صفحات العالم

من ينقذ الجامعة العربية من حالة الموت السريري؟


مسعود ضاهر

خلال تاريخها الطويل تعرضت جامعة الدول العربية إلى انتقادات قاسية لا حصر لها. والسبب في ذلك أنها لم تنشأ كمؤسسة مستقلة عن الأنظمة العربية بل لتعبر عما تتفق عليه تلك الدول. فكان نظامها الداخلي يشل قدرة جهازها الإداري على الحركة ويجعلها عرضة لتجاذبات عربية شديدة التبعية للدول الكبرى ذات النفوذ القوي في المنطقة العربية بشكل خاص، ومنطقة الشرق الأوسط ذات الدور الفاعل جداً في الاقتصاد العالمي بشكل عام.

مع غياب التوافق على برنامج الحد الأدنى بين الدول العربية، عبرت الجامعة دوماً عن صراعات العرب وليس عن توافقهم على قضايا محددة. وعجزوا عن التوافق على مشروع نهضوي واحد تتبناه الجامعة وتعمل إدارتها على تنفيذه.

منذ بداية استقلالها انقسمت الدول العربية إلى محاور عدة أدت لاصطفافها ضمن صراع الدول الكبرى بزعامة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ولفترة محدودة برز حضور عربي فاعل في كتلة دول عدم الانحياز ثم انتهى مع هزيمة العرب عام 1967.

وفي أعقاب حرب أوكتوبر 1973 وجهت اتفاقيات كامب دايفيد ضربة أليمة للتضامن العربي ولجامعة الدول العربية معاً، فتم ترحيلها إلى مقر جديد في تونس لسنوات طويلة، بعد أن حاولت عزل مصر، التي تشكل قاطرة الدول العربية في السلم والحرب.

بعد الحرب الباردة، نجح محور كامب دايفيد في جر غالبية الدول العربية للاصطفاف وراء مشروع الشرق الأوسط الكبير وفق التوصيف الأميركي، والشرق الأوسط الجديد وفق التوصيف الإسرائيلي. كما نجح في جر قسم كبير من الفلسطينيين إلى مفاوضات عبثية انتهت بمكاسب حقيقية لإسرائيل مقابل تنازلات وهمية للفلسطينيين. فكان على سوريا أن تخوض معركة البقاء والدفاع عن وجودها كدول مستقلة ذات سيادة، وقادرة على استرجاع أراضيها المحتلة، بالطرق السلمية نظراً لغياب القرار العسكري بالمواجهة. كان موقفها ضعيفاً بسبب غياب التوازن الدولي وتفرد الولايات المتحدة في قيادة النظام العالمي الجديد. ورغم تحالفها الوثيق مع إيران، وتحالفها الذي لم يعمر طويلاً مع تركيا، باتت سوريا محاصرة عربياً بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003.

ومع حلول انتفاضات الربيع العربي التي أطاحت بزعماء أربع دول عربية عام 2011 بدأ التحضير جدياً لإسقاط النظام السوري في إطار تحالف عربي واسع مع المشروع الأميركي- الأوروبي- الإسرائيلي، وفق سيناريو مشابه لإسقاط نظام القذافي، عبر تدخل قوات حلف شمالي الأطلسي المدعومة أميركياً. ودخلت الجامعة العربية كطرف في الأزمة السورية لتساهم في تأزيمها وليس في حلها.

أثبتت قيادة الجامعة العربية أنها تفتقر إلى القرار السياسي المستقل بسبب نظامها الداخلي الذي يمنع اتخاذ قرار بمعاقبة أي دولة عربية إلا بالاجماع من جهة، وخضوع إدارتها لدول نفطية رصدت ملايين الدولارات لإسقاط النظام السوري من جهة أخرى. ولم تتنبه إلى بروز معارضة دولية بقيادة روسيا والصين تمنع معاقبة سوريا في مجلس الأمن على النمط الليبي. نتيجة لذلك تعطل دور الجامعة، وتعرضت لانتقادات حادة من دول عربية، تهادنها حيناً ثم تهاجمها بعنف، حين تعجز عن تنفيذ مخططات تخدم سياستها.

اتخذت الجامعة إجراءات صارمة ضد النظام السوري تحت ستار عجزه عن إنهاء أزمته المستمرة منذ عدة أشهر. وكررت الدعوة إلى وقف العنف، وانسحاب الجيش من الشوارع السورية، وإطلاق سراح المعتقلين، وإجراء حوار جدي مع المعارضة في مقر الجامعة. وأيدت دول عربية وعالمية جهود الجامعة لإنهاء الأزمة السورية لمنع أي تدخل خارجي. ومنها من دعت إلى بدء حوار مباشر لتتفيذ قرارات الجامعة بكامل بنودها. وصدرت بيانات عقلانية تدعو إلى المشاركة الايجابية بين الحكومة السورية والمعارضة لإنجاز تسوية سياسية متوازنة تحافظ على سيادة سوريا ووحدة أرضها وشعبها، وتضمن للجامعة دوراً متقدماً في المستقبل كشريك فاعل في حل النزاعات العربية – العربية. وبذلت جهود دولية لتقريب وجهات النظر بين الحكومة والمعارضة لحملهما على تهدئة الأوضاع الداخلية في سوريا تمهيداً للقيام بالإصلاحات الضرورية التي ترضي المعارضة وتؤسس لمرحلة جديدة ترسي العلاقة بين الدولة والمجتمع في سوريا على الحوار الديموقراطي البناء، ورفض كل أشكال العنف المسلح الذي يفضي إلى حروب أهلية تنتهي بتدمير الدولة والمجتمع معاً.

لكن الجامعة ارتكبت خطأ فادحاً في الاعلان الرسمي عن تعليق عضوية سوريا في جميع مؤسساتها، ودعوة دولها إلى سحب سفرائهم منها، وفرض عقوبات عليها لإجبارها على تنفيذ خطة السلام التي أقرتها. فكانت ردة فعل سورية عنيفة في أوساط الحكومة وجماهير الشعب السوري معاً. وانفجرت مظاهرات حاشدة للإعراب عن سخط السوريين ضد قرار الجامعة ومواقفها الجائرة ضد شعب بأكمله تحت ستار الدفاع عنه.

تجدر الإشارة إلى أن قرار تعليق العضوية ليس فقط غير قانوني بل هو يشكل انتهاكاً صريحاً لميثاق الجامعة نفسها. وإن الهدف منه هو التحضير لإسقاط النظام السوري عبر التدخل الخارجي على غرار إسقاط نظام العقيد القذافي .لكن إدارة الجامعة لم تتنبه إلى موقع سوريا ودورها في منطقة الشرق الأوسط، وأن دولا عالمية فاعلة كالصين وروسيا لن تسمح بإسقاط النظام السوري وتسليم منطقة الشرق الأوسط بأكملها للأميركيين.

إن الجامعة العربية حين تنكرت لميثاقها، ولنظامها الداخلي، ولوظيفتها كمؤسسة عربية لحل النزاعات داخل الدول العربية وليس لتأزيمها، حكمت على نفسها بالفشل الدائم وباتت في حالة من الموت السريري. فلم تعد ملتقى للتضامن العربي بل مصدر تفجير لنزاعات عربية قد تتكرر في دول عربية عدة، ولم تبق صورة الجامعة كما كانت في السابق. وبرزت تساؤلات مشروعة: ما هو مصير الجامعة بعد أن فشلت في إطلاق أي مبادرة إنقاذ لشعوب ليبيا، واليمن، وسوريا وغيرها؟ وهل أن إدارتها الراهنة تحظى اليوم بثقة القادة العرب، ناهيك عن انعدام ثقة الجماهير العربية المنتفضة بها بعد أن تأكدت من تواطئها مع الحلف الأميركي- الأوروبي لعودة الاستعمار الغربي إلى الدول العربية بصفة المنقذ لشعوبها من حكامها؟ وهل ان الجامعة اليوم قادرة على جمع حكام العرب في مؤتر قمة واحد، ناهيك عن عجزها في التخطيط ليكون لهم موقع متقدم في النظام الشرق أوسطي الجديد؟.

إن الجامعة ستبقى مركزاً لجمع الدول العربية وفق صيغ مختلفة. لذا لا بد من التأني في الحكم عليها، ومساعدتها على استعادة الثقة بها لتصبح قادرة على اتخاذ قرارات توحد العرب ولا تفككهم، وتعزز وحدتهم الداخلية ولا تفجرها، وتحافظ على استقلالية الدول العربية وسيادتها، ولا تستدرج تدخلاً خارجياً للسيطرة عليها.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى