صفحات الثقافة

موت شاعر العروبة الكبير سليمان العيسى .. كحّل عينينه بسقوط الطغاة ورحل؟/ بول شاوول

رحل الشاعر السوري الكبير سليمان العيسى وحده. ككل الشعراء ذوي القضايا، والرسالة، والأحلام. رحل وتدهم سوريا، وطنه، حروب وشهداء وخراب وحطام مدن وتدمير أحياء، وخسائر بشرية تتجاوز المئة ألف! رحل حاملاً معه حلم العروبة، والوحدة، والعدالة، وآمال التحرير التي رفع شعارها حزب البعث في النصف الأول من القرن الماضي قبل أن يصادره “ثُوار” الشعارات، وقناصي الأفكار… قبل أن يخرّبه “طغاة” حولوا هذا الحزب العروبي الجماهيري الى سلطة “حزب” واحد (لم يعد موجوداً) فإلى سلطة مذهبية، فإلى أجندة مذهبية! عرفت جيداً الشاعر سليمان العيسى، وقد قابلته في اليمن قبل 20 عاماً، حيث ألقى قصائد نضالية، مفعمة بتلك النبرات الوطنية، الشعبية، التي لم يبقِ منها شيء حزب البعث (السوري) ونظيره في الجرائم وفي العائلية حزب البعث (العراقي). الأول بقيادة آل الأسد والثاني بقيادة آل صدام. والإثنان عادا بالويلات والهزائم والخراب والدمار والموت والمجازر والقمع والقتل… على شعبيهما (أو شعبهما العربي الواحد كما بقي يصرخ سليمان العيسى).

رحل في الثانية والتسعين. أف! نصف عمره قضاه يحلم. والآخر قضاه ممنوعاً من الحلم. نصف عمره يهتف على المنابر بقصائد الوحدة العربية والتحرير… والرسالة الواحدة… والنصف الآخر من عمره أمضاه يغص بالدمع الداخلي. ومع الشرايين. ومع العروق. ومع القلوب. دم من بات ممنوعاً حتى الدمع عليه. شاعر العروبة. نعم! عروبة غير مذهبية. غير عشائرية. غير مستبدة. غير استبدادية. أبعد من هيمنة الحزب الواحد. وأبعد من الشخصنة. إنه من الجيل الذين حلموا كثيراً، وخابوا كثيراً. فالبعث الذي كان يراوده، صار كابوساً على الأمة العربية. لم يعد لا بعثاً، ولا قيامة، ولا انبعاثاً: صار الموت المعلن، بأيدي من خنقوه، ودمروا أفكاره، ومنحاه العروبي، وأحرقوا كل ما حواليه يحاوره من الأحزاب: من الليبرالية، الى اليسار، الى الحزب الشيوعي، الى اليمين… أشعلوا النار في الحرية فتحولت الأفكار رماداً وحرائق!

لكن في الوقت نفسه، هذا العروبي الشاهق، عاش أيضاً ليشهد على كل ما تمنته الأمة وخسرته، وكل ما عانته من إرهاب أنظمة الطغاة (العروبة!) من سوريا (الأسد)، الى العراق (صدام حسين)، وليبيا (القذافي)، ومصر (بعد عبدالناصر الكبير) مع السادات ومبارك، وصولاً الى اليمن (علي بن صالح)… عاش، وهو يرى بعينيه وبكلماته (والكلمات أبصار أيضاً) تساقط هذه الجبال من الأفكار. لا شيء. لا شيء سوى الجنون. سوى الهزيمة. ونظن أن أشد ما ألم الشاعر العروبي، رؤيته كيف كبُرت إسرائيل وتوسعت واستوطنت وانتصرت… وسادت في ظل هؤلاء الذين رفعوا شعار مقاومة العدو واسترجاع الأرض السليبة، كغطاء لقمع شعوبهم وتكريس استبدادهم، وتدمير الإرادات الشعبية وتخريب المجتمعات. أف! فالشاعر قلب أيضاً. وعقل. وفكر. فما بالك إذا كان سليمان العيسى، المناضل الشريف، غير المرتزق، غير المأجور، غير المرتهن لا بنظامه الفاشي، ولا بأي أنظمة أخرى، لقد رافق هذا البيان العروبي في قمته وتابعه في مساره التنازلي حتى العدم. فيا لجروحه! ويا لحسرته، ويا لذلك الأسف الذي يُخجل الفجر. وكل ضوء. وكل فصل. وكل زمن، يتساءل. وتساءل. وربما في أرماقه الأخيرة: ماذا تبقى لي. سوريا في نهايتها؟ أتقسم بعدما حلم “الوحدة”. أتخون عروبتها لتصبح مستوطنة إيرانية. فارسية! يلتفت حوله “وأين عروبتها”؟ سوريا بلا إسم؟ بلا هويتها. بلا تاريخ. مجموعة عقارات مذهبية!

لكن مع هذا، فقد عاش سليمان العيسى “الحلم” الأخير. “البعث” الحقيقي. الثورة الحقيقية. نعم! عاش فجر تاريخ عربي جديد: توحد الشعب العربي ضد الطغاة. وللمرة الأولى يتواصل تواصلاً جوانياً، وتاريخياً، وجماهيرياً ببعضه. ها هي الثورة المصرية الشبابية تندلع، وتؤيد مثيلتها في تونس، وكذلك في اليمن، وسوريا… وليبيا. نعم! هناك “عروبة” جديدة تقوم على أنقاض أنظمة كفروا بها، وشوهوها، وقتلوها… نعم! سليمان العيسى عرف المرحلة الذهبية للحلم العربي، ثم المرحلة الجهنمية، ولكن أيضاً… هذا الزمن الجديد. لقد كحل قلبه وعينيه بسقوط نظام بن علي، وحكم مبارك، وديكتاتورية القذافي، وجنون علي صالح… وكذلك تضعضع نظام الأسد. الكلفة كبيرة؟ نعم! الخسائر باهظة؟ نعم! أكثر من مئة ألف قتيل؟ نعم! أكثر من ثمانية آلاف طفل؟ نعم! حمص دمرت؟ نعم! وكذلك حماة وحلب، ودير الزور… وريف دمشق؟ نعم! مرتزقة إيران من حزب الله (غير اللبناني) يحتلون قرى؟ نعم! ولكن، ولأن سليمان العيسى، ذو خبرة، وعلم، وتجارب، عرف أن ثمن الحرية باهظ. وأن النظام الذي حكم باسم “حزب الله” ليلغيه قد أشرف على نهاياته!

نعم! أكيد… رأى سليمان العيسى هذه الملايين في شوارع تونس، ومصر، وسوريا… صحيح أنه شهد 30 مليون مصري ينزلون الى الميادين في أكبر تظاهرة عرفها العالم. هذا صحيح. وربما قال الحمد لله أني كحلت عيني بمرأى الجماهير التي تحطم المحرمات الحزبية، وجدران الخوف، وتنتقل من موقع ممن يخشى بطش الأنظمة، الى موقع من يُرعب هذه الأنظمة الجبانة. ومع هذا فهو يعلم جيداً أن درب الثورات الشعبية، الديموقراطية طويل وشاق… وأنها تعيش اليوم مراحل اختباراتها الجديدة، وأزمنتها الانتقالية… على الأرض، ولهذا، تحركت في حرائره، تلك البهجات الملموسة. تلك الغبطات الوجودية التي تحسسها بعينيه عندما يرى هؤلاء الشباب يقاومون بصدورهم آلة الطغيان والقتل بالطيران، والسكود، والدبابات، والبراميل المتفجرة، والصواريخ البالسيتية… ويتقدمون، وينتصرون، على الرغم من تآمر العالم عليهم وخصوصاً أميركا بقيادة هذا الحكواتي الثرثار أوباما!

ونظن أن أكثر ما أفرح سليمان العيسى، هو هذا الشعور بالافتخار. ويحق له الافتخار، لأنه الى جانب ما أحسه من طعم الخيبة، فقد كان في شعره، حالماً، نعم! حتى في لحظاته الأخيرة، لم يعرف “اليأس” ولا الإحباط، ولا الخذلان. بقي على آماله في الشعر. وهذا منحه راحة نفسية، لأن ما قاله في الشعر عن “انبعاث” هذه الآلة، قد تحقق. تحقق “نبؤاته”… وكأنها اكتشاف لما أتته الجماهير العربية!

فشعره سبيله، تاريخه الخاص. والعمومي. والسوري. والعربي. التزم التزاماً حياً. غير مقنن. وكانت قصائده على امتداد أكثر من سبعة عقود “ديوان” النهضة العربية. ديوان التاريخ العربي الحديث. لم يغادر القصيدة الكلاسيكية ذات النبرة العالية. الغنائية. التحريضية. الخطابية. النشيدية، التي تجمع بكيميائية رائعة الشفوي والكتاب، والقريب، والرمزي، والمباشر والمجازي، والبليغ والبسيط. وهي كلها من أدوات القصيدة الشعبية (لا الشعبوية، ولا المتنازلة ولا المتحلقة). لكنه مع هذا احتفظ لنفسه بمكانة خاصة، أكثر انخراطاً في الحداثة الكلاسيكية من حافظ ابراهيم، أو أحمد شوقي، أو البارودي أو حتى بدوي الجبل، ومحمد نديم… والجواهري. نكهة حسية قريبة، تجاور التجارب اللبنانية السورية، ولهذا، ومن فرط إعجابه بشعر سعيد عقل قال أن العرب لا ينجبون مثل سعيد عقل إلاّ كل مئتي سنة! ونظن أنه أبدع في سلوكه درب الأطفال. فكتب قصصاً، وقصائد، ومسرحيات للأطفال، تعتبر من أرقى وأجمل ما كتب في هذا المجال، وقد يكون ذهابه الى الطفل العربي، جزءاً من حلم التغيير بالشعر.

جزءاً من بناء مخيلة حرة للأطفال بعدما قولبت أنظمة الطغاة المخيلات والعقول والنفوس والأجسام. رحل سليمان العيسى عن 92 عاماً، محملاً بكل آلام الشعب العربي، وآماله، وانكساراته وهزائم (حكامه)، وذلّه، ومهانته… ولكن أيضاً، لا بد أنه في رحلته الأخيرة حمل الشعاع الأول من الفجر الجديد. استعاد وبفخر… كبير حلمه العربي الكبير الذي بزغ، اليوم، وانبثق من شموس عربية عدة… على أنقاض من أسكنوه الجحيم والموت والخراب!

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى