أيمن الشوفيصفحات الناس

موازنات الحرب في سوريا منذورة للتضخم/ أيمن الشوفي *

 

 

استمرت القدرة الشرائية لليرة السورية تتآكل خلال سنوات الحرب، وهي معادلة أرخت بظلالها على الجميع. أغلب دخول السوريين تهشّمت داخل تلك المتوالية القاسية من الحذف. وموازنات الأعوام الثلاثة الأخيرة تشهد على ذلك وعلى سواه من انهيار الاقتصاد اعتباراً من منظومته الإنتاجية، وصولاً إلى منظومته المالية التي تداعت تباعاً بما يشبه النزف البطيء بعدما وصل سعر صرف الدولار خلال الشهر الأخير من العام الفائت إلى أكثر من 390 ليرة.

الزيادة في الليرات فقط

من السهل على رئيس الحكومة السورية توصيف موازنة العام 2016 بأنها “موازنة المواجهة والتحدي والحرب”. الأصعب عليه أن يثبت تحقق زيادة فعلية على قيمتها، مقارنةً مع موازنة العام المنقضي، وإن كان الفارق بين رقمي الموازنتين يوحي بزيادة نظرية تبلغ 27.4 في المئة، تتأتى فقط في حال احتساب قيمة الموازنة بالليرة السورية. ذلك أن قيمة موازنة العام 2016 تصل وفق بيان الحكومة إلى 1980 مليار ليرة، بينما بلغت قيمة موازنة العام 2015 نحو 1554 مليار ليرة. ورقم موازنة العام 2016 بُني على أساس أن سعر صرف الدولار هو 257 ليرة، وبالتالي تصبح قيمة موازنة العام 2016 7.7 مليارات دولار، فيما تكون قيمة موازنة العام الفائت 8.1 مليارات دولار باعتماد سعر صرف الدولار الرسمي، وكان بحدود 190 ليرة خلال إعدادها، ونحو 150 ليرة عند إعداد موازنة العام 2014، لتكون قيمة موازنة ذاك العام نحو 9.2 مليارات دولار. فإعادة قراءة أرقام الموازنات بالدولار تكفل الجزم بحدوث متوالية انخفاض حقيقية لموازنات الدولة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، فموازنة العام 2015 انخفضت بنسبة 12 في المئة عن موازنة العام 2014، وموازنة العام 2016 أخفض بنسبة 5 في المئة عن موازنة العام الذي سبقه وأخفض بنسبة 16.3 في المئة عن موازنة العام 2014.

موازنة العام 2016 التي وصفها إعلام النظام الرسمي بأنها “الأضخم” على الإطلاق في تاريخ البلاد، عاد وتلهى عن حقيقة كونها موازنة “تضخميّة”، وهي الأقل قيمةً منذُ عقد من الزمن، وهذا ينجلي أيضاً حال مقارنتها مع موازنات سابقة محسوبة بالدولار لا بالليرة السورية، كموازنة العام 2011 التي بلغت قيمتها 750 مليار ليرة وهذا يعادل 15 مليار دولار بحسب سعر الصرف المعتمد حينها، والبالغ نحو 50 ليرة للدولار الواحد، ما يعني أن الموازنة انخفضت بنسبة 48.6 في المئة عن موازنة العام 2011.

الحكومة تخفض الدعم الاجتماعي

لا تَعِدْ موازنة العام 2016 السوريين بأيّ شيء، فهي موازنة انكماشية بامتياز، كما هو حالُ موازنات سنوات الحرب الماضية، حيث أنّ نسبة الإنفاق الجاري فيها تصل إلى 74.2 في المئة من إجمالي قيمة موازنة الدولة. الحكومة خصّت الإنفاق الاستثماري فقط بنحو 510 مليارات ليرة، منها 50 مليار ليرة لإعادة الإعمار، لكننا نستدل ونحن نتفقد سحنتها الانكماشية على تمركز الإنفاق الجاري فيها حول كتلتي الرواتب والدعم الاجتماعي. وهذا كان يقينَ موازنات الأعوام الثلاثة الماضية، إذ تشكّل كتلة الرواتب نحو ربع الإنفاق الجاري، فيما تم تخصيص الدعم الاجتماعي بنسبة 66 في المئة من إجمالي الإنفاق الجاري، كما نستدل على تشابه البنية الإنفاقيّة لموازنة العام 2016 مع البنية الإنفاقية لموازنة العام السابق عليه، وهي تخصص 73.5 في المئة من قيمتها للإنفاق الجاري، بينما قاربت حصة الدعم الاجتماعي من النفقات الجارية 86 في المئة، أيّ أنّ موازنة العام 2016 خفّضت الدعم الاجتماعي بنسبة 20 في المئة عمّا هو عليه في موازنة العام السابق.

وأيضاً فموازنة العام 2014 البالغة قيمتها نحو1390 مليار ليرة كانت قد خصصت الإنفاق الجاري بنسبة 6.7 في المئة من قيمتها، حينها بلغ رقم الدعم الاجتماعي 615 مليار ليرة وهذا مثّلَ ما نسبته 61 في المئة من إجمالي الإنفاق الجاري، بينما لم تخصص تلك الموازنة سوى ملياري ليرة لإعادة الإعمار.

البحث عن تمويل

الإخفاق في تأمين مصادر تمويل غير تضخمية هاجس يلحُّ على صانعي أرقام موازنات الأعوام الثلاثة الماضية أكثر من سواها. لكن الإجراءات الحكومية ظلّت رديفةً لشبح التضخم، فلم تتكل موازنات سنوات الحرب سوى على الدين الداخلي كمصدر أساسي للتمويل التضخمي، في حين خففت القروض الإيرانية والروسيّة من أحمال العجز الذي ناءت تحته الموازنات السابقة، ولعلها أيضاً منعت انجراف قيمة الليرة السورية إلى تدهورٍ كارثيّ. كما لم تَصبغ إجراءات السلطة أيّ تعديلات جوهرية تطال إعادة هيكلة التكليف الضريبي، وبذلك بقي كبار المكلفين ضريبياً هم الأثرياء ولا يجوز التجسس لا على أرباحهم، ولا على ثرواتهم، وأبقتهم السلطة شركاء أزمتها الاقتصادية، وشركاءها في الفرجة أيضاً، فهي تلغي بتحييدها لهم مصدراً هاماً من مصادر التمويل غير التضخمي لموازناتها. الأسوأ من ذلك أن السلطة أمعنت خلال السنوات الماضية بتكثيف الضرائب غير المباشرة، تلك التي تطمس الفروقات في الدخل فلا تأخذ بها، إذ إنها تُجبى من الجميع بالتساوي. وبلا اكتراث، يصير تنامي الدين العام جزءاً نافراً من تعاطي السلطة مع الشأن العام. لقد قدّر صندوق النقد العربي خلال العام 2014 أن نسبة الدين العام بلغت 32 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي، كما أكدت أرقام الصندوق ارتفاع الدين الخارجي لسوريا بنسبة 16 في المئة.

لكن التجهّم الحكومي المستمر بوجه التضخم لا يكفي. تعلم السلطة بأن ازدياد التضخم سيقضم ببطء مزيداً من موارد الدولة في العام المقبل، وسيوجّه بوصلة الأسعار باتجاه الارتفاع. تستنجد السلطة هنا بفاقدين أساسيين، الأول هو حقول النفط والغاز التي خسرتها وصارت ملكاً “لداعش”، والثاني خسارتها لمجموعة من المدخلات الاقتصادية الهامة سواء كانت صناعية أم زراعية في المناطق التي خرجت عن سيطرتها، وباتت تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

توخّت السلطة هنا سوق المبررات لوقوع موازناتها منذ ثلاث سنوات فرائس للتضخم، ولم يقترح اقتصاديّوها بدائل حتى ولو كانت تقل عن حجم الانتكاسة الاقتصاديّة المشهودة. ظهر التداوي بالقروض والمعونات الإيرانية والروسية تارةً، وبالمقايضة التجارية للسلع مع الدول الحليفة للنظام تارةً أخرى، بمثابة إفلاس إجرائي أكثر من كونه حلّاً، بدليل ابتلاء القدرة الشرائيّة لعملة البلاد بمتلازمة الانخفاض المستمر، وتآكل الدخول بصورة مستمرة، وصعود موجة هجرة غير مسبوقة إلى دول اللجوء الأوروبي منذ صيف العام الفائت.

* صحافي من سوريا

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى