صفحات الثقافة

مواطنة مؤجلة… وانتحار سوري

 

عبده وازن

قد لا يُحرج شخص – أياً يكن – في لبنان اليوم أن يقول جهاراً: أنا مواطن نفسي. هذا أصلاً ما علّمته، بل ما علّمتنا إياه الحرب التي لم يُمح أثرها من النفوس، حتى من نفوس الذين لم يشاركوا فيها، الذين قرأوا عنها أو عاشوها بصفتها حرب آبائهم. فقدت المواطنة في لبنان ذريعتها منذ أن هبّت عليها عواصف الطائفية والقبلية الجديدة والعصبية العمياء… وأضحت وقفاً على قلة قليلة تمارس هذه المواطنة، خارج حدود الوطنية الجاهزة والانتماء الضيق. إنها النخبة شبه المنقرضة التي علمتنا فعلاً كيف نكون مواطني أنفسنا ومواطني عالم هو عالمنا الذي ننتمي إليه بصفتنا غرباء عنه وفيه.

هل يمكنك أيها المواطن أن تتصور أنك إذا كنت شيعياً في لبنان اليوم فأنت مجبر على أن تنتخب نواباً شيعة، وإذا كنت مارونياً فأنت ملزم بأن تنتخب نواباً موارنة وإذا درزياً كنت فدروزاً تنتخب، وهلمّ جراً إلى آخر طائفة من الطوائف الثماني عشرة المعترف بها رسمياً، ومنها بضع أقليات ضئيلة الأصوات مثل البروتستانت والكلدان والأشوريين والسريان… إنها الطوائف التي طالما صنعت فرادة «الفكرة» اللبنانية القائمة على التنوع والتعدد ولكن من غير انصهار ووحدة حقيقية.

إنها بدعة النظام الانتخابي العتيد الذي توافقت، أو تواطأت عليه أكثرية نيابية باتت كفّتها راجحة إذا لم تواجه حملة عامة، رفضاً واحتجاجاً واستنكاراً. أنت وفق هذا النظام رقم في طائفة. أنت لست مواطناً وفق ما تقضي شرعة حقوق الإنسان. أنت شخص في قطيع، لا هوية لك فردية ولا انتماء سوى الذي كُتب عليك قدرياً…أما الشراكة التي تُعدّ في أساس المواطنة، فهي لا تتخطى تخوم الطائفة التي فيها وحدها تمارس «شرطك» الإنساني وحريتك «المشروطة»… الآخرون، أخوتك في الوطن، أو ما يُسمّى وطناً، هم الآخرون، ولا يمكنك أن تتعامل معهم إلا كآخرين يسكنون الضفة الأخرى من الوطن، وطنك ووطنهم.

هذا النظام الذي نال رضا الأكثرية النيابية مبدئياً، والذي تمّ الأخذ به نزولاً – ظاهراً -عند رغبة المسيحيين في لبنان، هؤلاء الذين يشعرون، كما يقال، بحال من الغبن، والغبن الطائفي واحدة من الخصائص اللبنانية التي يصعب شرحها… هذا النظام، أقول، لا يمثل ضربة قاسية لـ»فكرة» لبنان-الخرافية أصلاً- ولا لمبدأ «التعايش» الفولكلوري فحسب، بل هو يشكل ضربة للمسيحيين أو للحضور المسيحي في لبنان. فهو سيزيد حتماً من عزلتهم واعتزالهم مثلما سيعزل الطوائف الأخرى بعضها عن بعض ويرسم في ما بينها خطوط تماس حقيقية، وإن غير مرئية. هذا حال من أبشع أحوال التقسيم والانقسام، بل من أبشع أحوال الحروب الكامنة وغير المعلنة، الحروب القابعة في الوجدان والروح والانتماء والمواطنة المنحرفة… ولعل أول أخطاء هذا الانعزال المسيحي المزمع، هو الدعوة التي بادر بها بضعة نواب أو شخصيات مسيحية إلى إقفال الحدود مع سورية منعاً لتوافد المزيد من النازحين السوريين والفلسطينيين إلى وطن الأرز. وهذه دعوة عنصرية وغير إنسانية تضمر الكثير من الشر وتوقظ الغرائز الطائفية والشوفينية، علاوة على دفعها النازحين إلى الموت تحت نيران البعث السوري المجرم. لم تكن هذه العنصرية من مآثر لبنان الذي دأب منذ أن كان، على فتح أبوابه أمام المضطهدين والنازحين والهاربين من الظلم والقتل، حتى أنه دفع باهظاً ثمن فتح أبوابه. لكنّ الأمر الآن يختلف، فالنازحون غير القادرين على البقاء في وطنهم المزروع بالنار والرصاص والقذائف، هم غير قادرين على أن يبقوا خارج هذا الوطن. إنهم لاجئون عابرون أو موقتون ويجب مدّ يد العون لهم. لكنها الطائفية أو التجييش الطائفي الذي يكسب هؤلاء السياسيين مزيداً من الأصوات الانتخابية. فكلما زاد التحريض الطائفي وازدادت إثارة الغرائز الطائفية امتلأت الصناديق بالأصوات. أما أقسى طعنة وجّهت إلى هؤلاء العنصريين فهي إقدام النازح السوري محمد ملسي على الانتحار بعدما دخل الأراضي اللبنانية. هرب محمد من مخيم اليرموك الذي تدكّه الطائرات الإسرائيلية – عفواً – السورية لينتحر في مخيم عين الحلوة الذي لجأ إليه مع عائلته فقيراً معدماً. شاء أن ينتحر في لبنان هرباً من قسوة النظام السوري. لفّ عنقه بحبل وشنق نفسه على سطح الغرفة التي آوته وعائلته.

لن أُحرج البتة إذا أنا قلت إنني مواطن نفسي. وما شجعني على مثل هذا الاعتراف المقال الذي كتبه الروائي المصري علاء الأسواني وعنوانه «أن تكون مسلماً في بريطانيا»، وفي ختامه يعترف أنه ارتكب خطأ مقصوداً في العنوان، ويدعو القارئ إلى معاودة قراءة المقال بعنوانه الأصلي وهو «أن تكون قبطياً في مصر». ويستحق هذا المقال أن يوزّع كبيان عن أحوال المواطنة في مصر اليوم، مصر «الإخوان» الذين يعيثون خراباً في تراثها العظيم وفي ذاكرتها التليدة.

إنني مواطن نفسي، إننا مواطنو أنفسنا، إنهم مواطنو أنفسهم، هؤلاء الذين ما زالوا يمثلون مقداراً من أمل في هذا الوطن، في لبنان كما في مصر والعالم العربي. ولولا هؤلاء لكان من المحتّم القول بلسان المفكر الفرنسي روسو: «هاتان الكلمتان، وطن ومواطن، ينبغي محوهما من اللغات الحديثة».

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى