مراجعات كتب

مواطن الحداثة: مقالات في صحوة دراسات التَّابع/ شاكرابارتي ديبيش

 

 

خالد طحطح

ينطلق الكِتاب من تساؤل محوري سعى فيه المؤلف ديبيش شاكراباراتي – أستاذ التاريخ واللغات والحضارات لشرق آسيا في جامعة شيكاكو – إلى تحليله وفق منظور جديد. إنّه تساؤل إشكالي يجعل من طرق توطين الحداثة في الهند أنموذجًا لدراسته؛ إذ كيف يمكن، في بلد متعدد الأعراق واللغات واللهجات والثقافات والأديان، تحقيق حداثة ما بعد استعمارية تتخطَّى أخطاء حداثة ما بعد التنوير الأوربي؟

يقترح المؤلف في هذا الكتاب حداثةً مغايرةً، حداثةً بديلةً تحترم التقاليد المحلية وتنفتح على الرؤية الكونية دون أن تقع أسيرة التنوير الأوربي. تلك التي يسمّيها بـ “حداثة ما بعد كولونيالية”. وهي رؤية تتوافق في مضمونها مع جوهر أطروحات من يسمون برواد دراسات التَّابع Subaltern Studies؛ فالحداثة كما قدمها الكاتب ديبيش شاكرابراتي، الذي وُلد وترعرع في الهند، ليستْ سيرورة متجانسة، فهناك-في نظره- دوماً مجالات للتصورات والبدائل الأخرى الممكنة داخل الحداثة. وقد قدَّم ملامح من رؤيته هذه في مؤلفاته السابقة. وبالخصوص في كتابيه: “ترييف أوروبا: الفكر ما بعد الاستعماري والاختلاف التاريخي” و”إعادة التفكير بتاريخ الطبقة العاملة: البنغال 1890-1994″.

إنّ المقالات والبحوث التي يتضمنها كتاب مواطن الحداثة كتبت خلال مدة ناهزت العشر سنوات ونيف، وهي جزء من الحوارات الدائرة حول التاريخ ومكانة المعرفة التاريخية التي أفرزتها دراسات المهمش، وتتجلى أهميتها في كونها ثمرة متابعة لصيقة من الكاتب شاكرابارتي لبحوث أعضاء هيئة تحرير دراسات التابع بالهند وإصداراتهم، وأيضًا نتيجة لمناقشات مستفيضة معهم، إذ جمعته بهم علاقات مودة وصداقة قوية. وهو الأمر الذي يوضحه التقديم الذي تكفَّل به هومي بابا واحد من أبرز وجوه هذه المدرسة التاريخية المتميزة[2].

كيف يمكن بداية وصف الحداثة وتعريفها في بلد كالهند؟ وهل هي قابلة للتعريف والتحديد؟ هذا ما يريد الكاتب بالضبط توضيحه للمتلقي المهتم بالكتابة التاريخية التي نشأت في مرحلة ما بعد الاستعمار ليس في الهند فحسب، وإنّما في جميع المناطق النائية جغرافيًّا وتاريخيًّا عن أوربا.

يحاول الكاتب تقريب صورة الجدالات المستفيضة التي برزت في الهند بشأن قبول أو مناهضة الفكرة القائلة بأنّ للحداثة شكلاً أوربيًّا نمطيًّا، في الوقت الذي تصاعد الحديث فيه عن الحداثات البديلة أو المتعددة. كما طفت إلى السطح تجاذبات حادة بشأن موضوعات أخرى مهمة منها فكرة دولة الأمة، وفكرة التاريخ بحد ذاتها.

يُفصح المؤلف شاكرابرتي عن واحد من أهم أهداف كتابه، ويتعلق الأمر بالسعي إلى تخفيف هوة الخلافات بين الأطراف المتناقضة من خلال اقتراح السبل التي تفضي إلى تجاوز كثير من المشكلات المطروحة بشأن تحديد طابع الحداثة الهندية في مرحلتي ما قبل الاستعمار وما بعده.

لقد استطاعت بحوث الكتاب الموزعة في ثلاثة أقسام تقديم إجابات وافية عن عدد من الإشكاليات المهمة التي يتقاسمها جَمْعٌ من المؤرخين ما بعد الاستعماريين في جميع أنحاء العالم. ومن ضمن القضايا المهمة التي حاول ملامستها بعمق، منظور هؤلاء إلى الموروث العالمي للتنوير الأوربي، بل إنّه ارتقى إلى مساءلة رؤى العنف بوجهيه ومبرراته، العنف الذي مارسه الأوربيون باسم الحداثة خلال المرحلة الكولونيالية، والعنف الداخلي الذي مزق المجتمعات والشعوب بعد تحررها.

يعالج الكتاب بتفصيل، العملية التاريخية التي تُبنى من خلالها مؤسسات الحداثة، من خلال التركيز على التواريخ المخصوصة التي تطورت من خلالها الهند ما بعد الكولونيالية.

في القسم الأول من الكتاب، وبعنوان عريض “مسائل التاريخ”، تناول المؤلف بإسهاب، في البحوث الثلاثة التي تنتظم ضمنه، تتبع دراسات التابع للمشاكل الخاصة بالحداثة السياسية والديموقراطية في تاريخ الهند الحديث، من خلال إثارة التساؤلات حول دور الماضي في تشكيلات الحداثة في الدول التي تعرضت للاستعمار. ويقدم في البحث الأول تاريخًا موجزًا لدراسات التابع من التأسيس إلى السطوع، مركزًا على الجهود التي تم بذلها خلال الخمسينات من القرن الماضي لتحرير التاريخ الهندي من رواسب الاستعمار من خلال توظيف الماركسية لصالح المشروع القومي، قبل أن تُثار خلال الستينيات تساؤلات جديدة إزاء طبيعة الحكم الاستعماري في الهند ونتائجه. وتركز السؤال الرئيسي حول الدور البريطاني وعلاقته بالصراعات التي برزت بين الهندوس والمسلمين والتي أدت إلى التقسيم، فهل كان الانفصال حصيلة سياسات “فرق تسد” التي طبقها البريطانيون في الهند أم أنّ الأمر نتيجة حتمية للانقسامات الداخلية القائمة في المجتمع قبلاً؟

لقد أشادت الوثائق الرسمية البريطانية والكتابة التاريخية المرافقة لها بإنجازات الحكم الاستعماري للهند، وعددت جهوده في الحفاظ على الوحدة السياسية للهند، وأبرزت دوره في تحديث صناعته ومؤسساته التعليمية، وجلب حُكم القانون إليه. بالإضافة إلى تبيان فضلها في ترسيخ مفهوم الوعي القومي لدى الهنود. غير أنّ المؤرخين المحليين الذين حازوا على شهادتهم الأكاديمية بإنجلترا قللوا من هذه الأدوار، وشددوا على التأثيرات السلبية للاستعمار من خلال مخلفاته، وبالخصوص توريث النخبة التي تعاونت معهم في السابق السلطة والامتيازات. بل إنّ معظم هؤلاء المؤرخين اعتبروا الحداثة والوعي القومي من ثمرات نضال الهنود وجهودهم، ولا علاقة البتة لذلك بجهود الحكم البريطاني خلال المرحلة الكولونيالية.

هذه النزعة التاريخية ذات التوجه القومي لن تصمد طويلا أمام الدراسات التي قام بها الباحثون الشباب الذين سلطوا الضوء على مظاهر القمع التي مارسها الزعماء القوميون المحليون ضد طموحات الفلاحين والعمال. كما تناولوا بإسهاب صراعات المصالح الدائرة بين نخبة القوميين وأتباعهم من المرؤوسين. وقد كان لهذه العوامل وغيرها دور في تنفير المؤرخين الشباب من مزالق التاريخ القومي الشبه الرسمي. وهؤلاء هم من شكلوا النواة الأولى لسلسلة دراسات التابع التي برزت خلال مرحلة الثمانينيات كتحول في النموذج على المستوى الفكري، حيث وكّدَت ضرورة إعادة النظر في الحقبة المرتبطة بالاستعمار البريطاني بشكل كلي، وضمت المجموعة كوكبة من المؤرّخين والأنتربولوجيين الذين انتقدوا التاريخ المكتوب من قبل المؤرّخين المتأثّرين بالسياسات الاستعمارية من جهة، وانتقدوا من جهة ثانية أولئك الذين تبنوا مواقف قومية مضادة. واقترحوا بالمقابل مراجعته على ضوء مفاهيم مغايرة متّصلة بالتاريخ الشفاهي الذي استبعدته الاتجاهات النخبوية، التي مثلها آنذاك تياران اثنان هما: مدرسة كامبريدج، ومدرسة المؤرخين القوميين.

تبلورت مدرسة دراسة التَّابع عمليًّا من التطور الذي شهدته الكتابة التاريخية منذ القرن التاسع عشر، مرورًا بأبرز التيارات التاريخية المعاصرة، وبالخصوص المدرسة الماركسية الإنجليزية، ثم ما لبثت أن انتقلت دراسات المهمّش إلى علوم إنسانية أخرى خاصة في الدراسات الأنثروبولوجية والأدبية والسوسيولوجية، فاتسعت دلالات كلمة مهمَّش، وبالخصوص في دراسات المؤرخين الماركسيين البريطانيين مع ازدهار أبحاث التاريخ من أسفل[3].

وقد وظَّف المفهوم تلامذتهم من مؤرخي المدرسة الهندية الجديدة، وعلى رأسهم راناجيت جوها قائد مجموعة دراسات التَّابع[4]، الذي حرص على تكوين اتجاه مضاد للنخبة في كتابة التاريخ، فقد انتقد من خلال مجلة دراسات التابع التي أصدرها سنة 1982، مثالب المؤرخين القوميين الهنود الذين ركزوا على دور النخبة السياسية، مقترحًا بديلاً لذلك، وهو التركيز على دراسة الدور التاريخي للجماعات التابعة كالفلاحين والعمال والنساء.

تعتبر دراسات التابع تجربة مثيرة ورائدة في تأريخ ما بعد الاستعمار، فقد أعادت توجيه التاريخ من خلال نقد التواريخ القومية التي صورت الزعماء القوميين دعاةً للحداثة البرجوازية استنادًا إلى وجود أدوات ديموقراطية، غير أنّ الواقع الفعلي هيمنت فيه علاقات السيطرة والإخضاع، مما يعني –حسب المؤرخ جوها- أن لا شرعية لهؤلاء في التحدث بلسان القوم، بل إنّه لم تكن توجد في الحقيقة أمة موحدة يمكن التحدث باسمها.

إنّ أهم ما ميز دراسات التابع منذ بداياتها موقفها النقدي اتجاه القومية الرسمية أو قومية الدولة، ونوعية التأريخ المرافق له، وإبرازها بالمقابل لتاريخ يصنع فيه التابع مصيره. وقد تم التركيز بالخصوص لتوضيح ذلك على تجارب ثورات المزارعين في الهند المستعمرة، مع إثارة العلاقة بين السلطة والمعرفة من خلال إعادة النظر في مفهوم الأرشيفات وطرق إنتاجها من قبل الطبقات الحاكمة خدمة لأغراضها. فتم بالتالي إعادة الاعتبار للمجموعات المهمَّشة التي تم الاعتراف بها وأُتيحت لها فُرص إسماع صوتها. وهذا ما ولَّد سلسلة من الكتابات خضع فيها التاريخ نفسه بوصفه معرفةً أوربيةً للتمحيص والنقد؛ فعلى ضوء مفاهيم الحداثة والتقدم الأوروبيين، وبالنظر إلى التفاوت الصارخ بين التَّابع المهمَّش المنغلق في رؤيته التقليدية، وبين المثقف النخبوي الذي يتبنى رؤية التنوير المتعالي بغض النظر عن مرجعيته، انطلقت مجموعات دراسات التَّابع في الهند من مدخل مختلف لإعادة النظر في تاريخ بلدها.

في سنة 1988 ستدخل دراسات التابع منعطفًا جديدًا اتسم بتعدد الدوائر، إذ اتجه المشروع فجأة إلى النقد الذاتي من الداخل، كما وجهت له سهام من الخارج. مما كان له تأثير قوي على المسار الفكري للأبحاث اللاحقة، فقد نشرت غاياتري سبيفاك بحثًا بعنوان تفكيك الكتابة التاريخية[5]، نبهت فيه إلى غياب مسائل الجنوسة في دراسات التابع. كما اتجهت بالنقد أيضًا إلى الاتجاه النظري للمشروع من خلال طرح التساؤل الشهير: هل باستطاعة التابعين المهمَّشين التحدث؟ لقد كان لملاحظتها الجادة تأثيرها الفوري في الأعمال الجديدة، من خلال تطبيق منظورات عدد ممن أسهم في بلورة مفاهيم مستوحاة من تجارب ووضعيات مغايرة، يطغى عليها الفكر التفكيكي وما بعد الحداثي. ونستحضر هنا مجهودات كل من الأكاديمي بجامعة هارفرد هومي بابا، والناقد الأدبي من جامعة كولومبيا، المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد؛ فهذان -ومعهما ثلة من المؤرخين الهنديين الآخرين- جعلوا من دراسات التَّابع مشروعًا يتحاور مع الدراسات ما بعد الاستعمارية، وبذلك اقتحمت مناهج هذه الدراسات مجالات أخرى في عدد من بلدان العالم الثالث[6]؛ فتكون دراسات التابع قد نجحت في قطع أشواط أطول من المشروع التاريخي الأصلي الذي وضعته نصب عينيها منذ بداية نشأتها، بل إنّ من أهم ما يحسب لها أيضًا تحقيقها ديموقراطية كتابة التاريخ حتى على المستوى الداخلي حيث برزت تواريخ التابع.

انتقل النقد اللاذع بعد هذه المنعطفات الداخلية إلى ذهنية التابع وموقفه من التنوير الأوربي، وهنا تحضر المفارقات في بلد كالهند، فعلى سبيل المثال ادعى الهندوتوا (المتطرفون الهندوس) أنّ تعاليمهم بفضل جذورها الفريدة متفوقة على الإسلام والمسيحية، وبالتالي فهي أفضل من كافة معطيات الغرب الحديث من العلوم والماركسية والديموقراطية. فكيف إذًا تم تتبع موقف التابع الرافض للعقلانية الأوربية؟ وما علاقة مثل هذا الموقف بالقومية المفرطة ونقد ما بعد الحداثة؟ وكيف أبرز المؤرخون المهتمون بدراسات التابع دور المشاعر الدينية في الحركات القومية بشبه الجزيرة الهندية؟

تلمس المؤرخون في سوداتي “الحركة القومية الاقتصادية في البنغال” التي ناهضت تقسيم البنغال سنة 1905م، على يد بريطانيا، بخلفية دينية بين المسلمين والهندوس، الدور الذي لعبته المشاعر الدينية والخيالية الهندوسية في هذه الحركة السياسية. حيث تم استحضار صورة بنغال كإلهة أم تتطلب التضحية والحب. وفي الوقت نفسه تم اعتبار هذه الحركة اتجاهًا معاكسًا للحداثة باسم التقليد الخالد والماضي المجيد الذي يقوم على إحلال العاطفة والإيمان محل العقل، كما أكد المؤرخ الهندي الشهير سوميت سركار، فهل نحن أمام دين سرمدي بمثابة قومية؟

لقد أثار الخيال السياسي الهندوسي مشاعر الكراهية ضد المسلمين والمسيحيين، وهو أمر أنكره المفكرون اليساريون، الذين حرصوا على صيانة العلمانية الهندية باعتبارها ضرورة تاريخية لتطوير رؤية عقلية. غير أنّ تواريخ التابع انساقت وراء المشاعر ذات التأثير العقدي؛ فتحول الدين إلى وسيلة لتحقيق غايات سياسية في مجتمع زراعي بامتياز، وهو ما يعني ضمنياًّ أنّ المشروع الاستعماري البريطاني فشل على مستوى التعليم، إذ لم يستطع القضاء على اللاعقلاني والخرافي، كما لم يقض على تحمس الهنود لمبادئ عقيدتهم.

ومن جهة أخرى حملت العقلانية العلمية لدى المفكر الهندي اتجاهًا عدائيًّا إزاء الدين وإزاء كل ما قدسته الهندوسية، وهو ما أدى إلى الصدام في بلد تمتزج فيه السياسة بعناصر دينية، حيث تم وضع المثقف العلماني في شبه القارة الهندية في إطار قفص الاتهام، ووسم بالتغريب.

كل الجهود التي بذلها المبشرون في بنغال من خلال المناهج الدراسية اللبرالية والعلمانية التي تم اعتمدها في المدارس فشلت في القضاء على الأوهام والخرافات التي شكلت الهندوسية. وكانت عملية تصنيف المعرفة الغربية باعتبارها معرفة عقلية والهندوسية نقيض ذلك، السبب في رواج نوع من القومية الاستعمارية المفرطة بين المفكرين الهنود الذين بدأوا يحسبون أنفسهم حداثيين بوعي ذاتي. ولذا فمتمثلات الحداثة والتنوير أصبحت ذات حساسية كبرى ومثار جدال وارتباك، بل ساهمت في إفراز عدوانية بين الاتجاه العقلاني والاتجاه العاطفي، وهذا أمر جعل عددًا من المؤرخين العلمانيين يتحدثون عن حداثة ناقصة للغاية بالهند، محملين المسؤولية في ذلك للاستعمار.

لم يكن بالإمكان استدراج المرء إلى الحداثة عن طريق الفرض بالقوة بقدر ما يجب استدراجه عن طريق الإقناع، والعنف هنا كما في الحالة الهندية مثلته إنجلترا التي أرادت فرض العقلانية التنويرية عبر الدولة الحديثة والمؤسسات المصاحبة لها، وهو أمر يتضمن نوعًا من العنف الاستعماري الذي لم يكن بالإمكان الترحيب به. والأمر نفسه يمكن تلمسه في كتابة تاريخ التابع؛ فهؤلاء طمحوا إلى تخطي هذا الموقف، غير أنّهم حين كتبوا تاريخ المهمشين استبطنوا دافعًا خفيًّا، إذ إنّهم رغبوا في تعليم المقموعين في العصر الحاضر الطريقة التي بإمكانهم اعتمادها ليصبحوا ذواتًا ديمواقراطية في الغد، وهذا الخطاب في جوهره إقصائي وغير مجد لأنّه لا يعتمد لغة الحوار.

أما القسم الثاني الموسوم بممارسات الحداثة، والذي يتضمن بدوره ثلاثة بحوث، فيتابع فيه المؤلف الجدالات التي طفت إلى السطح، ومنها خصوصًا الاتهامات التي وجهها الهنود الماركسيون لما بعد الحداثيين، كونهم يمجدون “الشظية في تأريخ التابع” بدل الاهتمام بفكرة الكل أو الشمولية. وهذا في نظرهم أمر يضر بالمصلحة المشتركة وينعش أفكار المتطرفين الهندوس بالخصوص. وقد رد المدافعون عن دراسات التابع بالقول إنّ تشظي المجال العام بالهند تم تحت وطأة الديموقراطية[7]. ولذا فإنّ تاريخ جماعات التابع هو بالضرورة متشظٍّ ومتقطع، إذ لا تجمعه خصائص موحدة.

يتوقف شاكرابارتي عند مثالين بارزين يستحضر فيهما قيم الحداثة الأوربية وبدائلها، وقد اخترنا التوقف على الأنموذج الأول الذي تناول فيه الجسد ومسألة اللباس بالهند خلال مرحلة الاستعمار وما بعدها.

إنّ الزي الغاندوي للرجل السياسي في الهند يعبر عن مدى حضور سياسة الوعي المدني في الشأن العام، ويتضمن بالخصوص تناقضات القيم في الحياة السياسية الهندية بين الأمس والحاضر؛ فإذا كانت أعين الملاحظين تتفق على وجود الديموقراطية التمثيلية والصحافة الحرة ومختلف مظاهر حرية التعبير بالهند، فإنّها أيضًا لا تنكر حجم الفساد الكبير الذي ينخر هذا البلد.

لقد استطاع المؤرخ من خلال توظيف رموز الجسد واللباس الوقوف على هذه الظاهرة؛ فمن المعلوم أنّ ثمة علامة مميزة للرجل السياسي في الهند، إذ إزار القادي الأبيض، وهو القماش القطني الخشن المنسوج منزليًّا، والذي ارتبط بشخصية غاندي، له دلالات رمزية كثيرة؛ فالبياض يرمز إلى الفكرة الهندوسية للنقاء، وخشونته ترمز إلى البساطة والفقر، أي إنّه يمثل قدرة السياسي على نبذ رغد العيش في سبيل التضحية لأجل المصلحة العامة. وقد جمع غاندي كل هذه المعاني، حيث المئزر البسيط الذي كان يرتديه لوقاية جسمه قربه رمزياًّ من الجماهير التي لم يكن يتوفر لها ما يكفي من الكساء. أما اليوم فلباس القادي فقد معانيه الحقيقية وبات ارتداؤه من قبل السياسيين عادةً ونفاقًا اجتماعيًّا واضحًا، كيف ذلك؟

لقد بات لباس القادي الذي وصفه نهرو “ببزة الحرية” ووصفته سوزان بين “بقماش الاستقلال الهندي”، يمثل عكس تعريفه القومي السابق، إذ أصبح يتم الربط بينه وبين تكديس الثروة بطريقة غير مشروعة، حيث يُنظر اليوم إلى السياسيين الكثر الذين يرتدون هذا الزي باعتبارهم أشخاصًا فاسدين، وينظر إلى القادي على أنّه بذلة المحتالين والمنافقين. لقد انتقلت إذن دلالة القادي من معاني “النقاء” و”الزهد” إلى معاني “الفساد” و”اللصوصية”. ويقدم المؤلف تفسيراته لاستمرار ارتداء هذا الزي الطقوسي بين السياسيين بالرغم من انتهاء وظيفته الأصلية.

تكمن المفارقة –حسب شاكربارتي- في اختلاف الظروف؛ فغاندي حقق النجاح في ظل الحكم الاستعماري. ولذا اعتبر المؤلف استمرار ارتداء زي القادي لدى الرجل السياسي الهندي رغبة دفينة في تحقيق حداثة بديلة جعلتها ظروف الحكم الاستعماري ممكنة، وباتت بعد الاستقلال متعذرة التحقيق تحت ظروف الحياة الرأسمالية، ولكنها مازالت تحظى بالرواج على نحو متواصل في إطار الحياة العامة الهندية.

في السياق نفسه تحضر أيضًا استعمالات الجسم لدى غاندي في مواجهته للاستعمار البريطاني، ومن المعلوم أنّ هؤلاء هم أول من ربط بين الجسد والشخصية، ولذا وجب وضع تفهم غاندي للقادي ضمن هذا السياق: الرجل السياسي الهندي؛ فالحداثة الاستعمارية ارتبطت بالهيمنة عن طريق استعمال القوة المفرطة. ولذا فتوظيف البريطانيين للجسد انبنى على التفوق الجسماني العنصري، إذ ربطوا بينه وبين قوة الشخصية وسلامة طويتها، وعلى العكس تمامًا من ذلك تم تصوير الحكام والنواب والسياسيين الهنود كأشخاص مرتشين ومتهتكين وفاسدين، وبذلك تم تفسير هزائمهم على أيدي البريطانيين.

لقد صار توظيف التفوق الجسماني الأوربي في مواجهة الهندي المحلي ممارسة سلطوية في الحياة العامة الهندية، ومنه جاءت فكرة إقصاء الهنود الضعفاء من الفضاءات العامة التي يرتادها الأوربيون البيض.

ما الذي جعل الأوربيين أقوياء إذن؟ وما التفسيرات التي تم تقديمها؟

لقد ناقش غاندي فهم الرجل العامي الذي ربط بين قوة الأوربيين وأكلهم اللحوم[8]، وأعطى من نفسه المثل المختلف تمامًا؛ فقد استطاع فصل مسألة الشخصية لا عن الجسد فحسب وإنّما من مسألة القوة الجسمانية كما روج لها الاستعمار البريطاني وعدد من القوميين الهنود. وهذا بالضبط ما منح جسم غاندي السياسي قوته الرمزية الخاصة.

عرج المؤلف على الكتابات التي عالجت موضوع الجنسانية عند غاندي بين الهوس والهاجس، وتوقف على بعض المواقف التي نسبت إليه، دون أن يحكم على مدى صحتها لتعارضها الكبير. غير أنّه توقف مليًّا عند ما سماه البديل للحداثة في التمثيل الغاندوي للجسد، والتي مثل بعضها آنذاك لباس القادي كرمز مكثف في الحياة العامة.

من المعلوم أنّ غاندي هو القائد الهندي البارز الوحيد الذي ألف سيرة ذاتية اعترافية، وهو في ذلك ينحو منحى أوغسطين وروسو، غير أنّ هناك فرقًا مثيرًا سجله المؤلف بين سيرة اعترافية مسيحية كما عند أوغسطين والسيرة الذاتية لغاندي؛ فالاعترافات لدى القديس المسيحي عبارة عن سرد الذات لدى ذات أسمى، هو الإله المطلع على الأشياء كلها، بينما اعترافات غاندي لا تقع ضمن هذا المجال؛ إذ الله ليس المخاطب في سيرته الذاتية كما عبر عن ذلك. وبهذا استطاع غاندي أن يحطم الفارق بين الخاص والعام الذي يتوقف عليه الجانب النظري للترتيبات السياسية للحداثة الغربية. وهو أمر يساعدنا على تحديد الفارق بين الحداثة الأوربية المسيحية وبعض بدائلها؛ فغاندي يشترك مثلاً مع حداثة الأوربي في الاهتمام بالصحة العامة وحرية التعبير والوعي المدني، ولكنه لا يحقق شرط الباطنية الذي يحدثه ويضمنه خطاب الحقوق لمواطن الدولة الحديثة.

فيما تبقى من مضامين الكتاب، نلاحظ انتقال العنوان الفرعي الرئيسي للكتاب من مقالات في صحوة دراسات التابع إلى مقالات في أعقاب دراسات التابع، وهي في حاجة إلى دراسة مستقلة ومن أهم محاورها: الجذور الحكومية للعرقية الحديثة، وهو الجزء الثالث من الفصل الثاني. قبل أن يتابع شاكرابارتي بتدقيق، وبالنفس نفسه، في الفصل الثالث الموسوم بـ “الخلقي واللاإنساني”. ودون الخروج عن التصميم الثلاثي السابق معضلات الحداثة وتعقيداتها في الهند انطلاقًا من منظور تأمل الذات. وأول البحوث استكناه للعلاقة بين القانون والسرد في هيكلة الرغبات السياسية الحديثة، ويتعلق البحثان المتبقيان بالأساس بالنقاشات التي تجري اليوم في الهند حول خطورة التقسيم، من خلال استعراض ذكريات من العنف العام والسياسة التي رافقته حين اكتسح الهند البريطانية وقت تقسيمها بين دولتين قوميتين هما الهند وباكستان سنة 1947.

خلاصة: إنّ أبحاث دراسات التابع هي مجموعة مختلفة من الأفكار النظرية، وكان منبتها حسب عالم الاجتماع فيفيك تشيبر الأدب والدراسات الثقافية، قبل أن يمتد تأثيرها إلى مجالات إضافية كالتاريخ والأنثروبولوجيا، ولقد انتشر تأثيرها هذا بسبب تأثيرات مفهوم النظرية الثقافية منذ ثمانينات القرن الماضي.

انصب اهتمام دراسات التابع على الهند وبعض أجزاء العالم الثالث، الأمر الذي منحها قدرًا كبيرًا من المشروعية والمصداقية، فإلى جانب أنّها تشكل نقدًا للماركسية، فإنّها تطرح في الوقت نفسه طريقًا جديدًا يفسر عالم الجنوب بطريقة تنفي فكرة نجاح تعميم النظام الرأسمالي، وتعطي الأهمية للأدوار المحلية.

تقدم دراسات التابع تفسيرات مختلفة لأسباب إعاقة انتشار النظام الرأسمالي وتعميمه في المجتمعات الشرقية، وتقدم ادعاءات تبين من خلالها اختلاف حداثة الشرق عن حداثة الغرب، ويمثل عمل شاكرابارتي مواطن الحداثة، على وجه الخصوص، جزءًا من هذه الرؤية.

لقد أثار كتاب مواطن الحداثة، بما احتواه من أفكار الكثير من النقاش، وعلى سبيل المثال أصدر فيفيك تشيبر كتاباً بعنوان “النظرية ما بعد كولونيالية وشبح الرأسمال” سنة 2013، وقد خصّه لنقد دراسات التابع، ومن خلاله أوضح أنّ أعمال “ديبيش شاكرابارتي” مثلها مثل أعمال “راناهيت جوها” تُظهر ضيق أفق القيادة القومية وإخلاصها لمصالح النخبة. لكن الإشكالية ليست هنا فقط، بل في التشخيص ذاته، ذلك أنّ خطاب شاكرابارتي وإن كان مزخرفًا بالنقد الجذري العميق، إلا أنّه في واقع الأمر خطاب محافظ جدًّا، ذلك لأنّه يحدد مصدر العلم والموضوعية والعقلانية في الغرب، وعندما يقوم بهذا فإنّه يصف الشرق بشكل مشابه لما فعلته الأيديولوجيا الاستعمارية[9].

مسرد المراجع والإحالات

– خالد طحطح، البيوغرافيا والتاريخ، دار توبقال، 2014

– خالد طحطح، “حداثة ما بعد الاستعمار، في انبعاث دراسة المهمش”، مجلة الدوحة، قطر، العدد 94، اغسطس 2015

– ديبيش شاكرابراتي، مواطن الحداثة، مقالات في صحوة دراسات التابع، تقديم هومي ك، بابا، ترجمة مجيب الرحمان، مراجعة سعيد الغانمي، دار مشروع كلمة، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، الطبعة الأولى، 2011

– راناجيت جوها: “الجوانب المبدئية لتمرد الفلاحين في الهند تحت الحكم الكولونيالي” الصادر سنة 1983

– الموقع الإلكتروني: http://al-manshour.org/node/6400

[1] ديبيش شاكرابراتي، مواطن الحداثة، مقالات في صحوة دراسات التابع، تقديم هومي ك، بابا، ترجمة مجيب الرحمان، مراجعة سعيد الغانمي، دار مشروع كلمة، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، الطبعة الأولى، 2011

[2] هومي بابا: أكاديمي هندي، وأستاذ الأدب الأميركي والبريطاني في جامعة هارفرد، حيث يرأس بها مركز الدراسات الإنسانية. برز اسمه هومي بابا من خلال طرحه مفهوم “التهجين” لتفسير نشوء أشكال ثقافية جديدة في عالم التعدد الثقافي. أبرز أعماله: أمم ومرويات (1990) – موقع الثقافة (1994) – حول الخيار الثقافي (2000) – حياة جامدة (2004)

[3] راجع بشأن التاريخ من أسفل: خالد طحطح، البيوغرافيا والتاريخ، دار توبقال، 2014

[4] راناجيت جوها: أحد رواد مدرسة دراسات التابع، والأب المؤسس لها. قام بوضع أسس هذا المجال من خلال مقالاته التي نشرت في دورية “دراسات التابع”، وفيما بعد في كتابه: “الجوانب المبدئية لتمرد الفلاحين في الهند تحت الحكم الكولونيالي” الصادر سنة 1983

[5] غاياتري سبيفاك: باحثة وناقدة أدبية هندية، تزاول التدريس في جامعة كولومبيا الأميركية. تصنف نفسها على أنّها “ماركسية نسوية تفكيكية عملية” وشكلت مقالتها “هل يمكن للتابع أن يتكلم؟” محطة مهمة في خطاب ما بعد الكولونيالية بشكل عام ودراسات التابع بشكل خاص. ومن أبرز مؤلفاتها: في عوالم أخرى: مقالات في السياسية الثقافية (1987)، دراسات مختارة عن التابع (1988)، ناقد ما بعد الكولونيالية (1990) – نقد العقل ما بعد الكولونيالي (1999)

[6] خالد طحطح، “حداثة ما بعد الاستعمار، في انبعاث دراسة المهمش”، مجلة الدوحة، قطر، العدد 94، أغسطس 2015، ص 43

[7] على العكس مما قيل فإنّ دراسات التابع كانت مشروعًا ديموقراطيًّا يرمي إلى إنتاج جينالوجيا أو علم نسب للفلاح بوصفه مواطناً في إطار الحداثة السياسية المعاصرة، وهو أمر مثل تحديًا كبيرًا بالنظر إلى العوائق الكثيرة التي تقف في وجه علمنة المجتمع الهندي أنظر: ديبيش شاكرابراتي، مواطن الحداثة، مقالات في صحوة دراسات التابع، ترجمة مجيب الرحمان، دار مشروع كلمة سنة 2011، ص 68

[8] من المعلوم أنّ الهنود الهندوس الذين يشكلون غالبية الساكنة بهذا البلد يحرمون أكل اللحوم وبالخصوص اللحم البقري.

[9] كيف يتكلم التابع؟.. مقابلة مع أستاذ العلوم الاجتماعية فيفيك تشيبر Vivek Chibber، المجلة الألكترونية المنشور، المنتدى الاشتراكي، والمقابلة أجرتها الدورية اليسارية الامريكية “Jacobin” في عدد نيسان 2013، أنظرها كاملة على الرابط:

 

صدر عن دار مشروع كلمة، سنة 2011، كتاب بعنوان مواطن الحداثة: مقالات في صحوة دراسات التَّابع، في 334 صفحة، لصاحبه شاكرابارتي ديبيش، ترجمه عن اللغة الإنجليزية مجيب الرحمان وراجعه سعيد الغانمي[1]، والكتاب في لغته الأصلية صادر عن جامعة شيغاغو، (Chakrabarty Dipesh, Habitations of Modernity: Essays in the Wake of Subaltern Studies. (Chicago, University of Chicago Press, 2002. 173pp).

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى