راتب شعبوصفحات الناس

مواطنون وأعداء

راتب شعبو

في النزوح الذي يعيشه السوريون اليوم ملامح لا نجدها في النزوح الذي تفرضه الحروب بين الدول. في هذا الأخير، يتقارب الناس وجدانياً كما يتقاربون مكانياً. تكون صورة العدوّ صلبة وواضحة الملامح. وكذا تصبح صورة الذات. الشعور بالخطر الخارجي يُذيب التمايزات الداخلية ويبتكر رابطة طارئة متينة وقادرة على الصمود للمشقات والضيق. وبقدر ما يكون العدوّ الخارجي مصدر الخطر، يكون ابن البلد مصدراً للطمأنينة. فأبناء البلد أصحاب قضية واحدة ومصير مشترك، إنهم يتحسسون بقوة خيط المواطنة الذي يشتد ويجمعهم. من هنا تأتي قسوة رد الفعل تجاه من يُتَّهمون بالتعامل مع العدوّ، لأن في ذلك غدراً صريحاً لا يُغتفَر.

نزوح السوريين اليوم جرّاء الصراع العسكري الملتهب في معظم أرجاء البلاد، هو نزوح مختلف. نزوح مجبول بالسياسة والانحيازات المختلفة باختلاف التصوّرات عن العدوّ. هنا صورة العدوّ غائمة ومتمادية وبلا حدود واضحة. هنا تميع الحدود بين الخارج والداخل. تدخل الحدود في الحدود والجنسيات في الجنسيات وتتكوّن صورة العدوّ الهلامية الغامضة. وهنا تضطرب الذات في تلمّس حدود ذاتها. ويصبح كلّ آخر مرشحاً لارتداء صورة العدوّ. في هذه الحال ينحطّ التعاطف مع النازحين من نار هذا الصراع إلى مستوى الشفقة. وبدلاً من أن تضمحلّ التمايزات فإنها تتضخم على حساب الروابط الوطنية. هنا لا تشمل خيمةُ “الوطنية” بظلّها العائلاتِ النازحةَ إلى منطقة أكثر أمناً كما في الحروب بين الدول. هنا القضية ليست واحدة والشعب ليس واحداً. هنا للحذر وسوء الظن اليد العليا، فكلّ شارع مرشَّح لأن يكون جبهة، وكلّ شخص “غريب” مرشّح لأن يكون عدوّاً.

تحتاج العائلات السورية النازحة إلى عبور حواجز نفسية – سياسية كي تحوز شيئاً من القبول في عيون أهالي المناطق المضيفة. حواجز بلا متاريس ولا رشّاشات، لكنها أكثر وطأة من حواجز المتاريس والرشّاشات، فهذه الأخيرة تختبر من هويتك الشخصية ومن مقتنياتك وربما من شكلك وردود أفعالك مدى ملاءمتك لمعايير السلامة الأمنية التي تسمح لك بالمرور، وحين تجتازها تصبح وراءك. أما الحواجز النفسية السياسية التي ينصبها الأهالي في ما بينهم، فإنها أمامك دائماً مهما تجاوزتها، ولها حضور مقيم. كلّ سؤال يوجهه أهالي المناطق “المضيفة” هو بمثابة حاجز. كلّ نظرة متأملة إلى هؤلاء النازحين هي بمثابة حاجز، قد يعلق النازح فيه إن هو أخفق في العبور. والعبور يحتاج إلى مهارة في التلوّن حسبما يشاء السائل الشاكّ. إنها حواجز منصوبة دائماً تفصل بين النازح وأهالي المنطقة. الاستفسار من المرأة مثلاً عن عدم وجود الزوج أو الأولاد البالغين، يتضمّن اتهاماً لهم بأنهم يقاتلون مع المعارضة وبأنهم تالياً وراء مقتل أبناء من المنطقة “المضيفة” كانوا يخدمون في الجيش النظامي، ووراء خطف وتعذيب آخرين، ووراء ما يعيشونه من مآس منذ سنتين ويزيد. الأهمّ، أنه يتضمن اتهاماً بأن الأمّ أو الزوجة أو الأخت النازحة إنما تؤيد وتناصر ما يقوم به الزوج أو الأخ أو الابن، تالياً تصبح على حافة السقوط في صورة العدوّ.

لتفادي هذه الحواجز ينكفئ النازحون ويخفضون مستوى احتكاكهم بالأهالي إلى حدود دنيا. هم أيضاً ينصبون حواجزهم النفسية في وجه أبناء المنطقة المضيفة. يتعاملون بحذر مضادّ خشية تبعات السقوط في خانة “العدوّ”. أحاديثهم مقتضبة ومغلّفة بغلاف سميك من العمومية يحيل الكلام على ما يشبه السكوت الذي لا ينبئ عن شيء. هي حالٌ محزنة من التتارك بين أبناء ما يُفترض أنه وطن واحد.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى