صفحات الرأيقصي غريب

مواصفات المفكر


د. قصي غريب

 ليس كل متعلم أو مثقف خط بالقلم، وصف جملة مفيدة، أو كتب مجموعة مقالات، أو ألف كتاباً أو عدة كتب، أو قام بدراسة علمية أصبح من فئة المفكرين، فالمفكر هو شخصية من نوع خاص كونه علامة فارقة بين المثقفين، لأنه صفوة الصفوة، ونخبة النخبة، وطليعة الطليعة، فمواهبه الإبداعية، وقدراته الخلاقة، وصفاته الحميدة تجعل منه من أهم الأشخاص وأكثرهم حيوية في بلاده، لإمكاناته الفكرية، وقدراته المعرفية التي تتميز بسعة ثقافته، وسلامة فكره، وبعد نظره، وحسن تخطيطه الإستراتيجي لربطه الغاية بالوسيلة، والنية بالقدرة، والأهداف بالموارد، فضلاً عن غزارة إنتاجه الفكري والعلمي، وحمله راية التغيير لتفسيره وتحليله الواقع، وتقديمه الحلول الناجعة لتغييره، وإعادة بنائه من جديد على أسس علمية بناءً على رؤيته الفكرية، وخطة عمله، فسمو هدفه وعظمة غايته، تطور وتقدم شعبه ليرقى إلى درجات الكمال كونه صاحب مشروع  ورسالة ثقافية وحضارية، لأنه العقل المفكر اليقظ ، والقلب النابض الحيوي، والضمير الرقيق الحساس لشعبه  ولوطنه، فهو أدق من يتفهم المشكلات و الأزمات، ويعين الأهداف والغايات، ويرسم الخطط  والاستراتيجيات، ويحدد المهام  والواجبات، لأنه يحس ويتلمس، ويدرك ويعي، ويعيش تحت وطأة مشكلات وأزمات شعبه ووطنه، فيشعر دائماً بالخطر المحدق، وهذا الإحساس العالي بالمسئولية يدفعه إلى أن يكون نذيراً وبشيراً لهما.

إن المفكر الحقيقي هو : من تماهى مع مشكلات وأزمات شعبه  ووطنه، فيقاس به القدرة على التحدي والمواجهة، والقابلية للعبور بهما إلى بر الأمان والبقاء، بحكم مهمته كونه دليل ماهر في الطريق، ووقوعه على الحقيقة، ففي أوقات المشكلات والأزمات لحلها ومعالجتها يجب أن يذكر شعبه بحضارة وأمجاد أمته، ولإطلاعه على ثقافات العالم يذكر شعبه ببعض الحقائق الأساسية عن تاريخ وحضارات الأمم الأخرى، وتطورها، وتقدمها ورقيها سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وإعلامياً، وعسكرياً، وعلمياً، و فكرياً، وتقنياً، ومدنياً، وحضارياً للإستفادة من خبرتها وتجربتها، وبما أنه من العناصر المؤثرة في صياغة الوجدان العام، كونه يمثل ضمير ووجدان شعبه، ويحتضن قيم أمته، ويعبر عن صوتها العالي، فإن مواهبه الخلاقة، وقدراته المتميزة، وطاقاته المتجددة، وصفاته الحميدة، وتفرده بالإبداع والعطاء، وتميزه بالطروح والحلول الناجعة تجعله يحتل مركزاً فعالاً موجهاً إلى التطور، والتقدم، والرقي، إذ في رؤيته الفكرية يستعيد الشعب ثقته في ذاته، فاطروحاته، وحلوله، ومواقفه الفكرية والسياسية تزيد من قدرة الشعب على التحدي، والمواجهة لتجاوز الأوضاع لوعيه القوانين الموضوعية للواقع التي من أبسط بديهياتها عد المشكلات والأزمات في حياة الشعب والوطن حدثاً عابراً قابلاً للحل لا حتميات .

ومن هنا فان المفكر هو : الرائد الذي لا يكذب أهله، لأنه أكثر الناس حكمة، وعلماً، وثقافة، ويظهر اهتماماً خاصاً بالقيم المركزية السائدة في مجتمعه، ويتولى مهام مميزة وكبيرة، فهو عالم، وخبير، ومجرب، ومنظم، ومرب، ومحرض، ومحرك، وموجه، ونذير، وبشير كونه صاحب فكر نير ونظرية خلاقة تكمن مكانته في تكوينه الفكري والسلوكي لإمتلاكه عمق الفكر، وصفاء الروح، وتفرد في الإبداع والإنتاج الفكري، وتميز بالطرح والحل الناجع، والتحلي بالقوة، والعزم، والإيمان، والأنموذج بالبذل، والتضحية، والإيثار، والنابع من آلام وآمال شعبه، والمنطلق فكره من قاعدة أصالة أمته الثقافية والحضارية، والواثق بقدراتها، والمؤمن بمكانتها ودورها الإنساني، ومن الدافعين بالحياة فيها إلى الحركة لإسهامه في مواكبة العصر وصناعة التمدن كونه من أهل الهمم العالية، والعزائم القوية، والرغبات الصادقة في تخليص شعبه من مشكلاته وأزماته لينطلق في الحياة، ويكون له مكان بين الأمم، وتحت الشمس، فهو يعبر عن أصالة وطنه وأمته القادرة على تجاوز مشكلاتها وأزماتها، وإعادة تكوين ذاتها، فقوته مستمدة من الإيمان بثقافة وحضارة شعبه، ومن إخلاصه لها، ومن الموقف القوي الذي يتخذه، ويسير عليه، وأهميته تتوقف على الدور المسئول الذي يقوم به، فهو بما أوتي من إمكانات فكرية عالية، وقدرات معرفية واسعة، ولأنه في مقدمة من يرفض واقع مجتمعه بكل ما فيه من عيوب قادر على أن يستنهض الهمم لتجاوز واقع الحال السلبي للوصول إلى مستوى الكمال ببث الحياة الصحيحة في المجتمع، والأخذ بأسباب التطور، والتقدم، والرقي لأفراده بتحفيزه الصفات الحميدة، والمواهب الكامنة في أبناء شعبه بإبقاء جذوة الأمل فيهم حية مهما واجهوا من مشكلات وأزمات، وإفهامهم إنهم يمرون بمحنة وشدة سوف تزولان، فمهمته يحتاط ويحذر لإيقاظ أمته من الغفلة، وإنقاذها من الخطر، فمن أولويات الهموم التي يجب أن تشغله هو : إعادة الثقة إلى النفوس، وتحويل العجز إلى قدرة بتنبيه أبناء وطنه لكي يصحوا على أوضاعهم السلبية، ويدعوهم إلى مواجهتها وتجاوزها، والتطلع بجسارة إلى اقتحام المستقبل الذي هو انجاز وليس هبة .

ولذلك فإن وظيفة المفكر الأصيل، ورسالته الأساس هي : الإسهام في تطور، وتقدم، ورقي شعبه ليرقى درجات الكمال عن طريق التغلب على الصعوبات والتحديات التي تواجهه  بتقدير دقيق لمشكلات وأزمات مجتمعه ووطنه، وأن في مقدمة واجباته أن يكون فاهماً لحقيقة تلك المشكلات والأزمات واعياً لها منبهاً إلى وجوه الخطر فيها، ويقوم في تشخيص الداء، ووضع الدواء، وأن يدرك ويعي إن المشكلات والأزمات التي تجابه الشعب والوطن كلية، وأخرى جزئية، فلا يجوز إهمال الكلية من الأصول، والإنصراف إلى معالجة الجزئية من الفروع، وإن واجبه في هذه الأوضاع لا يقحم المشكلات على الأزمات إقحاماً، ويتناولها جملة واحدة، وأن يتدرج في اختيار حل المشكلات، ومعالجة الأزمات التي تواجه تقدم، وتطور، ورقي شعبه ووطنه، بتناوله الأهم فالمهم ولكن في  الوقت الذي يجابه فيه الشعب والوطن مشكلات وأزمات من دون حلها ومعالجتها تتعسر الحياة، تدور أكثر مواضيع الذين يقدمون على إنهم مفكرون حول مسائل جزئية تافهة، بل لا تستهدف في أحيان كثيرة أي موضوع حقيقي، فهم يثيرون مجموعة من المسائل الفرعية والهامشية، ويقومون بتغذية شهوات الجهلة، وغرائز المتخلفين المرضى من بغاث العنصريين، والطائفيين، الذين يملكون رغبات غير مشبعة، وطموحات غير متحققة، أي أنهم يلهون عن حلها و معالجتها بالسفسطة والثرثرة الفارغة، والعبث الغوغائي الطفولي ليرضوا نزوات مريضة تصرفهم عنها، في حين تحتاج فيه إلى جهد فكري موضوعي، ونيات وطنية صادقة بعيد عن الغوغائية والردح، ويبدو إنهم يستسلمون بسفاهة لأضغاث أحلام جهات، ودوائر مشبوهة، ولبعض إدارات أنظمة قوى كبرى وعظمى غربية أحقادها التاريخية على العرب والمسلمين أفقدتها البصر والبصيرة، فوقعوا تحت تأثير ضغط الإنبهار بثقافتها العدوانية المشوهة التي ما تزال تحت سلطة غرائز الأثرة والتحكم، وتنظر إلى الآخر المختلف حضارياً بدونية، وأفكارهم البائسة، ومواقفهم المثيرة للاشمئزاز تؤيد ذلك، في حين أن المفكر الحقيقي تكون ثقافة وحضارة شعبه قاعدة وأساس فكره مع انفتاحه، وتفاعله مع ثقافات وحضارات الأمم الأخرى، كما إنه يرفض سفساف الأعمال، والأمور التافهة، ولا يكون أداة للغير وبوق له، ثابت الجأش لا ترهبه السلطة أو يغريه المال أو الجاه، يترفع عن الصغائر، ويسعى إلى الرفعة والسمو، ولا يهتم إلا لمهمات الأمور، فوظيفته تفرض عليه أن يضع مصلحة الشعب والوطن فوق أي مصلحة، لا سيما، وأن له مكانة فكرية، ومعنوية كبيرة، ومهمة عند شعبه، وفي وطنه، لأنه صاحب مشروع ورسالة ثقافية، وحضارية، وإنسانية لا يقصد من ورائها أي مكسب أو غنم، فهو لا يبحث إلا عن تطور، وتقدم، ورقي شعبه، ووطنه، وأمته عن طريق العمل الجاد الحثيث على انبعاثهم، وتحقيق ذاتهم بأن يكون لهم مكانة بين الأمم، ودور في الحضارة الإنسانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى