صفحات الرأي

موجة تشويه فكرة الديموقراطيّة في العالم العربي: الديمقراطية ليست أيديولوجية/ ماجد كيالي

 

 

لم تقتصر الهجمة على ثورات “الربيع العربي” على محاولات إجهاضه، أو حرفه عن مساره، أو تفريغه من مضامينه، ناهيك بتحويله إلى حروب أهلية ومذهبية مدمّرة، كما يجري في سورية واليمن والعراق مثلاً، إذ شمل ذلك، أيضاً، التهجّم على مشروعيته ومقاصده النبيلة.

هــكــذا، بـات تــــشــويــــه فـــكرة الديموقراطية، أو الحطّ من قيمتها، في مثابة الشغل الشاغل لكثر من المثقفين العرب، من المحسوبين على تيارات يسارية أو قومية أو ليبرالية. اللافت، أن هؤلاء بدل أن يلوموا القوى التي انقضّت بكل وقاحة وسفالة، على الربيع العربي، مستخدمة في ذلك كل الوسائل، إذا بهم يلومون الحراكات الشعبية، محمّلين إياها مسؤولية ما حصل، كأن الشيء الطبيعي أن يستكين الناس في هذه المجتمعات لواقع الحرمان والامتهان، وضمنه افتقاد المواطنة!

بل إن هؤلاء لا يخفون رضاهم، وحتى حبورهم، من النتيجة المتمثّلة بانتكاسة هذه الحراكات، مع استعارتهم شعارات هذه الأنظمة في خصوص مقايضة الحرية والديموقراطية بـ «الأمن» و «الاستقرار»، السياسي والاجتماعي والاقتصادي، الذي ثبت أن الأنظمة مع أجهزتها المخفية والعلنية، وضمنها الإعلام، هي من يتلاعب به.

المسألة عند هؤلاء، أيضاً، لا تتعلق بمشروعية ثورات الربيع العربي، في التخلّص من نظم الاستبداد وحق المواطنين العرب، كل العرب، بالحرية والديمقراطية والعدالة، فالأهم عندهم أن تنتصر وجهة نظرهم، فهذه الأنظمة في عرفهم معادية للغرب وللإمبريالية ولإسرائيل، حتى ولو كان ذلك كله مجرد عداء لفظي وغطاء للهيمنة والتسلط.

يذهب هذا النمط من المثقفين في الترويج لوجهة نظره، الى عدم أهلية المجتمعات العربية للحرية والديموقراطية، بدليل نتائج الانتخابات، في استعارة للنظريات التي طالما روّجتها أنظمة الاستبداد والفساد لتبرير نقص الحرية والديموقراطية، وهي النظرية ذاتها التي تروّجها أوساط إمبريالية، من دون أن يسألوا أنفسهم من المسئول عن ضعف هذه الأهلية!

تأبيد نظم الاستبداد

فإذا كانت الأنظمة العربية التي تحكّمت لنصف قرن بهذه المجتمعات، مع هيمنتها على وسائل الإعلام والتعليم والجامعات وكل وسائل الضبط والتعبير، ليست مسئولة، فمن المسؤول إذاً؟ وكم نصف قرن يا ترى ينبغي أن ننتظر حتى تصبح المجتمعات مؤهلة للحريات ولآليات الديموقراطية؟

وجود الجيش في ميدان التحرير دون إعتداء على المتظاهرين خلق حالة من الطمأنينة. منظر الدبابات في شوارع القاهرة لم يره المصريون منذ عقود. وكثر التقاط الصور إلى جوارها والحديث الودي مع الجنود، الذين ظهرت عليهم أيضا حالات استرخاء مثيرة للإنتباه.

وأيضاً، إذا كانت هذه الأنظمة لا تعترف بالمكانة القانونية والحقوقية للمواطنين، وتصادر الحريات، وتحرم السياسة، وتحول الديموقراطية الى انتخابات، والانتخابات الى استفتاءات، فكيف سيتم تأهيل هذه المجتمعات للديموقراطية؟ وأخيراً، من المسئول عن تقوض الدولة لحساب السلطة الحاكمة وعن بقاء المجتمعات عند حيّز الانتماءات القبلية، العشائرية والطائفية والمذهبية والإثنية؟

طبعاً، لا يسأل هؤلاء أنفسهم عن مستوى الأمية في المجتمعات العربية، في ظل أنظمة كهذه، ولا عن تدنّي مستوى التعليم، بما فيه الجامعي، ولا عن فساد أجهزة الدولة، وتغول أجهزة الأمن، فهذا آخر ما يعنّ في بالهم، لأن المهم بالنسبة إليهم، أن هذا ليس وقت التحول الى دولة مواطنين، وليس وقت إطلاق الحريات، ولا وقت التحوّل الى نظم ديموقراطية.

عند هؤلاء، الضحايا هم المسؤولون عما يحصل معهم، بل عن كل العسف والظلم والحرمان الذي تلحقه سياسات أنظمتهم بهم، ما يفسر سكوت هؤلاء عن هذا القتل والدمار كله في سورية، مع غياب الضمير عندهم، إذ إن السوريين هم المسؤولون عن سقوط البراميل المتفجرة عليهم، وعن موت الألوف منهم من الجوع أو تحت التعذيب، لأن الأولوية للمقاومة والممانعة.

الديمقراطية ليست أيديولوجية وإنما منظومة قيمية وإدارية

ليس الجدال هنا في أن الديموقراطية في تمثلاتها المختلفة لم تقدم الوصفة المثالية، فـ «الجمهورية الفاضلة» لم تأت بعد، ولا أحد ينكر أن ثمة إشكاليات كثيرة تكتنف تطبيقات الديموقراطية، في هذا البلد أو ذاك، لا سيما أنها ليست أيديولوجية، على ما يعتقد البعض، وإنما طريقة في تنظيم الحكم، والعلاقة بين الحكومات والمجتمعات، وإدارة الخلافات والاختلافات، وهي تخضع لأحوال المجتمعات ومستوى تطورها السياسي والثقافي والقانوني والاجتماعي والاقتصادي، ما يفسر تفاوتاتها بين بلد وآخر.

والقصد، أن المشكلة ستظلّ قائمة بيـــن الحريــة والديموقراطية، إذ لا يمكن الذهاب الى الديموقراطية مع غياب الحريات، وافتقاد معنى المواطنة، وهذه تم تجاوزها في الديموقراطية الليــبرالية، وفي وجود دستور يكفل قيـــم الحرية والمساواة والعدالة وتكـــافؤ الفرص لكل المواطنين مهما كان شأنـــهم أو مكانتهم.

وثمة مشكلة بين المساواة والديموقراطية، فكما أنه ليس من العدالة المساواة بين غير متساوين، فإن غياب المساواة ينتقص من العدالة، وهذه محاولات متفاوتة لإيجاد حلول لها عبر زيادة التقديمات الاجتماعية، ورفع مستوى التعليم والثقافة والدخل والضمان الصحي الخ، وعموماً.

لكن مع ذلك كله، أي مع هذه الإشكاليات وغيرها، تبقى الديموقراطية الليبرالية هي الشكل الأنجع، الذي توصلت إليه البشرية، لإدارة الحكم والمجتمعات والعلاقة بين المواطنين، حتى الآن.

واللافت، أن المثقفين العرب الذين ينكرون الديموقراطية ليست لديهم وصفة بديلة، سوى تأبيد الواقع الراهن، أي تأبيد نظم الفساد والاستبداد، مهما كان لونها، وهم عندما يقولون إن المجتمعات غير مؤهلة للحرية والديموقراطية فإنما هم يمنحون كل الحرية للأنظمة السائدة كي تبقي شعوبها على ما هي عليه، عن كامل وعي وتصميم.

هؤلاء يتحدثون وكأنه كان لدينا فائض حرية وديموقراطية، وفائض حضور للحراكات الشعبية، التي كانت أول حادثة في تاريخ المنطقة. وهذا ليس استقالة للعقل فقط، وإنما هو تغييب للضمير، وتزوير للحقيقة أيضاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى