صفحات الرأيعمر قدور

موت مغنّية الزمن الجميل في الزمن الأردأ/ عمر قدور

 

 

توفيت شادية التي كانت قد اعتزلت الفن نهائياً قبل ثلاثة عقود، وفي رصيدها حوالى 112 فيلماً سينمائياً ومئات الأغاني. ربما يجدر بنا التوقف ملياً عند هذه الأرقام. استهلت شادية مشوارها الفني عام 1947، وكانت في عامها السابع عشر. في عام ولادتها، 1931، قامت أم كلثوم بأول رحلة غنائية إلى «بلاد الشام»، وربما بأول رحلة غنائية خارج مصر. حينها، في حضور الآلاف، أحيت ثلاث حفلات في بيروت وعاليه، وبسبب نجاحها الساحق أُضيف إلى برنامجها حفلتان إضافيتان في دمشق، ثم أحيت في حلب ثلاث حفلات، شهد كل منها حضور ما يزيد على ثلاثة آلاف. جدير بالذكر أن جمعية «الهداية الإسلامية» وزعت منشورات في دمشق تدعو إلى مقاطعة الحفلات، وأن فرقة «الكشافة الإسلامية» كانت في استقبالها عندما وصلت إلى حيفا لإحياء حفلتين هناك. أيضاً، الأرقام تتحدث إذا ما أنصتنا إليها.

بعض ما تقوله الأرقام أن شادية، في رحلة فنية قصيرة نسبياً بسبب اعتزالها المبكر، شاركت في عدد ضخم من الأفلام، بينما أنتجت «هوليود الشرق» في عام 2014 على سبيل المثال 33 فيلماً فقط. يُذكر أن مصر شهدت تأسيس مدينة ضخمة للإنتاج السينمائي قبل عقدين من الآن. وما تقوله أيضاً أن أم كلثوم أحيت خمس حفلات في دمشق، حضر الأخيرة منها خمسة آلاف، وإذا كنا لا نملك إحصائيات عن نسبتهم لعدد السكان فتكفي الإشارة إلى أن عدد سكان دمشق بلغ في منتصف القرن الماضي 300 ألف، ووقت إقامة الحفلات كان حي الشعلان (الذي يُعدّ وسط المدينة الآن) ينشأ للتو كحي «كوزموبوليتي». وقد يكون مفيداً الاستدراك بأن الحاضرين كما في كل وقــت هم نسبة من الراغبين في الحضور، حتى بعد استثناء الفئة غير القادرة على الدفع. عن الانفتاح الكوزموبوليتي، يُفترض أنها كانت مفهومة في تلك المرحلة الأغنية الحلبية التي يقول مطلعها: وحياة عيني ما أميل للغير، وأنا كلامي بارول دونير parole d’honneur، أي «كلام شرف» بالفرنسية، وهي أغنية بقيت رائجة بعد مجيء البعث لكن من دون فهم الشطر الثاني حتى من قبل بعض المؤدِّين!

لا يلزمنا أن نسرح طويلاً في لعبة الأرقام والوقائع للمقارنة بين مصر التي كانت قبلة فنية قبل عقود ومصر الآن، لكن قد تتوجب الإشارة إلى ذاك الدور التنافسي المحفّز الذي لعبه المركز المصري، ففي الوقت ذاته كان الإعلام والموسيقى والسينما في أفضل حالاتها في دول أخرى مثل سورية ولبنان والعراق. يمكن الجزم بأن الفنون والآداب كانت حينها تعيش زمنها الجميل، حتى إذا رافق ذلك الكمّ الضخم نسبياً من الإنتاج سذاجة هنا ورداءة هناك. وعلى رغم ضعف وسائل التواصل وتكلفته الأعلى، كان التعاون الفني بين هذه المراكز في أوجه.

وكي لا نقع تماماً في فخ «الزمن الجميل»، كان أيضاً ينطوي في داخله على شبكة من علاقات القوة والتراتبية. فالستّ هي الستّ، أو سيدة الغناء العربي تفصيحاً. وسيدة الشاشة هي سيدة الشاشة بلا منازع، ولأخريات عُرفن أكثر منها بتعدد نوعية الأدوار جوائز ترضية كـ «دلوعة الشاشة» أو «سندريلا الشاشة». في الأدب أيضاً، هناك سلطة معنوية للقب «أمير الشعراء» الذي أُسبغ على أحمد شوقي، لكنها تترك مساحة لينال حافظ إبراهيم لقب «شاعر النيل»، وبشارة الخوري لقب «الأخطل الصغير» على رغم انتفاء القرابة الأدبية بينه وبين الأخطل واقتصارها على منبتهما المسيحي. وفي استمرار لتقاليد التنافس القديم، قد لا يخلو من الدلالة أن آخر معركة فنية كبرى حدثت لمناسبة النجاح الكبير الذي حازته موجة «الأغنية الشعبية» في الستينات، وأجبرت مغنّي الطرب المديني الحديث على الانصياع لها، ومن ضمنهم عبد الحليم حافظ الذي غنى وقتها «التوبة» و «على حسب وداد قلبي» و «ياهلي ياهلي»، وليُسحب البساط شعبياً من نجوم الموجة الأصليين كمحمد رشدي.

في السبعينات، كان كل ما سبق قد انقضى عملياً وأصبح من الزمن الجميل. لا لأن هذا العقد سيشهد مـــوت العديد من أركانه، وإنما لأن التحولات التي بدأت أسبق من ذلك قد أثمرت. للمفارقة، زاد عدد المعاهد الفنية وطلابها، بينما تراجع الإنتاج السينمائي والغنــــائي. تقدمت الخدمات الطباعية، ووسائل إيصال المطبوعات بسرعة، وانحدر بسرعة أكبر مؤشر الحريات. تضخمت المدن على نحــو غير مسبوق، وعلى نحو غير مسبوق تعمدت السلطات الجديدة تدمير ما هو حضري ومديني، مع الإيهام بتمكين الأرياف.

والقائمة تطول إذا شئنا تقصي التردي الشامل للعقود الستة الأخيرة، وما يُثقل التردي أن القدرة على المعرفة صارت أكبر، وصارت معممة أكثر من قبل. ليس الآن، بل قبل ثلاثــة عقود على الأقل، صار متاحاً تقديم نقـــد معرفي عميق للزمن الجميل والتالي عليه. في الواقع، ربما صرنا واعين أكثر لسذاجة الزمن الجميل وأكاذيبه وبذاءة الزمن الذي تلاه. تجاوز الواقع تلك السذاجة العاطفية المتعددة المستويات، بما فيها المستوى السياسي، إلا أن النضج المفترض ظهر عقيماً أو عاجزاً، فلم يجلب زمنه الجميل الخاص.

لن يكون صعباً الاستدلال بأن لا معرفة تعوّض فقدان الحريات العامة، فالأخيرة هي شرط الإنتاج بمعناه الاجتماعي والإنساني، ومن دونها لا يكون الإبداع فعلاً خاصاً وعاماً في آن. على صعيد متصل، ما يميز المدينة الحديثة عن الحواضر القديمة، وإن كانت استئنافاً لها، ارتكاز الأولى على مفهوم الفضاء العام الذي تتحقق فيه حرية الإنتاج والتنافس في السياسة والاقتصاد والفنون والآداب. من ثم يمكن الحديث عن مدينة تفيض عما عداها، فلا تقتصر ميزاتها عليها وحدها. هنا وجه جديد لفعل سلطات الاحتكار المطلق، فهي ليست مضادة للمدينة بسبب منابت ريفية لسدنتها وإنما أيضاً لأن الاحتكار المطلق الذي مارستْه منافٍ لمفهوم المدينة.

ولئن كان امتداح الزمن الجميل يُبرز أصولية أخرى، يقويها متخيّلنا عنه، فهذا أدعى إلى التفكر في مبعث الأصوليات جميعاً. نستطيع أيضاً بالمقارنة أن نفهم لماذا لم تلقَ دعوة جمعية «الهداية الإسلامية» الدمشقيين إلى مقاطعة حفلات أم كلثوم استجابة من الأهالي، ولا بأس على سبيل الطرافة بتذكّر ذلك الاجتهاد الذي حمّلها مسؤولية هزيمة حزيران!

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى