صفحات سورية

من يوهن نفسية الأمة؟


وسيم ابراهيم

لا يوهن رأي مواطن، من كان، نفسية أمّة. يختلف الأمر، نسبياً، حين يكون صاحب منصب رسمي رفيع. لا يمكن غضّ النظر عن شعب دولة يتأرّق أو تضعف معنوياته من جراء حديث مسؤوليه. رئيسه مثلاً، أو طاقم حكم يحظى بامتياز قيادة الدولة. هؤلاء يتلقون أموالهم من الشعب كي يحسّنوا ظروف عيشه، وبالتالي نفسيته ومعنوياته. تحسينٌ مبنيّ على أرقام وجداول معلنة، متاحة للنقاش والتداول. متاحة للمحاسبة. لا شيء هنا يمسّ نفسية الأمة أو معنوياتها إلا من باب المجاز، فالحصيلة النفسية لمزاج الشعب هي، أولاً وأخيراً، نتيجة جهد موظفي الحكم، من أعلى مراتبه نزولاً. نفسية الأمة نتيجة برنامج الحكم وما أنتج. لكن مواطناً ما، وأيا كان، لا يمكنه وهن نفسية أمة. هذا استخفاف بالأمة. ما هذه الأمة الهشّة التي يمكن لرأي مواطن، أن يوهنها؟

ما قاله المواطن السوري رامي مخلوف لصحيفة «نيويورك تايمز» لا يوهن نفسية الشعب السوري. رغم أنه تحدّث عن قدس أقداس الهمّ الوطني، وهو المواجهة مع العدو الأول للسوريين. تحدّث السيد مخلوف، الذي تحلو له صفة رجل الأعمال، عن أن أمن اسرائيل مرتبط بأمن سوريا، مذيعاً أن استقرار العدو مرتبط باستقرارنا. هذا كلام لا يوهن نفسية السوريين. هذا في الأخير رأي، وكلام مخلوف قاله غيره أيضاً، وهم معارضون اختاروا مهاجمة النظام من باب مهادنته اسرائيل وإدامة وقف النار معها. رأي كهذا يمكن للكثيرين القول به، وهو قابل للأخذ والردّ، ويمكن الاتفاق مع وجوه له أو رفضها، أو الأخذ به أو رميه. يمكن تطويره، لمن يريد أن يأخذه على كامل محمل الجد، ويمكن إعداد دراسات وبحوث حوله، والوصول إلى نتائج. لكن الرأي يبقى رأياً، ولو حمل اتهاماً ما أو مدحاً. لا يحاسب من يمدح، ولا يجوز محاسبة من ينتقد. لا يحاسب لكن يناقش. الرأي يبقى رأياً، طالما من يقوله مواطن ليس من طاقم الحكم.

على من يطلبون حرية الرأي أن يدافعوا عن حق السيد مخلوف في قول رأيه، حتى لو لم يتفقوا معه. وأن يقول ذلك بدون خشية أن «يشحط» للتحقيق، أو يسجن سنوات بتهمة «وهن نفسية الأمة». الاعتقال والسجن على خلفية تهمة كهذه، والتهمة في حد ذاتــها، هو وهن لنفسية الأمة، عندما نقول لها: إن ما يفكّر فيه أبناؤها يمكنه، إذا قالوه، أن يوهـــنها. أي أمة هذه، وأي حصانة ووعي لها، إذا كانت الأفكار توهنها. أمة كهذه الأجـــدر بها ألا تعيش، طالما يراد لها، وتقبل، الامتناع عن التفكير والنقاش.

لكن لكلام السيد مخلوف للصحيفة وجهاً آخر، هو الذي يستحقّ ليس الوقوف، بل التسمّر أمامه. يستحق وقوف الأمة وأبنائها، ومن ثم نفسيتها أمامه. يتحدّث الرجل وهو يضع نفسه في موقع القيادة السياسية السورية. يتحدث باسمها، وعنها، ولا يتردد في شملها تحت رأيه في ضمير الجماعة «نحن». يعرّف عن نفسه كرجل أعمال، لكنه لا يتردد في الحديث باسم رئيس الدولة، ويفهم من كلامه اشارته إلى «عائلة حاكمة». يدافع ويتهم، ويتحدث وكأنه مرابط في موقع الحكم، يداوم فيه ويمارس فاعلية، ويقول أخيراً «نحن». لكون للسيد مخلوف صلة قرابة برئيس الدولة هو أمر لا يعني الشعب في شيء، هو امر شخصي يخصه. لكن عندما تنتقل هذه القرابة من الموقع الشخصي، ويحاول أحد طرفيها دمجها وتفعيلها في ما يشبه «عائلة حكم»، هو أمر يعني الشعب بالتأكيد. إعلانه والحديث به بهذا الشكل، يحتمل أن يوهن نفسية الأمة التي تعرف أن من يمارس الحكم فيها، بحكم دستورها، هو موقع الرئاسة وصلاحياته. وعندما يقول لها، إين عم أو خال أو صهر أو غيره، أنه مشارك في الحكم، لا بل فاعل في تحديد طريقه ومنهجه، فهذا ما يمكنه أن يوهن نفسيتها. يمكنه طالما لم يتصدَّ له المعنيون المباشرون به، أي موقع الرئاسة ومن يمثله. تصريحات مخلوف مسيئة للدولة ودستورها وشعبها، والرد الذي نشره السفير السوري في واشنطن، وأوضح فيه أن مخلوف رجل أعمال و»مواطن سوري عادي»، لا منصب له وآراؤه شخصية، لا يجيب عن كل الأسئلة. فمخلوف، أساساً، لم يقل إنه جزء من حكومة، بل تحدث عن «النخبة الحاكمة»، فحتى لو كان للرئيس (حسبما نقلت عنه «نيويورك تايمز») الكلمة النهائية فإن السياسات تصوغها النخبة عبر «قرار مشترك»! والقول إن آراءه شخصية، يدعو للتساؤل ما هذه «الخلجات» الخاصة بمواطن «عادي»، والتي تدعوه للحديث من موقع القيادة السورية. هذا كله بحاجة إلى ردّ حاسم وتفصيلي، إذا كان هنالك من يريد معالجة جزء فعليّ من «الأزمة» في سوريا. هذا، عدا عن المفاعيل القانونية للتصريحات. والقصد هو الحديث من موقع القيادة السياسية، وبالنيابة عنها. هذا أمر متروك للمحامين والقضاة البتّ به، وما هي الحيثيات القانونية لحديث مواطن وانتحاله موقعاً في القيادة السياسية. الخطورة، في هذه الحال، لا تأتي أيضا من رأي مخلوف، وتحليله الذي يربط استقرار اسرائيل باستقرار سوريا، بل من الموقع الذي يدّعيه في القيادة السياسية ليطلق منه هذا الرأي.

لا يوهن رأي المواطن رامي مخلوف نفسية الشعب السوري، لكن رأي الشعب السوري أيضاً يستحق الوقوف عنده. ليس للأمر علاقة برأي الرجل، بل بسلوكه المثير للجدل. مواطنون كثيرون خرجوا في الاحتجاجات يتهمونه بالصوت العالي. رجال أعمال، شخصيات سياسية واقتصادية يتهمونه باحتكار الاقتصاد الوطني، والتصرف غير الشرعي فيه، ويوردون روايات وشهادات ويتحدثون عن وثائق. كلها أمور تستوجب من العدالة التحرك للتحقيق فيها. أن تكون ثروة الرجل، مشاريعه وادارتها، في متناول الرأي العـــام، هو أمر لا يمكن التغـــاضي عنه. رأيه التحـــليلي السياسي هو حرٌ فيه، اتفقنا أم اختلفنا حوله، لكن كلامه عن المشاركة في الحكم هو ما يجب الوقوف عنده. هذا إذا كـــنا حريصين علــى نفسية أمة لم تقرأ في دستــورها أن سوريا ترأسها «عائلة حاكمة».

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى