خولة دنياصفحات مميزة

موتنا الملون في زمنهم الأسود/ خولة دنيا

يا لهشاشتنا! نعتقد ذلك نحن النسوة ونكابر في التعبير عن تمسكنا بالقدرة على الحياة أكثر من الرجال، نحاول أن نحافظ على خصوصيتنا بينما نغوص أكثر في التيه السوري اللعين. نستمر بالإيمان بأننا الأكثر قدرة على خلق الحياة من العدم.

الحبُّ نتخيله ملوناً عموماً يحتاج لشمس كردية صفراء، ورايةِ استقلالٍ خضراء، وبعض النجوم الملونة بالأحمر.

ولكن لا تلبث أن تظهر من العدم راياتٌ بالأبيض والأسود، كتلفزيونٍ صدءٍ يعيد بثَّ نفسه، مع تشويش كامل الصورة. نتخيل القبيلة سوداء وبيضاء، رجالٌ برداءٍ أبيض مع مسحة قدسية، خلفاءٌ سودٌ بخفٍ أبيض في القدمين، لا يشبهون أبداً تلك الصور التي يرسمها الفنانون الإيرانيون في منمنماتهم الخضراء المباركة باللحى السوداء المشذبة.

ندرك أنه لن يكون اليوم سهلاً ولا ما سبقه، كما لن يكون كذلك يوم غدٍ وما سيليه. ندركه بغصة من فقدت وليدها فور الولادة، لكنها لم إيمانها بأنه عصفورٌ في الجنّة.

***

في الحارة البيروتية الصغيرة، الأرمن يبدون ملجأً مناسباً لنا، نحن الهاربات من الموت. لا سؤال عن ماذا وكيف، لا إشارات تعجب واستغراب. هو نزوحٌ يعرفونه، وطنٌ بديلٌ لا يملكونه، يمنحونه لنا بكل رحابة صدر. أستغرب مما تبقى في ذاكرتي عن مجازر الأرمن، صورٌ مغبرة بالأبيض والأسود، صورٌ لمن تبقى من آباء وأجداد هؤلاء الذين يحتضوننا اليوم. صورٌ ليس فيها وجوه القَتَلة، ولا سكاكين الموت، ولا صرخات المغتصبات. صورٌ فقط لنزوح بالأبيض والأسود، حتى أظن أحياناُ أن مجازرهم كانت كذلك بيضاء وسوداء، ليست ملونة كمجازرنا. نحن فقط موتى تكنولوجيون، مواكبون للعصر، نملك رفاهية توثيق موتنا بألوانه الحقيقية، كما نملك رفاهية معرفة وجوه القَتلة وصرخات المعذبين منّا. دماؤنا حمراء عند الموت، جلودنا سوداء وزرقاء من التعذيب والتهشيم، أجسادنا فارهة في فخامة التقاط تفاصيل التفاصيل.

هتلر يظهر غامقاً بالأسود والأبيض، وكذلك كامل الأربعين مليون ضحايا الحرب العالمية الثانية، لا يتجاوزون موتهم الكامد. وعلينا أن نبحث جيداً في الأجساد الشاحبة عن أسباب الموت، لنجعل الصور مقاربةً تاريخية لمجزرة نعيشها ولم نكن نعرف لها شبيهاً.

***

الرجال ليسوا مثلنا، قالت لي، هم لا يستطيعون إعلان الهشاشة مثلنا، ولا رفع راياتهم.. غير مسموح سوى بالأسود في جحيمهم. حتى الأخضر تم سحبه من الأسواق، بعد أن علمَ النظام بأطول علمٍ للثورة، فبدأ باستيراد الأسود مكانه، لصالح ملاعين الهجرة العارفين بالنفط الأسود. الأسود ما يثير العالم، ما يستقطب العالم، أعلم الآن كل شيء كل شيء عن جماليات الأسود لدى قراصنة الحياة، وتجار العدم.

كيف سأوقف دموعي النازفة، قبل النوم؟ قلت لها. لم يكن ثمة جواب، فقط صمت لا يشفي غليلي. أعلم أن نساءنا يحاولن ما يستطعن لإيقاف المجزرة، مجازرنا الكامدة الملونة. أعلم أننا سنكون بذار مئات السنين القادمة في الغربة، أحلافاً جديدة لأحقادٍ مستمرة بالنهوض.

تبرز هشاشتنا كراية بيضاء رفعناها فوق أعيينا النازفة دمعاً، وأرضنا النازفة دماً. كيف كان عيد الحب في جنيف؟ هل وزعوا الحلوى؟ هل تقمص الإبراهيمي دور القديس فالنتاين، ووزع قلوباً سوريةً صغيرة، على الحاضرين مع ابتسامة: أحبوا بعضكم بعضاً؟

هشةٌ أنا، كما كل النساء الكامدات المنتظرات، لكن ككلهن أيضاً، أحمل عبء الحياة، واستمرار الحياة، وخلق الحياة.

كما تلك المرأة التي قالت، لدينا نساء ترميهن على النار، فيأتين واقفات. لكن أتباع الأسود لن يسمحوا لهن بأن يكن هنَّ. نفس أتباع الأسود أولاء أصحاب الكلاشينكوف الذي يشتروه بالدينار، ويقتلون به أحلامنا وأحلام رجالنا وأولادنا.

هو العارُ المتطرف في كل مكان يوثق موتنا الملون، ويعلن حقبتهُ سوداء.

موقع روزنة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى