صفحات الثقافة

مهنة الترويض/ عقل العويط

 

 

ماذا تفعل الأنظمة الاستبدادية، والمؤسسات الدينية، والاتجاهات والتنظيمات القيامية والتكفيرية، والأحزاب الشخصانية، والإيديولوجيات الكليانية، لتثبيت أحاديتها، وسلطانها، وترسيخ وجودها في الأرض؟ كيف تستولي على مصائر الدول، وتتحكم برقاب الشعوب، وتمحو النشاط النقدي في دماغ الرأي العام، فيصير قطيعاً من النعاج؟ كيف تروّض شعباً؟ أو شخصاً؟ أو متمرداً؟ أو صاحب رأي؟ أو صحافياً؟ أو مثقفاً؟ وكيف تصير هي “كلّ شيء”، و”كلّ وجود”، نائبةً عن الألوهة، ناطقةً باسم الأبد، وممثِّلةً له؟ هذه الافتتاحية مخصصة لملامسة مسألة الترويض، التي تقتل الحسّ النقدي لدى الجماعات والأفراد، وتستأصل روح الممانعة الأخلاقية.

إذا كان “مفهوماً” الرضوخُ القسري للديكتاتور في أنظمة استبدادية، كحال النظام السوري قبل اندلاع ثورة الأحرار، وقبل إجهاضها وقد كان ثمة، قبل ذلك، انتفاضات ثقافية – فكرية – سياسية خلاّقة شهدت لروح الثورة لدى السوريين خلال مراحل مختلفة، فإني لا أستطيع أن أتفهم حصول هذا الرضوخ في مجتمع يتمتع أفراده بالحدّ الأدنى من حرية الرأي والتفكير والتعبير. فما الذي يحمل شخصاً “عاقلاً” (موظف، أو أستاذ جامعي، أو طبيب، أو قاضٍ، أو عاطل عن العمل) على أن يكون في خدمة فكرة، أو عقيدة، أو رئيس، أو قائد، أو زعيم، إلى درجة العبودية (أكرّر العبودية)، والاستعداد للتضحية بكل شيء من أجله. في حين يغيب عن بال هذا الشخص “العاقل”، أن “معبوده” (أكان فكرة أم شخصاً)، لا بدّ أن يكون في أحسن الأحوال، كائناً نسبياً، محدوداً في الزمان والمكان، وفي العقل، وأنه عرضة للخطأ والصواب. فكيف يسع هذا الشخص “العاقل” أن يتعامى عن معطيات مثل هذا الواقع الموضوعي، فيسلّم إرادته، ووعيه، وشخصه، بصورة تبعية مطلقة، ليصير متماهياً مع شخص “معبوده”، رائياً بعيني هذا “المعبود”، مفكراً بعقله ومصالحه، ماعساً ملكاته الشخصية، وكاتماً طاقاته النقدية، غير آبه لذاته، باعتباره شخصاً عاقلاً، حرّاً، وسيداً؟!

أتحدث حصراً عن اللبناني، الذي عانى الأمرّين من تسليم ذاته إلى أسياده، في أيام الحروب، كما في أيام السلم الشبيهة بالحروب، ولا يزال على رغم كل العبر المريرة، ممعناً في التخلّي عن كرامته الوجودية، العقلية تحديداً، بقطيعية لا مثيل لها، لكن ممهورة بالادعاء والعنطزة والأبهة والاعتزاز. كم هو مثير للشفقة، هذا الماحي ذاته بيديه! كم يمحو بفعلته هذه، كلّ أملٍ له ولعائلته ولمجتمعه بالنجاة!

مثل هذا المحو، ينطبق على كلّ مَن يسلّم ذاته لطائفته، أو لمذهبه، أو لحزبه، أو لتيّاره، أو لقائده، تسليماً يخلو من كلّ مساءلة. وإذا كان ثمة مساءلة، فهي لا تعدو كونها فقاعة لفظية وشكلية بقصد التمويه ليس إلاّ.

لا أقصد الوفاء للأفكار، ولا الإخلاص للقادة، إنما أعني غياب المساءلة والنقد والتمايز والاختلاف لدى طاقم الجماعة الوفية والمخلصة.

فأيّ عبقريةٍ ترويضية تملكها الأديان والطوائف والمذاهب، والأفكار الفلسفية والسياسية، ويملكها الزعماء والقادة السياسيون والدينيون، بحيث يتمكن هؤلاء جميعهم، من الاستيلاء على عقول مريديهم وأتباعهم استيلاءً أين منه استيلاء المعشوق على قلب عاشقه وعقله وإرادته؟!

أنظر إلى اللبنانيين، في أمسهم البعيد، والقريب، وفي يومهم الماثل رعبه أمام الحواس، فلا أرى لهم إلهاً، إلاّ إله الاستيلاء والترويض، وقد تمكّن من إحكام قبضته الجهنمية على رقابهم وعقولهم وأفئدتهم. فإذا من انتصار ملموس، فهو هذا الانتصار بالذات؛ الانتصار على العقل؛ ليس فيه أيّ لبس أو شكوك أو منازعة.

أنظر إلى اللبنانيين، بدون تعميم طبعاً، فلا أرى إلاّ الترويض من جهة، والانتصار من جهة ثانية: ترويض الناس والجماعات، كلٌّ في قفصه وحديقة حيواناته، وانتصار القطيعية، بما يجعل المجتمع خلواً من كلّ دينامية نقدية خلاّقة.

هذا التروّض الانقيادي الأعمى، ألا يحتاج شخص صاحبه “العاقل”، إلى أن يخضع لاستقصاء نفسي، وطبّي، لاستخلاص الأسباب التي تنزع فيه كلّ إحساس بالوجود، فيصير وجوده مرئياً من خلال “معبوده” الذي لا يستحق – أياً يكن – أن يحتل منزلة توازي الألوهة المعصومة من الخطأ؟!

فكيف لشعب، باختلاف طبقاته، وفئاته، وجماعاته، أن يكون مروَّضاً إلى هذا الحدّ المثير للعجب؟ فإذا كان من قعر، فهذا الشعب يقيم في قعر القعر. وعليه، لا بدّ أن تكون الطبقة الحاكمة، الدينية والسياسية، محسودةً، لأنها مطمئنة إلى استتباب حكمها، ولا تخشى حصول ردود فعل لدى مَن فقد كل إحساس بالانتفاض أو بالكرامة أو بالعقل.

تأملوا معي، كيف ينظر المحازبون إلى زعمائهم السياسيين والدينيين نظراتٍ ملؤها الانسحار والاندهاش والتقديس و… البله! فهل رأيتم شعباً مروَّضاً أبله مثل هذا الشعب الذي يعيش في مرحاض عقلي جماعي، ولا يفعل شيئاً من أجل الانتفاض على العيش في المرحاض؟! فإذا كان يتألم من جراء ذلك ولا يفعل شيئاً، فهذه مصيبة. أما إذا كان سعيداً ومتنعماً بالتمرغ في عطور المرحاض، فأعتقد أنها مصيبة المصائب.

أقسم أن اللبنانيين، بدون تعميم طبعاً، يتوزعون بين هاتين المصيبتين. مَن منهم خارجهما، فأقلية لا يُحسَب لها حسابٌ بين القطعان! إنها فلسفة الترويض، التي لطالما استخدمها الطغاة السياسيون والأمنيون والدينيون في حياتنا الشرقية، لا تزال سارية المفعول، إلى آجال بعيدة.

* * *

لزكريا تامر في قلبي وعقلي مكانة خاصة. ليس لأنه قاصٌّ “نمرة واحد” فحسب، بل خصوصاً لأنه مجروح بعطب الوجود، ولأنه قنّاص موجع. يذهب إلى الغابة ويعود مخفوراً بالغابة نفسها، وليس أقلّ. دائماً يتأبّط الوعول. وإذا شاء أن يلاحق عملية الترويض، فلن يتلكأ. الوعول أولاً، والوعول أخيراً. وهي وعول الأمل والحلم والحرية. وقد نبّهني قارئ حصيف، إلى قصة “النمور في اليوم العاشر”، وقال لي يجب أن ترشد القرّاء إليها، فهي مختصرٌ مفيد في كيفيات الترويض، وأساليبه، وأصوله، وفنونه. وهي، إلى ذلك، تعكس وقائع عيشنا وأحوال بلداننا، في ظل الأنظمة الاستبدادية، وبدائلها الإرهابية التكفيرية، ونماذج الأحزاب والتيارات، التي تمعن ترويضاً في الناس، وقتلاً لطاقاتهم الخلاّقة.

هنا، في قفص القصة، قصة “النمور في اليوم العاشر”، يمكن رؤية الشعب والمجتمع والدولة. وبالطبع لا بدّ من رؤية الغابة كلها، والحيوانات كلّها، ولن يكون من الصعب العثور على العرين، بنزلائه جميعهم، وفي مقدّمهم الأسود. ولكي لا أخرج على “مضمون” القصة، أستخدم النمور تحديداً. هكذا يسع القارئ أن يتابع مع زكريا تامر قصة أيام الترويض العشرة، وصولاً إلى اليوم الأخير، حين يستتبّ الخنوع إلى آخره.

نزولاً عند رغبة القارئ الحصيف، أنشر قصة “النمور في اليوم العاشر” (رياض الريّس للكتب والنشر)، لتكون مادةً، لا للتفكهة، بل للاستفزاز العقلي. وهي مفيدة، بالعبرة المنطوية عليها، للقطعان، ولزعمائها النمور والأسود، على السواء.

… وكم هي معبِّرة أيضاً وبالطبع، عن أحوال النمور والمتنمّرين، والأسود والمستأسدين، وما آلت إليه هذه الأحوال، في منطقتنا العربية العزيزة!

* * *

“رحلت الغابات بعيداً عن النمر السجين في قفص، ولكنه لم يستطع نسيانها، وحدّق غاضباً إلى رجال يتحلقون حول قفصه وأعينهم تتأمله بفضول ودونما خوف، وكان أحدهم يتكلم بصوت هادئ ذي نبرة آمرة: “إذا أردتم حقاً أن تتعلّموا مهنتي، مهنة الترويض، عليكم ألاّ تنسوا في أيّ لحظة أن معدة خصمكم هدفكم الأول، وسترون أنها مهنة صعبة وسهلة في آن واحد. انظروا الآن إلى هذا النمر. إنه نمر شرس متعجرف، شديد الفخر بحريته وقوته وبطشه، ولكنه سيتغيّر، ويصبح وديعاً لطيفاً ومطيعاً كطفل صغير، فراقِبوا ما سيجري بين مَن يملك الطعام وبين مَن لا يملكه، وتعلّموا”.

فبادر الرجال إلى القول إنهم سيكونون التلاميذ المخلصين لمهنة الترويض، فابتسم المروِّض مبتهجاً، ثمّ خاطب النمر متسائلاً بلهجة ساخرة: “كيف حال ضيفنا العزيز؟”.

قال النمر: “أحضِرْ لي ما آكله فقد حان وقت طعامي”.

فقال المروِّض بدهشة مصطنعة: “أتأمرني وأنتَ سجيني؟ يا لكَ من نمر مضحك! عليكَ أن تدرك أني الوحيد الذي يحقّ له هنا إصدار الأوامر”.

قال النمر: “لا أحد يأمر النمور”.

قال المروِّض: “ولكنكَ الآن لستَ نمراً. أنتَ في الغابة نمر، أما وقد صرتَ في القفص، فأنتَ الآن مجرّد عبد تمتثل للأوامر وتفعل ما أشاء”.

قال النمر بنزق: “لن أكون عبداً لأحد”.

قال المروِّض: “أنتَ مرغم على إطاعتي لأني أنا الذي أملك الطعام”.

قال النمر: “لا أريد طعامكَ”.

قال المروِّض: “إذن جعْ كما تشاء، فلن أرغمكَ على فعل ما لا ترغب فيه”.

وأضاف مخاطباً تلاميذه: “سترون كيف سيتبدّل، فالرأس المرفوع لا يُشبع معدة جائعة”.

وجاع النمر، وتذكّر بأسى أيام كان ينطلق كريح دون قيود مطارداً فرائسه.

وفي اليوم الثاني، أحاط المروِّض وتلاميذه بقفص النمر، وقال المروِّض: “ألستَ جائعاً؟ أنتَ بالتأكيد جائعٌ جوعاً يعذّب ويؤلم. قلْ إنكَ جائع فتحصل على ما تبغي من اللحم”.

ظلّ النمر ساكتاً، فقال المروِّض له: “إفعل ما أقول ولا تكن أحمق. اعترفْ بأنكَ جائع فتشبع فوراً”.

قال النمر: “أنا جائع”.

فضحك المروِّض وقال لتلاميذه: “ها هو ذا قد سقط في فخٍّ لن ينجو منه”.

وأصدر أوامره، فظفر النمر بلحم كثير.

وفي اليوم الثالث، قال المروِّض للنمر: “إذا أردتَ اليوم أن تنال طعاماً، فنفِّذْ ما سأطلب منكَ”.

قال النمر: “لن أطيعكَ”.

قال المروِّض: “لا تكن متسرعاً، فطلبي بسيط جداً. أنتَ الآن تحوص في قفصكَ، وحين أقول لك: قف، فعليكَ أن تقف”.

قال النمر لنفسه: “إنه فعلاً طلبٌ تافه ولا يستحق أن أكون عنيداً وأجوع”.

وصاح المروِّض بلهجة قاسية آمرة: “قف”.

فتجمّد النمر توّاً، وقال المروِّض بصوتٍ مرِح: “أحسنتَ”.

فسُرّ النمر، وأكل بنهم بينما كان المروِّض يقول لتلاميذه: “سيصبح بعد أيام نمراً من ورق”.

وفي اليوم الرابع، قال النمر للمروِّض: “أنا جائع فاطلبْ مني أن أقف”.

فقال المروِّض لتلاميذه: “ها هو قد بدأ يحبّ أوامري”.

ثمّ تابع موجِّهاً كلامه إلى النمر: “لن تأكل اليوم إلاّ إذا قلّدتَ مواء القطط”.

فكظم النمر غيظه، وقال لنفسه: “سأتسلى إذا قلّدتُ مواء القطط”.

وقلّد مواء القطط، فعبس المروِّض، وقال باستنكار: “تقليدكَ فاشل. هل تعدّ الزمجرة مواءً”.

فقلّد النمر ثانيةً مواء القطط، ولكن المروِّض ظلّ متجهم الوجه، وقال بازدراء: “أسكت أسكت. تقليدكَ ما زال فاشلاً. سأترككَ اليوم تتدرّب على مواء القطط، وغداً سأمتحنكَ. فإذا نجحتَ أكلتَ، أما إذا لم تنجح فلن تأكل”.

وابتعد المروِّض عن قفص النمر وهو يمشي بخطى متباطئة، وتبعه تلاميذه وهم يتهامسون متضاحكين. ونادى النمر الغابات بضراعة، ولكنها كانت نائية.

وفي اليوم الخامس، قال المروِّض للنمر: “هيا، إذا قلّدتَ مواء القطط بنجاح نلتَ قطعة كبيرة من اللحم الطازج”.

قلّد النمر مواء القطط، فصفّق المروّض، وقال بغبطة: “عظيمّ أنتَ تموء كقطّ في شباط”.

ورمى إليه بقطعة كبيرة من اللحم.

وفي اليوم السادس، ما إن اقترب المروِّض من النمر حتى سارع النمر إلى تقليد مواء القطط، ولكن المروِّض ظلّ واجماً مقطِّب الجبين، فقال النمر: “ها أنا قد قلّدتُ مواء القطط”.

قال المروِّض: “قلِّدْ نهيق الحمار”.

قال النمر باستياء: “أنا النمر الذي تخشاه حيوانات الغابات، أقلّد الحمار؟ سأموت ولن أنفّذ طلبكَ”.

فابتعد المروِّض عن قفص النمر دون أن يتفوّه بكلمة.

وفي اليوم السابع، أقبل المروِّض نحو قفص النمر باسمَ الوجه وديعاً، وقال للنمر: “ألا تريد أن تأكل؟”.

قال النمر: “أريد أن آكل”.

قال المروِّض: “اللحم الذي ستأكله له ثمن، انهقْ كالحمار تحصل على الطعام”.

فحاول النمر أن يتذكر الغابات، فأخفق، واندفع ينهق مغمض العينين، فقال المروِّض: “نهيقكَ ليس ناجحاً، ولكنني سأعطيكَ قطعةً من اللحم إشفاقاً عليك”.

وفي اليوم الثامن، قال المروِّض للنمر: “سألقي مطلع خطبة، وحين سأنتهي صفِّقْ إعجاباً”.

قال النمر: “سأصفّق”.

فابتدأ المروِّض إلقاء خطبته، فقال: “أيها المواطنون… سبق لنا في مناسبات عديدة أن أوضحنا موقفنا من كل القضايا المصيرية، وهذا الموقف الحازم الصريح لن يتبدّل مهما تآمرت القوى المعادية، وبالإيمان سننتصر”.

قال النمر: “لم أفهم ما قلتَ”.

قال المروِّض: “عليكَ أن تعجب بكل ما أقول وأن تصفّق إعجاباً به”.

قال النمر: “سامِحْني. أنا جاهلٌ أمّي، وكلامكَ رائع، وسأصفّق كما تبغي”.

وصفّق النمر، فقال المروِّض: “أنا لا أحبّ النفاق والمنافقين، ستُحرَم اليوم من الطعام عقاباً لكَ”.

وفي اليوم التاسع، جاء المروِّض حاملاً حزمةً من الحشائش، وألقى بها للنمر، وقال: “كلْ”.

قال النمر: “ما هذا. أنا من آكلي اللحوم”.

قال المروِّض: “منذ اليوم لن تأكل سوى الحشائش”.

ولما اشتدّ جوع النمر، حاول أن يأكل الحشائش، فصدمه طعمها، وابتعد عنها مشمئزاً، ولكنه عاد إليها ثانيةً، وابتدأ يستسيغ طعمها رويداً رويداً.

وفي اليوم العاشر، اختفى المروِّض وتلاميذه والنمر والقفص، وصار النمر مواطناً، والقفص مدينة”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى