روزا ياسين حسنصفحات سورية

مهمّشو الأقليات: وقود النظام السوري وأدواته

روزا ياسين حسن
في إحدى مدارس البنات في “داريا”، وهي مدينة في ريف دمشق، كانت (أم النور) تعمل مستخدمة منذ سنوات، تنظّف الصفوف والمراحيض العامة، تكنس الباحة، وتعدّ الشاي والقهوة للمعلمات في أوقات الاستراحة. وجهها الأربعيني يبدو أقرب إلى وجه عجوز منهكة، وفقر الحال، الذي يبان واضحاً على مظهرها، نحولها الشديد بالإضافة إلى بساطتها القروية، جعل علاقة طيبة تربط معظم معلمات المدرسة بها على الرغم من اختلاف انتماءاتهن الطائفية والطبقية. (أم النور) من منطقة تقع بين حي عكرمة وحي النزهة في حمص، جاءت إلى دمشق مع زوجها حين كان مساعداً في الجيش في أوائل التسعينيات، ومن يومها وهم يسكنون حياً ارتجالياً فقيراً، له تاريخ طويل، اسمه: “السومرية”.
في بداية الثورة السورية صارت (أم النور) ترتدي حجاباً حين تأتي إلى المدرسة. تدمدم بذعر إن سألتها إحداهن: “لمَ ترتدي الحجاب؟” بأنهم قالوا لها إنهم يقتلون كل النساء غير المحجبات!. وإن حاججتها بخطأ قولها كانت تقول:
– “حسناً أرتديه كي يقف لي السيرفيس لأنه لا يقف إلا للمحجبات”.
– “ولكن السيرفيس يقف لي وأنا غير محجبة”.
تقول معلمة سافرة.
إلا أن (أم النور) تدمدم بشيء ما وتمشي، وعند انتهاء الدوام تضع حجابها البني الجديد وتتجه إلى “السومرية”.
بعد شهر من بدء الثورة قالت (أم النور) في صباح غرفة المعلمات بأن ثمة سيارة أمن كانت تجوب “السومرية” البارحة ليلاً، يصرخ منها شاب بأن أهل “المعضمية” قادمون ليقتلوا أهل “السومرية”.. وتنهي (أم النور) قصتها دون أن تتطرق لما حدث بعد ذلك.. – لكن أهل “المعضمية” لم يهجموا على “السومرية”.
قالت معلمة لديها أقارب في “المعضمية”، ولكن (أم النور) أكملت حديثها عن مسلحين سلفيين كانوا على سطح بناية وقامت “السومرية” ولم تقعد لإلقاء القبض عليهم.-
هل رأيتهم أنت؟!
– لا، قالوا لي عنهم.. ثم في تلفزيون الدنيا قالوا البارحة عن الجماعات المسلحة…!
بعد فترة قليلة كفّت (أم النور) عن إعداد الشاي والقهوة للمعلمات، وصار دخولها إلى غرفتهن نادراً. كانت تقول لمن يسألها السبب إن طريقة تعامل المعلمات المسلمات معها تغيرت. ومع الزمن صار الاحتقان الطائفي يبدو واضحاً على تصرفاتها، وراحت تلك المرأة اللطيفة والبسيطة تتحول إلى امرأة حذرة ومترقبة. تتسلل إلى غرفة المعلمات على أطراف أصابعها كي تكشف أحاديثهم، وتقف مختبئة تحت شباك الغرفة كي تتنصت على الكلام..
تحوّلت (أم النور) إلى مُخبر متطوّع تسببت بالتحقيق مع أكثر من طالبة ومدرّسة.
مع الوقت راح المزاج العام في “داريا” يشتعل، ولا يكاد يمر يوم دون مظاهرة كبيرة أو حتى مظاهرة طيّارة تستمر لدقائق، هذا ما جعل صورة الرئيس تختفي ذات صباح من غرفة المعلمات دون أن يعرف أحد من رفعها. لكن (أم النور) جاءت بصورة أخرى وألصقتها في المكان ذاته. كما تحوّلت غرفة المستخدمين بجهودها إلى معرض لصور الرئيس بكافة الوضعيات ومن مختلف الأحجام والألوان.بعد أشهر من الثورة راحت المدرسة تشهد كل يوم مظاهرة للبنات، والحيطان تمتلئ بشعارات مناهضة للنظام، وتكاد (أم النور) لا تُرى إلا وهي تحمل سطل الدهان وتمسح الكتابات مع بقية العمال، شاتمة أولئك الخونة الذين يجلسون في بلد السيد الرئيس ويسبّون عليه.. “كلاب”.. أما المناشير المكتوبة بخط اليد، والتي راحت الباحة تمتلئ بها، فقد كان عليها أن تبذل جهداً إضافياً للمها وهي مبعثرة هنا وهناك، وتكاد سعلتها العميقة تصمّ جدران المدرسة.
في منتصف كانون الثاني 2012 كانت داريا قد فقدت عشرات الشهداء وكذا مئات الجرحى والمعتقلين. مدارسها تغلي بالغضب كما شوارعها وبيوتها، ومنها مدرسة البنات تلك التي خرجت في آخر مظاهرة عارمة. “حرية للأبد غصباً عنك يا أسد..”، تصدح أصواتهن في الأرجاء. ثم نجحن، للمرة الأولى، في تمزيق الصورة الكبيرة للرئيس تلك القابعة في الفناء الرئيسي، مزّقنها إلى عشرات القطع، دسن عليها ثم أكملن.
في الصباح التالي قدمت المعلمات لتجدن (أم النور) تبكي منتحبة وهي تحاول تجميع نتف الصورة، لا تكاد تلصق قطعتين حتى تتمزق ثالثة. كانت تشتم أولئك الخونة الذين مزقوا صورة القائد الغالي ابن الغالي. تجرأت إحدى المعلمات وسألتها بانفعال:- لماذا تحبينه إلى هذا الحد؟!.. ما الذي فعله لك ولأهلك؟ تعيشين عيشة الكلاب..
تحوّل وجه (أم النور) إلى وجه حانق وهي ترد:
– هذا قائدنا وولي نعمتنا، حامينا وساترنا.. الله يديمه فوق راسنا. ثم عادت إلى انتحابها ومحاولاتها في إلصاق مزق الصورة.
حين تم إغلاق مدرسة البنات في “داريا” بعد أيام من تلك المظاهرة الضخمة فقدت (أم النور) ككل المستخدمين وظيفتها، لأنها في الأساس وظيفة مياومة وليست ثابتة. كانت تهمهم من بين دموعها بأن العائلة ستجوع دون راتبها، الذي لا يكاد يبلغ بضعة آلاف، ارتفاع الأسعار ونقص وسائل التدفئة سيجعل الحياة عليها وعلى أسرتها الفقيرة حدّ الجوع أكثر صعوبة وضنكاً.. ثم تعود لتشتم أولئك الذين خرّبوا البلد حين طالبوا بتلك البلية التي اسمها: الحرية. تعود لتدمدم ثم تبكي.
(أم النور) واحدة من ملايين السوريين الفقراء والمهمشين، أولئك المرميين تحت خط الفقر والكرامة، ولكنهم مع ذلك صدّقوا خطاب النظام الذي يكاد لا يوجّه إلا إليهم، ولا يعبث إلا بعقولهم. ولأسباب طائفية بحتة صدّق أمثالها أن وجودهم مرتبط بوجود النظام، وصدّقوا بأن الطوائف الأخرى ستنتقم منهم في حال رحيله، وبأن الإسلام السلفي سيهيمن على بلادهم وحيواتهم، محمّلين بعبء تاريخ طويل من الاضطهاد، فتحولوا إلى أدوات ووقود مجاني للنظام، وراحت الديمقراطية المنشودة تعني بالنسبة إليهم: النهاية، والتغيير (المجهول) يرعبهم، فتمسكوا بفقرهم واضطهادهم.(أم النور) وأمثالها هم البنية الأساسية التي ينبغي إقناعها بحقها في الحياة الكريمة التي حرمت منها، وأن من يحميها هي مواطنتها وسوريتها وليس شخصاً أو مجموعة تستغل خوفها وتستخدمه لصالحها طيلة عقود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى