تهامة الجنديصفحات الناس

مهرجان “هاي ـ تخيّل العالم” في بيروت

 

في الطائفية والجنس والاستبداد ومستقبل الثورات

تهامة الجندي

صرخة الحرية الأولى التي أطلقتها ساحات “الربيع العربي”، فتحت مرحلة جديدة من السجال بين ضفتيّ الشك واليقين، سجال وضع منظومة القيم والمسلّمات المتوارثة خلال عقود الاستبداد على محكّ الاختبار وإعادة النظر، بعد ان كانت معايير وأحكام قيمة راسخة ومطلقة، انتظمت في ثالوث التحريم: السياسة، الدين والجنس، لفرض مفاهيم الخطأ والصواب، وكبح أي فكر أو حراك مناهض للسائد القمعي. بدأت مرحلة خلخلة وتفكيك الثوابت الذهنية والمستقرّات في قلب السؤال عن ماهية الوجود المرتقّب ما بعد الثورة، وفي حمّى البحث عن إجابات عميقة ومقنعة، توازي حجم ونوعية الهزّات الحاصلة على مستوى الفرد والجماعة، وقد تكون واحدة من أهم ميّزات فعاليات مهرجان “هاي” 2013 الذي أُقيم مؤخرا في بيروت، أنه استطاع أن يعكس بعضا من أوجه هذا السجال حول حرية التعبير والجسد، الزواج المدني، التعايش بين الأديان والطوائف، حقوق المرأة المدنية، وغيرها من الإشكالات، في الأدب وخارجه.

انعقد مهرجان “هاي” تحت شعار “تخيّل العالم”، وامتدت فعالياته على مدار ثلاثة أيام، ما بين الثامن والعاشر من أيار الحالي، وشهدت يومياته برمجة مكثفة ومنوّعة من المحاضرات وجلسات الحوار الفكرية والأدبية، إلى جانب الأمسيات الفنية والسهرات الترفيهية، توزعت على أمكنة عدة: زيكو هاوس، مركز بيروت للفنون، الجامعة الأمريكية، المراكز الثقافية (الفرنسي، سرفانتيس وغوته)، ومقر 392RMEIL393، بينما بلغ عدد الضيوف المشاركين في الفعاليات قرابة ستين شخصية من مختلف أنحاء العالم منهم: البارونة المحامية هيلينا كينيدي، الكاتب والمخرج حنيف القريشي (المملكة المتحدة)، الباحث اللبناني فواز طرابلسي، الروائي الألماني كريستوف بيترز، الكاتب باتريك دوفيل والمؤرخ فيليب مانسل (فرنسا)، الكاتب النروجي كارل أوف كناوسغارد، والإعلامي الأمريكي جوناثان ليفي.

في “مسرح المدينة” افتُتحت الفعاليات الفنية بقراءات مسرحية من كتاب “ألف ليلة وليلة” قدّمتها الفنانة نضال الأشقر والروائية حنان الشيخ، برفقة عزف حي على العود والناي، واختُتمت بعرض ديناميكي للشعر المحكي قدّمه زانادو وبوتشنز، وفي السياق عرضت المخرجة الإسبانية سيلفيا بونزودا فيلمها الوثائقي “كلمة امرأة” الذي تناول تجربة ثلاث مبدعات عربيات، هن: نوال السعداوي وحنان الشيخ وخناثة بنونة، كما عُرض فيلم وثائقي عن مسرحية “أهلا بكم إلى حربنا” لأوين شيرز.

جلسات الحوار التي أدارها إعلاميون معروفون، عرب وأجانب، شغلت الحيز الأكبر من برنامج المهرجان، وتناولت موضوعات ذات صبغة فكرية، تجارب أدبية، أو شهادات حية عن واقع الثورات العربية. وأيا كانت الحيثيات فقد تمحورت حول ردم قوقعة المحظورات، وأولى الملاحظات التي يمكن أن تلفت انتباه صحافية قادمة لتوّها من سوريا مثلي، مقارنة مع السائد الثقافي الذي اعتادت عليه، أولها طغيان الحضور الأنثوي على مستوى التنظيم والمشاركة والجمهور، حضور ناعم، حر، لا يتحرّج من المبادرة وطرح إشكالياته ومناقشتها على الملأ، أجواء أليفة خالية من الرسّميات والادعاءات، نخبة شفافة تعتمد اللغتين العربية والإنكليزية من دون حواجز أو ترجمات، وتتحدث من موقع الثقة بقيمة الأثر الذي يمكن أن يحدثه الفعل الثقافي في المدى المنظور.

“حول الكتابة ودور الكاتب في مجتمع يعرف انقساما طائفيا حادا” قالت الإعلامية نهلة الشهّال: كلنا (اللبنانيون) يكتب في ظل نظام طائفي قوي، ينظم حياة البشر منذ الولادة وحتى الممات، ويصعب على المرء الإفلات من البوتقة الطائفية، النظام الطائفي تقونن في صيغة الميثاق الوطني عام 1943، والميثاق لم يكن توافقا سياسيا، بقدر ما كان فرضية لدور لبنان الإقليمي كوسيط تجاري وسياسي وثقافي بين الشرق الأوسط والغرب، وكانت وظيفة الحرية الممنوحة هي التعايش بين الطوائف المختلفة، ومع تغيّر الظروف الدولية والإقليمية، وظهور وسائط أخرى، فقد لبنان دوره ووظيفته كوسيط، وتحوّل إلى بيئة طائفية عارية، صراع مباشر على الحصص، وهذا العراء قد يدفع إلى مزيد من الاستقطاب الطائفي…

من جانبه رأى الباحث طلال الحسيني، صاحب كتاب “الزواج المدني” أن النظام الطائفي ليس مجرد عقد زواج، والحرية ليست فقط الحرية الشخصية وحرية العلاقة بين الجنسين، النظام الطائفي هو بنية متكاملة، والحرية معناها: “إلى أي مدى يمكن أن نقول: لا نريد أن نكون طائفيين، لأننا متساوون أحرار، أو هذا ما يجب أن يكون؟ ما دمت طائفيا قانونا، فأنت شريك صامت في النظام الطائفي، ولا فرق بينك وبين الشريك الناطق، ما دمت محّجما عن حذف الطائفة من بطاقتك الشخصية، فأنت مشارك في نظام عبودية طوعية”.

في جلسة “شهادات من نساء شاركن في الثورات العربية” نوّهت مديرة الجلسة، الإعلامية رشا الأطرش، إلى تلك المتغيّرات التي ألمّت بصورة المرأة في البلدان التي عايشت الربيع العربي منذ عامين، فرأت أن صورة جديدة تشكلت للنساء العربيات عبر وسائل الإعلام: ناشطات منقّبات تظاهرّن ضد قرار علي صالح لمنع الاختلاط الجنسي في ساحات التظاهر، نساء مشاركات في الاستبداد كسوزان مبارك، التحرش الجنسي والاغتصاب في مصر، الزيجات القسّرية في مخيمات لجوء السوريين، وتساءلت: لماذا تبدو المسألة الجنسية طاغية في ظل الاستبداد؟

في معرض حديثها ذكرت الروائية الكردية السورية مها الحسن، أن الحديث عن حقوق المرأة، يبدو نوعا من الترف في ظل الأوضاع السورية الراهنة، “كأنك تحاول إنقاذ رواية في مبنى يحترق بمن فيه..”، أكدت أنها ضد عسّكرة الثورة، وضد صعود التيارات الإسلامية إلى سدة الحكم، لأنها “قد تأخذ القليل الذي حصلت عليه المرأة، نحن لا نستطيع أن نتحدث عن حقوق المرأة إلا في زمن السلم، وقد تجد المرأة نفسها خاسرة في السلم والحرب على حد السواء”، رأت أن المجتمع العربي في علاقته بالمرأة مجتمع متعدد الاستبدادات: الاستبداد السياسي والاجتماعي والأسري، وحتى استبداد النخبة في الحقل الثقافي، “المرأة حامل موضوع الشرف، العرض، والكل يحق له التدخل في شؤونها لحماية عرضه… حتى المرأة التي ثارت ضد النظام في سوريا، وتعرّضت للسجن والتخفّي، لا تستطيع أن تمتلك حريتها في المناطق المحرّرة”.

في السياق ذاته أشارت الاخصائية النفسية الجزائرية فائقة مجاهد إلى أن النساء الجزائريات متخوفات من “الربيع العربي”، لأن ثوراته يخّطفها الإسلاميون، وتعيد إلى الذاكرة صورة المرأة التي يجب أن تُهان وتُحطم: “بعد أن شاركّن في ثورة المليون شهيد، طُلب من المجاهدات العودة إلى منازلهنّ، والخطاب المزدوج خلق لديهن شرخ داخلي… حين اكتسحت النساء الساحات الثقافية ظهر الإسلاميون يطالبونهن بالحجاب، تم اختطاف النساء واغتصابهن، بقصد تحطيم صورة المرأة المتحرّرة. الاغتصاب هو تحطيم المرأة من الداخل، وحين عمل بوتفليقة على المصالحة الوطنية عفا عن كل جرائم الإسلاميين بحق المرأة”.

أما الاخصائية الاجتماعية شيرين الفقي (من أم كندية وأب مصري) فقد اعتبرت أن الثورات العربية، ستظل ناقصة ما لم تُتوج بثورات جنسية، إذ إن الاتجاهات الجنسية ترتبط ارتباطا وثيقا بالدين والتقاليد والسياسة والاقتصاد، إنها جزء لا يتجزأ من النشاط الجنسي، أي ممارسة الجنس وكل ما يصاحب هذه العملية، بما في ذلك أدوار النوع الاجتماعي، الهوية، الميول الجنسية، المتعة، الحميمية، الشبق والإنجاب، وبهذا فإن النشاط الجنسي يعد بمثابة المرآة التي عكست الظروف التي أدت إلى اندلاع هذه الثورات، وسوف يكون أداة قياس لمدى تحقيق الاصلاحات التي اكتسبتها الشعوب بكثير من الجهد: “إن الصحوة العربية التي بدأت هذا العقد، قد أمسكت بمعول لتهدم الخط الأحمر المتعلق بالسياسة، ومن الطبيعي أن نتساءل، عما إذا كانت محرّمات الدين والجنس، سوف تتحطم هي الأخرى؟. “الجنس هو تلك العدسة التي أقوم من خلالها باستقصاء الماضي والحاضر، في جزء من العالم كُتب عنه الكثير، ولم نفهم عنه سوى القليل”.

في حوار “حرية التعبير والرقابة” الذي أجراه اسكندر حبش، رأت أستاذة العلوم الاقتصادية رباب المهدي (مصر)، أن حرية الفكر جزء من مجموعة حريات، وأنها لا تستقيم في غياب الحريات الأخرى، والرقابة في الأنظمة القمعية أو المجتمعات المتخلفة، هي جملة من الضغوطات الرسمية وغير الرسمية: “يجب ألا تكتب نصا محافظا في وسط ثقافي تقدمي”.

بالمقابل رأى الإعلامي وائل عبد الفتاح أن الرقابة عمل لا أخلاقي، لأنه يتدخل في شخصك، وفي حرية فكرك، وأن الرقابة غير موجودة إلا كشبح موضوع على الفكر، “في مصر لا توجد رقابة، لكن هناك سلطة الأخلاق، التي هي ضد الأخلاق”، “الحرية موجودة، لكن الحر منبوذ”، “الحرية هي السر، كل الأمور التي تُمارس في السر”، كذلك اعتبر الفتاح أن الثورة ليست مجرد تغيير الرؤساء، وأن الحرية ليست مجرد معنى للتداول، أو وسيلة للوصول إلى السلطة، بل هي معركة للدفاع عن الحياة، تحتاج بنية تحتية تدعم تغلغلها في المجتمع، وقال: “تسمية الربيع العربي، تسمية مختزلة وناقصة وخجولة، المجتمع المصري يستيقظ الآن، والإخوان المسلمون قبيلة جاءت إلى الحكم لاستعادة استبداد الجنرالات بمظلة الفقهاء”.

الشاعر والإعلامي عباس بيضون فسّر مقولة “لبنان الحر” بتعدد الطوائف الذي لا يسمح بوجود الاستبداد، واعتبر أن تاريخ لبنان، هو تاريخ الخوف من غلبة طائفة على أخرى، ففي كل مرة كان يحدث فيها مشروع إقامة دولة، كان يكون هناك استبداد، لذلك لم تقم الدولة اللبنانية، مشيرا إلى وجود 17 طائفة في لبنان، لكل منها زعامتها، هويتها، وعقيدتها، كل طائفة تملك حصانتها ومحرّماتها، وكلها تتعاون أن لا ينال أحد من زعامتها، كلها تتعاون من أجل زيادة المحرّمات، وجزء من آداب الكتابة المتفق عليها أن لا تُمس المحرّمات، على أن البداية كانت تختلف مع جبران خليل جبران وأمين الريحاني، اللذين انطلقا من نقد الكنيسة ورجال الدين، وأضاف “النظام الطائفي مسدود، والنخب اللبنانية سوف تفيق وتتغير، فهي اليوم تعيش حرياتها الشخصية، من دون الاهتمام بالحرية العامة”، ما يجري في العالم العربي، سيما مصر، هو مخاض هادئ، يطرح في آن واحد، مسألة الحرية السياسية، ومسألة سلطة الدين، “الصراع ضد الإخوان المسلمين، سيؤدي إلى رفض الإسلام السياسي، وعودته إلى دين خالص، نحن في لحظة تاريخية”

في جلسة “كتابات جديدة من فلسطين” طرحت الإعلامية ربى بيضون مجموعة من الأسئلة حول اللغة والجندر، خيارات الكتابة وحرية التعبير، واعتبر الشاعر محمد الشيخ يوسف، أن أحد أهم إنجازات الحداثة الشعرية أنها جعلت التجربة الإنسانية في لب القصيدة، وإذا كان ثمة أزمة في الشعر، فهي ناتجة عن تقوقع الشعراء في ذواتهم، عن تقديمهم للقارئ عموم التجربة، الرواية أنسب للعصر، أكثر ديموقراطية، لأنها تنضوي على عدة أصوات وتجارب: “عظمة الفن بالتخفي”، “حاولت أن أصنع القصيدة الديمقراطية، أن أجعل أصوات كثيرة تتحدث في قصيدة “شهود غزة” اليهودي والفلسطيني، الطفل والشيخ، الأرض والسماء…”.

وذكرت القاصة إسراء كلش (صاحبة “خطأ مطبعي”) أنها تحب أن يشم القارئ رائحة الزعتر، حين يقرأ قصصها، وأنها ليست ضد تابوات الكتابة، فغالبا ما يُوضع مشهد جنسي في النص الأدبي فقط من أجل الإثارة: “توظيف الجنس بطريقة مبتذلة”.

على النقيض من ذلك، أدانت القاصة سماح الشيخ كل أشكال الضغط التي تُمارس على الكاتبات، واعتبرت أن التابو الديني أخطرها على الإطلاق، استهجنت الكتابة عن تجارب الجسد برموز واستهامات غير واضحة، تنحو أحيانا باتجاه السوريالية، اعتبرت أن مشكلة المرأة وجودية، تنعكس على نصها بالدرجة الأولى، “المرأة عندها حالة مضاعفة من القلق والبحث عن الهوية وتحقيق الذات”، “اللغة ذكورية، أحاول تأنيث بعض المصطلحات، التحايل على بعض الأساليب” أيضاً، رأت أن نص المرأة يميل إلى السرد، وله علاقة بالمشهدية السينمائية، “اللقطة تظهر تجليات المرأة”، كما أكدت على أوجه الاختلاف بين ما يكتبه الرجال والنساء، اختلاف تفرضه مؤثرات الطبيعة الفيزيولوجية على الذات الكاتبة “الرجل لا يمكن أن يكتب وهو في حالة الحيض أو الحمل”!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى