صفحات سوريةعمر قدور

 “مولانا الخليفة” يتقدّم انتخابياً في الغرب/ عمر قدور

 

 

في الكثير من الأحيان، نرتكب خطأ منهجياً عندما نستدل على العدمية السياسية للإسلام الحركي بوقائع راهنة تدل على العكس. اليوم مثلاً، يسهل اتهام «داعش» بتسبّبه بصعود اليمين المتطرف في فرنسا، وبروزه بنسب متفاوتة لدى بعض المرشحين الجمهوريين للرئاسة الأميركية. تصريحات دونالد ترامب الأخيرة حول منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة، لا تختلف في الجوهر عن تصويت ولايات أميركية ضد استقبال اللاجئين السوريين.

سيكون سهلاً إذاً، وضع إشارة استفهام استنكاري وراء القول: ما الذي فعله البغدادي سوى تأليب العالم على المسلمين وتصويرهم جميعاً إرهابيين؟! ما الذي تسبّب به سوى إغلاق الغرب الحدود أمام المهاجرين الجدد، وتقدّم اليمين المتطرف الذي يعد بالتضييق على المهاجرين القدامى؟!

في هذا الاستفهام الاستنكاري، يحدث سوء فهم كبير لتكتيكات «داعش» والإسلام الحركي عموماً، وإذا كنا نتذكر صعود الجبهة الوطنية الفرنسية عام 2002، في المرحلة الأولى من انتخابات الرئاسة آنذاك، وأيضاً صعود المحافظين الجدد ضمن إدارة بوش، فالمرجح أن يتذكر قادة الإسلام الحركي تلك الوقائع، ويسترشدوا بها اليوم. لوم الإسلام الحركي، على ما يُعتقد أنه سوء تدبير منه، يفترض حرصه على مصالح المسلمين بعامة، وقد يضمر بوعي أو من دونه اعترافاً بالأحقية يبرر الأحقية التي يستخدمها اليمين الغربي لوصم المسلمين بالإرهاب.

وإذا صار شائعاً الربط بين الاستبداد والتطرف في بلداننا، فهذه المقولة لا تنطبق على صعود التطرف في بلدان الغرب الديموقراطي، إلا باستخدام علاقة متعدية يبدو فيها الإسلام المتطرف شرطاً كافياً لصعود التطرف الغربي. هذه الفرضية تلغي الانسياب المتبادل بين الجهتين، وتهمل عمل كل منهما في حقله الخاص. فقبل اعتداءات باريس مثلاً، حققت الجبهة الوطنية بزعامة لوبن، أفضل نتائجها في انتخابات البرلمان الأوروبي، على رغم عداء الجبهة الدفين لمظاهر الاتحاد الأوروبي وقوانينه. أي أن اليمين المتطرف الفرنسي كان يصعد على حساب قضايا داخلية، لم يُخْفِها ناخبوه في الانتخابات المحلية الأخيرة أمام عدسات التلفزيون، وفي مقدمها ارتفاع معدل البطالة، فضلاً عن الملل واليأس من الطبقة السياسية المتمثلة باليمين التقليدي والاشتراكيين.

في فرنسا، حيث يعزّ اجتراح نمو اقتصادي من دون التفريط بمكتسبات الرعاية الاجتماعية، وربما من دون التفريط بالخصوصية الفرنسية، يأتي اليمين المتطرف بالحل الذي يبدو سهلاً وسحرياً: إنقاص عدد طالبي العمل عبر منع استقبال اللاجئين وصولاً إلى طرد المهاجرين القدامى. الخطاب التعبوي الذي يعتمده اليمين يركّز على الحالات الأكثر سلبية وينمّطها. لقد شهدنا كيف يصف أحد مسؤولي اليمين حي باربس الباريسي بأنه تورا بورا، الحي الذي تقطنه غالبية من المهاجرين وتنتعش فيه مظاهر البطالة والمخدرات والتهريب، لكنه أيضاً النموذج المفضّل لليمين قياساً إلى حالات أعمّ من الجيل الثاني للمهاجرين الذي لا يمكنه الطعن باندماجه ولا بمستوى تحصيله العلمي، وهو في الواقع مَنْ ينافس الفرنسيين «الأصلاء» على فرص العمل، وعلى أرضية اندماجه وكفاءته، أي من داخل النموذج الفرنسي نفسه.

عند النماذج المهمّشة أو الهامشية للمهاجرين، يلتقي اليمين المتطرف بـ «داعش»، فالأول يحتاجها كذريعة لتبرير خطاب الكراهية، والثاني يحتاج خطاب الكراهية لتوليد المزيد من المتطرفين والإرهابيين. وضوح المصلحة المشتركة يغري بعزو توقيت هجمات باريس إلى الانتخابات الفرنسية أكثر من أي عامل آخر. استجلاب التدخل الفرنسي لقتال «داعش» في سورية قد لا يكون حماقة سياسية ضمن سياق يتطلّع إلى المزيد من المتطرفين المنتظَرين من فرنسا، الآن ومستقبلاً.

بمعنى آخر، ما يظهر حماقة في التكتيك السياسي الراهن لـ «داعش» نراه كذلك وفق التحليل السياسي التقليدي الذي لا يلحظ الأرباح التي يطمح إليها التنظيم. ما يخيّب الأمل حقاً، الأداء التقليدي الغربي في الرد على «داعش». فعلى المستوى الحكومي، اتُّخذت إجراءات مشدّدة للحد من تدفّق النازحين إثر اعتداءات باريس، وعلى المستوى الشعبي أحرز اليمين المتطرف تقدماً ساحقاً في الجولة الأولى للانتخابات المحلية الفرنسية. أي تحليل سيكون ناقصاً ما لم يلحظ مكاسب «داعش» وأمثاله من الرد الغربي، فأولاً ليس هناك أفضل من نازح يائس أصلاً تُسدّ أمامه كوة الأمل الغربية، وليس هناك أفضل من مهاجر مهمّش تعد بروباغندا اليمين المتطرف بزيادة إقصائه أو طرده.

قد لا ينجح اليمين المتطرف في استلام السلطة لعدم وصوله إلى الغالبية المطلقة، لكن ما يمكن ملاحظته في تصريحات دونالد ترامب ومارين لوبن هو تصاعد الخطاب اليميني، بحيث ينقض المفهوم المؤسس للدولة، وعدم التعاطي مع تلك التصريحات بوصفها انقلاباً أساسياً. فالولايات المتحدة، باستثناء العقدة المشينة لإبادة الهنود الحمر، لا تعاني المعضلة الثقافية لأوروبا في ما خصّ تصنيف السكان، هي بالأحرى بلد المهاجرين. أما تصريحات مارين لوبن عن مسيحية فرنسا، الكاثوليكية طبعاً، فهي تنقض الأساس الذي تقوم عليه الجمهورية العلمانية، ومعلوم أن فكرة الجمهورية الفرنسية هذه تحتلّ مرتبة سامية جداً لدى غالبية الفرنسيين.

إذاً، ما تنبغي ملاحظته أن خطاب اليمين يتصاعد لينطوي على ما هو أبعد من «إجراءات» سياسية احترازية، أو ذات دوافع أمنية واقتصادية طارئة، إنه يَعِد بالانقلاب على مفهوم الدولة الحديثة الحالية. علاوة على ذلك، لعلّ اليمين المتطرف هو العدو الألد لما يُسمى بالعولمة، على رغم أن معاداتها تبدو احتكاراً يسارياً.

في حالتنا هذه، لا مبالغة في القول إن البغدادي يكسب بقدر ما يتقدم اليمين الغربي المتطرف، مع الانتباه إلى العوامل الداخلية التي تسند تقدم الأخير. فمثلاً، الإرهاب مشكلة غير ملموسة في ألمانيا التي يتيح اقتصادها مرونة أكبر في استيعاب اللاجئين. مع ذلك، ما يكسبه البغدادي ولوبن وأمثالهما سيبقى محكوماً بسقف الفشل. من هنا يمكن وصم اليمين المتطرف والإسلام الحركي بالعدمية السياسية، لأن نجاحهما النهائي معاً يعني العودة بالعالم إلى ما كان عليه قبل الحرب العالمية الثانية على أقل تقدير.

هذا الخيار دونه عالم قد يجد صعوبة بالغة في إدارة تشابكاته الثقافية والمجتمعية عموماً، لكن سيكون مستحيلاً عليه باطراد مطابقة الحدود السياسية بالفضاء الثقافي، أو بالتنوّع الديني والعرقي.

عادة، ما يفصح عنه تقدّم الأصوليات أنه يقاوم قفزة إلى الأمام باتت شبه محتومة.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى