صفحات سورية

مهماتنا في الثورة الراهنة


ائتلاف اليسار السوري

مقدمة:

على ضوء الانتفاضة الشعبية التي بدأت منذ 15 آذار في سورية، تبلور ائتلاف بين مجموعات وأفراد من اليسار المشارك في الانتفاضة، بهدف تنسيق النشاط فيما بينهم، ومن أجل تطوير الحراك، وتفعيل دور العمّال والفلاحين وذوي الدخل المحدود المشاركين في هذه الانتفاضة، وأصدر الوثيقة التالية:

انتفضت قطاعات واسعة من الطبقات الشعبية من أجل التغيير، بعد قهر استمر خمسة عقود، فلم يسمح لها بالتنظم كقوة مستقلة عن السلطة، انتفضت بعد أن بلغ النهب الذي يمارسه “رجال الأعمال الجدد” والقدامى حداً أفقر كتلة كبيرة من هذه الطبقات.

لقد تحكمت فئة ضئيلة بمفاصل الاقتصاد وحوّلته من اقتصاد منتج (في الزراعة والصناعة بحدود معينة) إلى اقتصاد ريعي يقوم على الخدمات والاستيراد والعقار والسياحة والبنوك. هذه العملية التي حققتها سياسة اللبرلة التي نفّذت خصوصاً في السنوات العشر الماضية، في ظل الحديث عن سياسات “التحديث والتطوير”، والتي أفضت إلى زيادة كبيرة في نسبة العاطلين عن العمل، ونشوء اختلال كبير في الوضع المعيشي للطبقات الشعبية، التي لم ترتفع أجور العاملين منها سوى بنسب ضئيلة مقابل الارتفاع الهائل في أسعار السلع والخدمات والتعليم والصحة بعد اكتمال الانفتاح الاقتصادي وتحرير السوق، رغم أنه بات محتكراً لفئة ضئيلة من “رجال الأعمال الجدد”.

ولقد كان الطابع الاستبدادي للسلطة، الذي تشكّل منذ خمسة عقود تقريباً، وتحكم الأجهزة الأمنية، مع غياب المؤسسات والقانون، هو الغطاء الذي سمح بنهب منظم ومريع لمجهودات الطبقات الشعبية حين كانت الدولة هي “رب العمل”، ومن ثم سمح لتحقيق التحول الليبرالي دون مقدرة على المقاومة بعد انهيار الحركة المعارضة بفعل قسوة الاستبداد، وأزماتها هي بالذات.

لهذا كان من الطبيعي أن تثور هذه الطبقات، وأن تبدأ انتفاضة عارمة بهدف تحقيق التغيير، وانتزاع الحريات السياسية، على أمل أن تحقق وضعاً أفضل يسمح لها بعيش كريم وحياة مستقرة.

الثورة إذن، هي ثورة الطبقات الشعبية، وإنْ لم تتخذ طابعاً طبقياً واضحاً بعد. لكننا نلمس اندفاع العاطلين عن العمل، وتحرّك الريف الذي أدت سياسات إخضاع الاقتصاد المحلي لتقلبات الأسعار العالمية، بعد تحقيق الانفتاح الكامل، إلى انهياره بعد رفع أسعار المشتقات النفطية والتقاوي والأسمدة. وسنلمس تحرّك العمال الذين يعيشون أبأس حياة نتيجة الأجور المنخفضة، في “القطاع العام” وأسوأ في القطاع الخاص، وكذلك موظفي الدولة الذين لا تسمح أجورهم بأدنى ممكنات العيش.

ولأن الأفق بات مسدوداً بفعل قسوة السلطة، وبات العيش أصعب مما يمكن احتماله، كان لا بد من التحرر من كل عقد الخوف والتخوف، ومن ميول التكيف والالتفاف على الأزمة العميقة التي باتت تعيشها، أزمة الفقر والجوع، والبطالة والتهميش والقمع والتدخل الأمني لمنع كل تعبير بسيط عن الأزمة. ولهذا خرجت تطالب بالخبز والحرية معاً.

لا بد إذن، من أن نحدد دورنا في الثورة الراهنة، كماركسيين ثوريين، يلتصقون بالطبقات الشعبية ويدافعون عنها، ويسعون لأن تصبح هي القوة الحاكمة، من أجل تأسيس دولة مدنية حديثة تقررها الإرادة الشعبية، إرادتهم هم، بما يقود إلى حل الأزمات العميقة التي نشأت، في الاقتصاد والتعليم والصحة، وفي بنية الدولة التي تكرست كسلطة مستبدة.

سوريا التي نريد:

تشكلت الدولة بعد الاستقلال كتعبير عن حاجة الإقطاع المتحوّل إلى التجارة. كما تشكلت بعد الانقلابات كسلطة دكتاتورية أبوية تتحلى بأساطير القرون الوسطى عن الحاكم. ورغم كل الأشكال “القانونية” و”المؤسسية” و”الدستورية” التي تمظهرت من خلالها. فقد ظلت سلطة حاكم فرد. لهذا لا بد من تأسيس دولة مدنية حديثة، ديمقراطية وعلمانية، وبرلمانية. تقوم على أساس المواطنة، وبأن الشعب وحده هو مصدر السلطات، وتقرر الحريات العامة كلها، حرية التنظم وحق الأحزاب في النشاط من خلال الإخطار فقط، حرية الرأي والتعبير والمعتقد، وحرية الصحافة بمختلف أشكالها (الورقية والمرئية والمسموعة) وفق ضوابط تقرر في الدستور. وحرية الإضراب والتظاهر وكل أشكال الاحتجاج من خلال الإخطار فقط. وحريات النقابات والاتحادات وكل أشكال التجمعات التي تعبّر عن طبقة أو فئة اجتماعية أو جنسية أو عمرية. على أن ينتظم كل ذلك في دستور يقرر فصل السلطات وتداول السلطة، يقر من قبل الشعب ذاته.

ولما كان الأساس في كل الحراك الثوري الحالي هو الوضع المزري الذي وُضعت فيه الطبقات الشعبية، ولحل مجمل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، لا بد من تغيير النمط الاقتصادي الذي تشكل خلال العقود الماضية، والذي هو أساس التبعية للإمبريالية، بحيث نعيد التأكيد على أن وجودنا وتطورنا يعتمدان على أن لا يجري الاعتماد على الاستيراد في كل ما نحتاج، بل أن نؤسس اقتصاداً منتجاً، يوفر احتياجاتنا ويوجد فائض قيمة يسمح بزيادة مضطردة في الأجور وفي تحسين الخدمات.

لهذا لا بد من حل المسألة الزراعية، بالعودة إلى الاهتمام بالأرض، ودعم الدولة لتطوير الزراعة ومساعدة الفلاحين بعد الأزمة التي أحلت بهم، ودعم كل مستلزمات الزراعة، وتسويق المنتوج. وبالأساس الحفاظ على الملكيات وتعزيز التعاون بين الفلاحين. حيث يجب أن نأكل ما ننتج. لهذا لا بد من ضمان أسعار المشتقات النفطية والتقاوي والأسمدة، ودعم كل ما يؤدي إلى مكننة الزراعة.

كما لا بد من العمل على تجديد الصناعات القائمة والتوسع في البناء الصناعي، حيث لا يمكن لمجتمع أن يعيش في هذا العصر دون أن تكون الصناعة هي قوة الإنتاج الأساسية فيه. وإن استيعاب العمالة الوافدة كل عام لن تكون ممكنة دون هذا التوسع الصناعي. وكذلك إن بناء دولة مدنية حديثة لن يتحقق على اقتصاد ريعي طفيلي، ومافياوي، ويخضع لتقلبات الأسواق العالمية، ولشره الطغم المالية الإمبريالية.

والحاجة لكل ذلك تفرض تطوير البنية التحتية لكي تستوعب هذا التطور الاقتصادي، وتؤسس لرفاه الناس. كما تفرض إعادة بناء التعليم لكي يؤسس لأجيال تعرف ما ستشتغل به، وتتقن العمل، وليس حملة شهادات لا قيمة لها سوى الإتيان بموظفين لا معرفة لديهم. فالبناء الصناعي لن يكون ممكناً دون المعرفة والعلم، والدولة المدنية ليست ممكنة في مجتمع يسوده وعي القرون الوسطى.

ولهذا لا بد من أن تلعب الدولة دوراً أساسياً في تحقيق كل ذلك، من خلال ضبط العلاقة بين السوق المحلي والسوق الرأسمالي الإمبريالي لكي لا يهرب الفائض إلى المراكز التي تجهد من أجل نهب كل الرأسمال المتراكم في الأطراف. إن ضعف ميل الرأسمال إلى النشاط المنتج (بغض النظر عن كل القوانين التي يمكن أن تصاغ) يفرض أن تقوم الدولة بكل ذلك، لكن دون منع الرأسمال الخاص من النشاط، وإنما مع كبح ميوله للتوظيف في ما هو غير منتج، ودفعه للنشاط في القطاعات المنتجة بالتحديد. فدون ذلك سوف يتكرر إنتاج النمط الريعي وسيطرة المافيا، ويزداد التفاوت في الدخول، فتدخل الديمقراطية الوليدة في أزمة قد تؤدي لعودة الطابع المستبد للسلطة، لأنه الطابع الضروري للحفاظ على التفاوت الاقتصادي، والتهميش للقطاعات الأوسع في المجتمع.

لهذا يناضل ائتلاف اليسار السوري من اجل:

من أجل اقتصاد منتج يستوعب البطالة والعمالة التي تدخل السوق سنوياً.

من أجل اقتصاد يحقق عيشاً كريماً للعاملين، من خلال أجور متوازنة مع الأسعار، وتحقق وضعاً مريحاً.

من أجل حق العمل، وأجر للعاطلين يمثّل الحد الأدنى للأجور.

من أجل تعليم مجاني وعلمي.

من أجل ضمان صحي حقيقي.

من أجل ضمان اجتماعي شامل.

من أجل سكن لائق.

التوزيع العادل للتنمية الاقتصادية في مختلف أقاليم الدولة ومناطقها.

هذا ما تريده الطبقات الشعبية، وتثور من أجله. وهذا ما يجب أن يكون في أساس مبادئ النظام الجديد. ولكي يكون ديمقراطياً،يناضل ائتلاف اليسار السوري من اجل:

من أجل دستور يقرر كل الحريات وينطلق من فصل السلطات وفصل الدين عن الدولة.

من أجل حرية تأسيس النقابات والاتحادات التي تدافع عن منتسبيها، من العمال ومن المهنيين، ومن كل الفئات الاجتماعية التي لديها مطالب محددة.

من أجل رقابة شعبية على نشاط الدولة السياسي والاقتصادي.

من أجل قانون مدني للأحوال الشخصية.

من أجل دور متساوٍ للرجل والمرأة.

ونحن إذ نركز على الثورة الراهنة لا بد من أن نؤكد على أن صراعنا من أجل التغيير الآن يتأسس على رؤيتنا العامة للصراع ضد الإمبريالية:

نحن مع المقاومة، ومع تطوير الصراع إلى حرب حقيقية من أجل تحرير الأرض.

ومع الاستقلال الكامل عن الإمبريالية وعن النمط الرأسمالي، حيث لا استقلال في ظل التبعية الاقتصادية التي تفرضها حتماً السياسات الليبرالية.

ونحن مع الصراع ضد الدولة الصهيونية من أجل فلسطين محررة.

ومع الترابط مع كل الثورات العربية من أجل استنهاض مشروع ثوري تحرري جديد في الوطن العربي، ينطلق من الاستقلال ويهدف إلى الوحدة وتحقيق التطور والحداثة، في أفق تحقيق الاشتراكية.

فلا إمكانية لتطور داخلي، ولا إمكانية لبناء صناعة حقيقية أو تطوير الزراعة، في ظل التحاق بالرأسمالية. ولا إمكانية لتجاوز الاقتصاد الريعي المافياوي إلا بالقطع مع الرأسمالية والسعي لتجاوزها.

المسألة هنا هي مسألة مصير وليست مسألة خيار فقط، حيث لا يمكن تحقيق التطور دون صراع حقيقي مع الإمبريالية، ولا يتوهم أحد بأن بإمكانه ذلك لأنه سوف يعيد إنتاج النمط الريعي المستبد القائم.

مهماتنا في الثورة:

على ضوء ذلك، يجب التعبير عن العمال والفلاحين الفقراء وكل المفقرين، وهو الأمر الذي يعني تطوير الانتفاضة للوصول إلى تحقيق الشعار الذي طرحته، أي شعار الشعب يريد إسقاط النظام. فلا إمكانية لاستمرارية نظام خرج الشعب من أجل تغييره، ولا إمكانية لقوى جذرية أن تطرح ما هو دون سقف المطالب الشعبية. هذا الأمر يفرض التفكير في كل السبل التي تسمح بتطوير الانتفاضة، بتنظيم آليات نشاطها، وبتحديد الشعارات التي تعبّر عن مطالب الطبقات الشعبية حقيقة، وكذلك بالأهداف التي تطرحها.

لم تخرج الطبقات الشعبية من أجل إصلاح أو تحسين وضع فقط بل خرجت من أجل مطالب أجبرتها على أن تكسر حالة الخوف من السلطة، ودفعتها إلى ميدان الصراع من أجل تحقيقها. ولم تعرّض ذاتها للموت إلا لأنها توصلت إلى أن ما من حل سوى في إسقاط السلطة، وتحقيق التغيير الذي يؤدي إلى أن تحقق مطالبها. وعلينا أن نعمل معها على ذلك، علينا أن نبلور مطالبها، وأن نسهم في تفعيل حراكها، وأن ندفعها إلى الأمام لكي تصل إلى الانتصار.

وفي كل الأحوال لن تتوقف الثورة قبل أن تحقق الحل الذي يتضمن مطالب هذه الطبقات، حتى وإنْ كان التغيير سيتحقق على مراحل وصولاً إلى أن تفرض مطالبها. لكن لا بد الآن من العمل على تفعيل الحراك الثوري ومأسسته وتحديد المطالب الأساسية التي يمكن أن تُفرض. فالسلطة ستعجز عن وقف الانتفاضة، لكن ضعف القوى الثورية سوف يفتح المجال لمحاولة تهدف إلى تحقيق تغيير شكلي في بنية السلطة دون لمس سيطرة الرأسمالية المافياوية، أو بتقليم أظافرها لمصلحة رأسمالية أخرى. وهي المحاولة التي تقوم على رفض مطالب الطبقات الشعبية بتغيير النمط الاقتصادي، وإن كان يمكن أن تحقق مطلباً ديمقراطياً إلى هذا الحد أو ذاك.

ولهذا لا بد من أن تحدد قوى الانتفاضة البرنامج الذي يطرح مطالبها كلها لكي يكون الحد الواضح لكل من يريد اللعب على أكتافها. ولقد أشرنا للتو إلى المطالب الأساسية التي هي الحد الأدنى الآن، والتي دون حلها لن يكون ممكناً وقف الانتفاضة، حتى وإنْ توقفت مؤقتاً بعد تغيير النظام. فهي المطالب التي تحقق استقراراً فعلياً من خلال إعادة صياغة العلاقة بين الطبقات لمصلحة

الطبقات الشعبية، وترسي بنية اقتصادية منتجة ودولة مدنية حقيقة.

وإذا كانت هناك قوى متعددة طبقياً تسهم في الثورة، بعضها عمالي وبعضها فلاحي وبعضها يمثل الفئات الوسطى، بعضها يساري وبعضها ليبرالي، فإن الأساس الآن هو تحقيق المطلب العام الذي يوحدها جميعاً، لكن ذلك لا يعني التركيز على شكل السلطة كما يرغب الليبراليون فقط، بل يعني أيضاً فهم أن الطبقات الشعبية التي هي الفاعل الأساس في الثورة لديها مطالب لا بد من أن تتحقق. وما طرحناه يعبّر عن ذلك حصراً، لأننا لا نرى بأن موعد الثورة الاشتراكية قد حان، بل نرى بأن تحقيق المطالب الشعبية الآن هو الذي سيفتح الأفق للوصول إلى الاشتراكية بقوة ونشاط العمال والفلاحين الفقراء وكل المفقرين الذين هم قوة الثورة الراهنة.

مهمتنا الآن تتمثل في الفعل في الثورة من أجل دفعها إلى الأمام. وهذا هو هدف الائتلاف اليساري، الذي يجب أن يضم كل الماركسيين المنخرطين في الثورة، من أجل الثورة، ومن أجل المستقبل الذي لن يكون مزدهراً دون فعل هؤلاء.

المطلوب هو نظام ديمقراطي يعبّر عن مصالح الطبقات الشعبية بالتحديد.

فالصراع طبقي بامتياز ولن يتوقف عند تغيير شكل سلطوي بآخر مهما كانت “ديمقراطيته”، لأنها دون تغيير النمط الاقتصادي لن تكون حقيقية بل ستخدم مافيا جديدة، وبالتالي لن تؤسس لدولة ديمقراطية بالفعل.

والمطلوب هو دورنا من أجل تفعيل الصراع وتطوير الثورة لكي تشمل كل الطبقات الشعبية، ولكي يصبح شعار إسقاط النظام ذو معنى واضح، هو المعنى الذي تحفره قوة الجرأة والبسالة لدى شباب الطبقات الشعبية، والذي رسمه دم الشهداء الذين سقطوا من أجل الخبز والحرية. من أجل دولة مدنية توفّر حياة فعلية للطبقات الشعبية.

هذه هي مهماتنا في الثورة الآن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى