد، الذي كان ميتاً مسبقاً في جثة الجندي المقتول، بل إنها أعادته إلى الجثة، أسكنت النظام فيه، وبالفعل نفسه، أعادت المقاتل إلى ما كان عليه قبل أن ينتهي من الأبد. لنقل إن الكاميرا أعادت المعركة بين الحمد والنظام إلى النقطة صفر، أي كررتها وهمياً، لكن، هذه المرة، بالتمثيل الهذياني بجسد الأبد، فمن ناحية، المقاتل ليس هو ذاته، ومن ناحية أخرى، النظام ليس في جثته المقتولة، بل إنه داخل أجساد قاسية أخرى، تنتشر في كل الجهات. لقد خدعت الكاميرا “أبا صقار”، وضعته في مواجهة وهمية، لا فائدة منها، ربما أدرك ذلك، لكنه، لم يكترث ما دام صنع حدثه المشهدي، وتحول على إثره إلى كائن لا يمثله، كائن قرر، بعد خروجه من الإطار، أن يخاطب العالم بمشهده “الكانيبالي”.

وقد انطوت هذه المخاطبة على ضرب من الإثارة، أشار إليها مصوِّر “أبي صقار”، حين توجه إليه قائلاً: “راسمله قلب حب..”. كما لو أن التمثيل “الكانيبالي” لا ينفصل عن التمثيل الإغرائي، بحيث أن الإلتهام والحب مرتبطان، خصوصاً أن هدفهما، في تلك الحادثة، هو “القلب”، أو ممثله العضوي. والحال، أن المقاتل، بعد تحوله إلى موضوع تصوير، لم يعد “إنساناً”، يمر إدراكه عبر العقل، إذ ظهرت فيه القوة ما قبل الإنسانية، التي تصنع تفرده. ففي تلك اللحظة الشرسة، صار “وحشاً”، ليس بالمعنى الممانع أو اللاممانع، بل بمعنى أنه لم يكن مبالياً بهويته كـ”إنساني أو غير إنساني”، أو إلى تطابق صورته بين المشهد والواقع. ذلك، أنه كموضوع بصري رغب، حين رفع القلب إلى فمه، في إثارة العالم، الذي تركه وحيداً، كباقي الناس، معلناً له: “أنت لست موجوداً، أنت تختفي في نظري!”، أو “أنا مرآتك، شاهد بشاعتك فيَّ، أما، إنسانيتك الحديثة فهي مجرد لعبة مغرية بالنسبة لي”. وبالفعل، الحمد خاطب العالم كثيراً، ليس في مقطعه التسجيلي مباشرة، بل في فيديو آخر، جاء بعد التمثيل الالتهامي. خلاله، قال: “أنا واحد من الشعب السوري، والشعب السوري جزء من العالم، أنا مستعد لمحاكمتي على شرط أن يحاسبوا بشار وشبيحته على الجرائم التي ارتكبوها ضد أطفالنا ونسائنا”.

في النتيجة، كان الحمد يطالب الأنظمة الدولية أن تثبت حضورها بتوقيف مجازر بشار الأسد، كي لا تبقى غائبة بالنسبة له، وكي لا يتحول الجميع إلى مواضيع تصويرية، إلى مرايا منفردة، تعكس وجوه تلك الأنظمة وبشاعتها، قبل أن تبدّدها. بالتالي، لم يكن غريباً أن يدافع البعض عن خالد الحمد على “فايسبوك”، بعبارة “كلنا أبو صقار”، إذ أن لحادثته سياقاً ثورياً، يتعلق بالخوض “الوحشي” للوقائع، على أساس اللامبالاة بالهوية الإنسانية أو انعدامها، وكفعل انفصامي غير مكترث بتطابق صورته بين الواقع والحدث والمشهد، وذلك، دون أن يعاينوا خطورة فعله التنكيلي، الذي يعيد الأبد إلى جسد الموت، ويكرر المعركة معه بشكل وهمي، معرقلاً مواجهته الفعلية.

أما العالم الدولي، فأشاح نظره عن مرآة بشاعته، مكبوته، بعد أن ندد بها، واستعملها كصورة ليسوّغ وقوفه الصامت إلى جانب بشار الأسد، ذلك، على الرغم من مخاطبة الناس له في أكثر من مناسبة، أكان في التظاهرات أو غيرها. ومع تتابع الأحداث، وجد الفارون من الأبد في التردكل (من راديكالية) الديني قلب العالم غير الموجود، الذي يحتاجون إليه كي يضخوا “البقاء” في شرايين أجسادهم. لم يصبحوا “كانيباليين”، لكنهم، “بقوا” على أرض الموت، هناك، حيث انتشرت التنظيمات الجهادية، وارتفعت، في ما بعد، “الدولة الإسلامية”، دولة “قلب العالم الذي لا قلب له”، دولة “الوحشي والحديث” في آن معاً… مَن يأكل قلبها دون أن يعيد إحياء قلب العروبة، مَن يكون كانيبالياً، بالمعنى الإستعاراتي، بلا أن ينكل بجثة،

ويعيد النظام إليها؟

الحلقة المقبلة: قاتل الحيوات… والحيوانات

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى