صفحات الثقافةلقمان ديركي

موتى على قيد الحياة/ لقمان ديركي

 موتوا جيداً. لا تتركوا الآثار. دعوا من سيتبقى منكم في سلام من الذكرى. موتوا جيداً، ولا تتركوا صورة أخيرة لحياتكم، ولا صورة أولى لموتكم، لا تتركوا تلك النظرات التي تتأمل العدم برضا قبل الالتحاق به. لا تتركوا تلك اللحظة الأخيرة لكم في الحياة بيننا، خذوها معكم، كونوا مثاليين في العدم، كونوا لائقين به، كما كنتم لائقين بالحياة، ادخلوا إلى محرابه النظيف الطاهر العقيم كما لو أنكم جزء عتيق منه.

خذوا صرختكم الأخيرة معكم أيضاً، فلا حاجة لنا بها، لا حاجة لرؤوسنا المهلوسة بذلك الاحتجاج، فالعالم نائم، ونحن نريد النوم دونما أحلام، والاستيقاظ مندهشين كما لو أننا لم نكن أحياء البارحة. خذوا أحلامكم معكم، فهي لن تتحقق على أية حال، كما أننا لسنا جديرين ولو بمحاولة تحقيقها. نحن موتى مثلكم، لكننا موتى على قيد الحياة، لسنا مستعجلين مثلكم، فما زالت لدينا هنا بعض الملذات، لذة التدرب على الموت، لذة تلقي الضربات على الجسد الذي فارقتموه، وعلى الروح التي تمدنا بحلاوة البقاء على قيد الحياة. خذوا أرواحكم معكم أيضاً، لا تتركوها حائمة فوق رؤوسنا المتصدعة، لا يليق بها أن تهيم هكذا في الفضاء، نحن مجرد مواد تملأ هذا الفراغ، خذوا الفراغ معكم أيضاً، لا حاجة لنا به أيضاً، ما الفائدة من الفراغ إذا لم نملأه؟ نحن لا يمكننا سد أي فراغ، نحن فراغ أيضاً ننتظر من يملأنا، ننتظر على الطرقات، على المفارق، في المحطات وعلى أرصفة الموانئ، ننام ولا يوقظنا صفير السفن، ولا هدير القطارات.

ننام كما يفعل العالم، نتشبه به، لا نريد أن نكون نحنُ، نريد أن نكون هم، ونراهم، وهم.. لا يروننا، نحن لا شيء، نحن مجرد فراغ، نتلامس فينتج عنا نباح احتكاك الفراغ بالفراغ.

 وصلنا إلى العدم قبلكم بكثير، منذ اللحظة التي قررنا فيها أن نبقى على قيد الحياة، ويا لهذا الانتماء. فخذوا سجلاتكم معكم أيضاً، كي لا نتباهى بموتكم دون خجل أو حياء، هذا القتيل أخي وذاك، خذوا قيود نفوسكم معكم، فلا حاجة لنا بدموع التذكر وصدمة الوداع.

خذوا أيضاً الجينات، لا نريد أن نراكم قادمين على هيئة مولودين من جديد، لا نريد بعد أعوام مواجهة ذلك الارتباك الغامض، لا نريد أي نوع من أنواع الإشارات، أنتم لم تكونوا في يوم من الأيام، فلا تتركوا شيئاً لنا، لأننا لن نستخدمه إلا ضد ما كنتم به تحلمون، وما كنتم إليه تصبون. فنحن مغرورون بالحياة، من شحاذنا، إلى مولانا، لكن أمام من سنتباهى سواكم، فلا تتركوا لنا هذا أيضاً، لا تتركوا لنا أن نفخر بوجودنا أمام صوركم. لا تتركوا لنا مذلة الترحم عليكم أمام الله أو معزَّة الأخذ بثأركم أمام البشر. نحن لا نستحق هذا النوع أيضاً من متع الحياة، موتوا جيداً، ادخلوا إلى العدم وكامل موتكم ملككم، لا تفرطوا به، فموتكم كنز لا يستحقه الأحياء.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى