صادق عبد الرحمنصفحات الرأي

ميادين الفرات الرحبة/ صادق عبد الرحمن

 

(1 من 2)

هذا النص هو محاولة قد تكون الأولى لكتابة تاريخ مدينة الميادين في زمن نظام الأسد وزمن الثورة عليه، وقد اعتمدتُ فيها على مصادر قليلة ومتناثرة، وعلى لقاءات مع عددٍ من أبناء المدينة وناشطيها، الذين لم تُذكر أسماء بعضهم مطلقاً، وذكرت أسماءٌ مستعارة لبعضهم الآخر، ووافق اثنان منهم على ذكر الأسماء الصريحة، ولهم جميعاً أتوجه بجزيل الشكر والعرفان.

سيجد القراء في هذا النص ثغرات ونواقص كثيرة دون أدنى شك، لكن كتابة تاريخ سوريا، ومنطقتها الشرقية على وجه الخصوص، تصطدم بعقبات أبرزها شحُّ المعلومات عن الحياة تحت حكم الأسدين، والفوضى وتضارب المصادر والروايات في زمن الثورة، والخوف الذي عاد ليُحكم قبضته على حياة أبناء الفرات، بعد أن حطموه بثورتهم الشجاعة عام 2011.

سيتم نشر النص على قسمين، وهذا هو القسم الأول.

*****

«لم يكتب تاريخها كاتبٌ ولا مؤرخ، لا قديمٌ ولا حديث، لا عربيٌ ولا أجنبي»، كان هذا ما قاله الراحل عبد القادر عياش عن مدينة الميادين في ريف دير الزور الشرقي مطلع سبعينات القرن المنصرم، في أول القسم المخصص للحديث عن «الرحبة» من كتابه حضارة وادي الفرات1.

والرحبة هي الحاضرة القديمة التي قامت على أنقاضها مدينة الميادين، رحبة مالك بن طوق في التراث العربي الإسلامي، وتسمى الرحبة الشامية أيضاً، وكذلك الرحبة الفراتية. وهي بيت رحوب الآرامية، ويرجِّحُ كثيرٌ من مفسري الكتاب المقدس أنها رحوبوت النهر نفسها، الوارد ذكرها في الإصحاح 36 من سفر التكوين في العهد القديم2.

رحلَ عبد القادر عياش عام 1974، قبل أن يُحكِمَ الأسد الأب قبضته على حاضر المدينة ومستقبلها وتاريخها، ولعله لم يكن يتوقع المآلات المظلمة القادمة على هذه البلاد، التي من أسبابها إقفالُ التاريخ وجعله رهينة بيد الأبد، الأبد الأسدي الذي انتهى بالميادين إلى ما هي عليه اليوم، مدينةً مشرعةً أمام الغبار والموت والطائرات.

رحبة مالك بن طوق

تقع مدينة الميادين على الضفة الغربية لنهر الفرات، على بعد 45 كيلومتراً جنوب شرق مدينة دير الزور. وتوجد جنوبها قلعة تعرف باسم رحبة مالك بن طوق، ويقول عبد القادر عياش إن «سكان المنطقة عزّ عليهم أن يُنسى ذكر الرحبة وذكر مالك بن طوق مجدد بنائها، فأطلقوا على قلعة آشورية قديمة اسم رحبة مالك بن طوق أميرها العربي الأول، وشاع الاسمان مقترنان، إلى يومنا».

أما رحبة مالك بن طوق فهي المدينة التي قامت على أنقاض بيت رحوب، الإمارة الآرامية القوية المزدهرة بسبب خصوبة أرضها وموقعها الاستراتيجي، التي سيطر عليها الآشوريون مطلع الألف الأول قبل الميلاد، وأقاموا قربها قلعةً يحيط بها خندق. تهدمت المدينة جراء غزوات الإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد، وبقيت كذلك حتى عيّنَ الخليفة العباسي المأمون مالكَ بن طوق العتابي التغلبي والياً على الجزيرة الفراتية، فأعجبه موقعها على الطريق الواصل بين العراق والشام، المشرفِ على بادية الشام وبادية السماوة، وكذلك على بادية الجزيرة الفراتية حيث كانت منازل بني تغلب آن ذاك، وقام بإعادة إعمار المدينة وترميم وتدعيم قلعتها، وعَرَفَت منذ عهده ازدهاراً كبيراً، وكتبَ الشعراء فيه وفيها القصائد، ومنهم أبو تمام ودعبل بن علي الخزاعي وكلثوم بن عمر التغلبي.

تلا عهد الازدهار هذا حروب ومعارك متعددة، وانتقلت السيطرة عليها بين عدة إمارات وسلطنات في عهود تصدع الخلافة العباسية، فحكمها تباعاً الحمدانيون والقرامطة والفاطميون والزنكيون والأيوبيون والسلاجقة والمماليك، ثم خضعت كسائر بلاد الشام للسلطنة العثمانية. وفي كل تلك المراحل كانت السهول الخصبة المحيطة بها محطاً للجيوش ومعسكراتٍ للمقاتلين، وفي كثيرٍ منها كان السكان يعتصمون في القلعة القديمة المجاورة طلباً للأمن.

منذ أن استولى العثمانيون على وادي الفرات، أدركوا أهمية موقع الرحبة فعينوا لها حاميات عسكرية بمراسيم سلطانية، واعتصم سكانها في القلعة عقوداً، لكنهم بدأوا منذ منتصف القرن التاسع عشر بالنزول تدريجياً بسبب استتباب الأمن، ولأنها ضاقت عليهم وأصبح صعباً تأمين مياه كافية للسكان فيها.

أحدث العثمانيون سنجق دير الزور عام 1868، وأُتبعت الرحبة وقلعتها لقضاء العشارة التابع له، وكانت العشارة وقتها أكبر من الرحبة، وسكانها أكثر عدداً ويسكنون في بيوت خلافاً لأبناء الرحبة الذين يقيم معظمهم في قلعتها.

شجّعَ التنظيم العثماني الإداري المزيد من سكان الرحبة على مغادرة القلعة وبناء المساكن في موقع المدينة القديم، فاستخدموا حجارة الأبنية القديمة المتداعية وحجارة السور حتى ضاعت معالم المدينة القديمة تقريباً، كما أنهم استخدموا جزءاً من حجارة القلعة نفسها، وذلك لصعوبة الحصول على أحجارٍ مناسبة للبناء في تلك المنطقة.

مآذن الفرات الشاهقة

كان العرب يطلقون على موقع الرحبة القديمة شمال القلعة اسم المواذين، بسبب المآذن الشاهقة الباقية من عصر عمرانها وازدهارها، ثم انقلبت الواو ياءً، وحملت هذا الاسم عندما أُعيد إعمارها وسكنها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولاحقاً دُونت في سجلات الدولة السورية الناشئة باسم الميادين لصعوبة لفظ الذال، ويقول عبد القادر عياش إن الديريين كانوا لا يزالون ينطقون اسمها بالذال.

كبرت المياذين واتسعت، وقصدها أبناء عشائر أخرى من سائر حواضر حوض الفرات في العراق والشام، وسكنوا فيها إلى جانب أبنائها المؤسسين النازلين من القلعة، والمعروفين حتى اليوم باسم «الكلاعيين» باللهجة المحلية، أي القلعيين، النازلين من القلعة.

اتسعت الميادين حتى فاقت العشارة، ونقلت السلطنة العثمانية مقر القضاء من العشارة إليها لاتساعها، ولأنها تتوسط الطريق بين البوكمال ودير الزور مركز السنجق، وأنشأت فيها داراً للحكومة «سرايا» عام 1904، ومدرسة زراعية عام 1916، وكان عدد سكانها آن ذاك 4 آلاف نسمة3.

دخلت الميادين تحت سيطرة الجيش الإنكليزي القادم من العراق مع انهيار السلطنة العثمانية عام 1918، ودخلت بعدها تحت سلطة الانتداب الفرنسي عام 1920 تطبيقاً لاتفاق سان ريمو، ليبدأ عهدها مع الدولة السورية الناشئة.

التقيتُ بالعم «أبو القاسم » (اسم مستعار- 72 عاماً) من أبناء الميادين، وقد أبدى رغبته بعدم الكشف عن اسمه لأسبابٍ شتى، وتحدث طويلاً عن المدينة وتاريخها بناءً على مشاهداته منذ الطفولة، وعلى مرويات سمعها ممن يفوقونه سناً، وكان لحديثه بالغ الأثر في تكوين صورة عن الميادين وحياة أهلها، بعد مطابقته مع أحاديث متفرقة سمعتُها من بعض أبناء الميادين، ومع تفاصيل وردت في كتاب الراحل عبد القادر عياش.

الميادين.. من الشاميّة إلى السوريّة

عُرِفَ موقع الميادين بالرحبة الشامية لأنها أول الديار الشامية بالنسبة للقادمين من العراق، ولأنها تقع على الضفة الشامية لنهر الفرات، وهي مرتبطةٌ سكانياً وجغرافياً بالأراضي العراقية، ولعل موقعها المتوسط كان من أسباب تنازع السيطرة عليها طويلاً، ولهذا الارتباط بالعراق أثره التاريخي المستمر حتى اللحظة.

دخلت الميادين في سلطة الدولة السورية الناشئة تحت الانتداب عام 1920، ومنذ ذلك الوقت بدأت أوضاعها بالتحسن على المستوى الاقتصادي، إذ تم تعبيد الطريق الواصل بينها وبين دير الزور والبوكمال، ما أدى إلى انتعاشها وانتعاش ريفها4.

أحدثَ خط نفط كركوك-طرابلس، الذي بدأ عمله صيف 1934 وكانت محطة الضخ الثانية (T2) فيه قرب الميادين، أثراً في حياة السكان هناك، واستوعبت المحطة عمالةً كبيرة من أبناء الميادين وريفها، حيث كانت «كل محطة ضخ تحتوي منشآت نفطية ودوائر ودور سكنية للعاملين فيها»5.

لم تشهد مدينة الميادين انتفاضات شعبية أو ثورات كبيرة ضد الانتداب الفرنسي، لكنها شهدت حوادث متفرقة من بينها مهاجمة سيارة المستشار الفرنسي في أربعينات القرن الماضي على ما روى لنا العم أبو القاسم.

يقول أبو القاسم: «كان اقتصاد أبناء الميادين قائماً على الزراعة وتربية الحيوانات والتجارة، وكانت الزراعة في ريفها الخصب على ضفاف الفرات عاملاً مهماً في ازدهارها التجاري. ولا تزال تعتمد على هذه المصادر الثلاث، مضافاً إليها في البداية عملُ قسم من أبنائها في محطة الضخ 2، ثم توجههم بكثافة إلى التعليم والوظائف الحكومية بعد الاستقلال. ذهبَ العشرات من أبنائها للدراسة في جامعة دمشق، أو جامعات خارج البلاد، وعلى وجه الخصوص في مصر. وفي ذاكرتي من الخريجين الأوائل من جامعاتٍ خارج البلاد اسماعيل حسني الرحبي، والد المخرج السوري هيثم حقي، الذي تخرج من إحدى كليات الفنون الجميلة في إيطاليا في مطلع خمسينات القرن الماضي».

من أبناء الميادين أحدُ أبرز مؤسسي الكتلة الوطنية، ورئيسُها عام 1937، وهو سيف الدين الراوي. وبعد الاستقلال، شهدت مرحلة الخمسينات فيها حراكاً وصراعاً سياسياً بين التيارات الأساسية، وكان أقواها وأوسعها انتشاراً في المدينة آنذاك الحزب السوري القومي الاجتماعي، إضافة إلى الإخوان المسلمين والبعثيين والشيوعيين، وكحال البلاد كلها كانت هذه التيارات تتنافس على الحشد الشعبي من خلال التظاهرات، التي كانت تنتهي أحياناً بعراكٍ غير دموي على ما قاله أبو القاسم.

يقول العم أبو القاسم إن «اغتيال عدنان المالكي أدى إلى تراجع شعبية السوريين القوميين، ثم جاءت فترة الوحدة مع مصر، التي كانت نهاية لعصر الحراك السياسي، لتكتبَ نهاية التواجد الفعل لهذا التيار في الميادين، حيث سافر أغلب أنصاره خارجها، أو كفوا عن النشاط السياسي، ولم يعد أحدٌ من أبناء المدينة إلى الإعلان عن انتمائه إلى الحزب السوري القومي حتى عهد بشار الأسد».

تم تنوير الميادين بالكهرباء عام 1953، وافتتحت فيها أول دار للسينما عام 1955، وفي الستينات تم تنفيذ مشروعٍ لمياه الشرب فيها، وافتتاح حديقة عامة ضخمة، وبنيت فيها وفي ريفها عدة مدارس للذكور والإناث، حتى أنه لم تخلُ قريةٌ من قراها من مدرسة ابتدائية على الأقل6.

لم يكن ثمة إقطاعيات كبيرة في الميادين وريفها، وكانت أغلب الملكيات صغيرة المساحة قياساً بمناطق أخرى من البلاد، ويقول العم أبو القاسم إن «أغلب المُلاك الكبار عرفوا بقرب التأميم الذي جاء على مراحل بدءً من عهد الوحدة مع مصر، فقاموا بتوزيع الملكيات على أبنائهم وعوائلهم لتفادي التأميم، ولم يطل التأميم سوى مشاريع الري الخاصة، وهي عبارةٌ عن مضخاتٍ تسحب مياه الفرات إلى قنوات ري طويلة، وكان الفلاحون على امتداد القنوات يدفعون مبالغ مالية لأصحاب هذه المضخات، التي تم تأميم أغلبها في عهد الوحدة مع مصر».

في قبضة الأسدين

تزايد نفوذ البعثيين وتواجدهم في الميادين، وخاصة بعد أن أصبح البعث حاكم البلاد عقب انقلاب عام 1963، لكن تواجد أنصار تيار الإخوان المسلمين بقي قوياً في المدينة، وكذلك الشيوعيون على نطاقٍ أضيق.

دفعت الميادين كغيرها من أنحاء سوريا الثمن الرهيب لسلطان حافظ الأسد، الذي قام بتصفية واعتقال خصومه داخل حزب البعث، ثم خارجه من الإخوان المسلمين والشيوعيين في أواخر سبعينات وفي ثمانينات القرن الماضي. ويقول أبو القاسم إن «نظام الأسد اعتقل المئات من أبناء الميادين في تلك الحقبة المظلمة، معظمهم من شباب الإخوان المسلمين الذين لم يعد كثيرون منهم إلى بيوتهم مطلقاً، والأرجح أنه تمت تصفيتهم في السجون، فضلاً عن الشيوعيين من رابطة العمل الشيوعي، الذين قضى بعضهم أكثر من 15 عاماً في السجن، وكذلك بعثيو الجناح العراقي، الذين كان لهم حضورٌ غير قليلٍ جراء الروابط الاجتماعية والعشائرية القوية مع العراق. كما أن الميادين خسرت مئات آخرين من أبنائها الذين نجحوا بالفرار بأنفسهم خارج البلاد، غالباً إلى غير رجعة».

أما على الصعيد الاقتصادي، فقد أحدث جسر الميادين الذي وصل ضفتي نهر الفرات من الميادين إلى بلدة ذيبان المقابلة تحولاً كبيراً جديداً في حياة سكان المنطقة. ومنذ أن تم افتتاحه عام 1976، أصبحَ التنقل ونقل البضائع بين الضفتين أكثر سهولةً، وتحسنت الأوضاع الاقتصادية نسبياً، رغم أن الزراعة كانت لا تزال متخلفةً في الميادين وريفها، إذ كانت تغيبُ تقريباً الخضار وأشجار الفاكهة على ما يقول عبد القادر عياش.

تحسنت الزراعة نسبياً في السنوات اللاحقة في ريف الميادين، وأصبحت المنطقة مع تطور أساليب مكافحة الأمراض الزراعية وإنتاج البذار غنيةً بسائر أنواع الخضار والفاكهة، فضلاً عن القمح والقطن والسمسم والشوندر السكري، وتحسنَ المستوى الصحي والتعليمي نسبياً أيضاً. غير أن تحولاً كبيراً قد حدث، وكان يُفترض به أن يدفع الأوضاع نحو الأفضل، لكن أثره كان معاكساً، وهو البدء في استثمار حقل العمر النفطي أوساط الثمانينات، ويقع على بعد نحو 15 كم شمال شرق المدينة.

يتفق جميع من التقيتهم من أبناء الميادين أن استثمار الحقل، وغيره من حقول حوض الفرات النفطي، كان وبالاً على المنطقة أكثر مما كان مفيداً لها. قلةٌ من أبناء الميادين عملوا في الحقل، ويقول أبو القاسم إنه اتبع دورة تدريبية في حمص في الثمانينات كان الهدف منها تأهيله للعمل في الحقل، وكان أغلب عماله العرضيين وموظفيه ومهندسيه من مناطق سورية أخرى، ومن الساحل على وجه الخصوص، رغم أن في الميادين وريفها مئات المهندسين.

عادَ الحقل على أهالي الميادين وريفها بالتلوث والأمراض وارتفاع نسبة السرطانات، وأيضاً بسخافات شركة «شيل» الأميركية المستثمرة للحقل، التي وزعت على أطفال المدارس الحقائب والقرطاسية للتقرب من السكان كما يقول أبو القاسم، كما أنها كانت تقوم بحملات تشجير محدودة للحفاظ على البيئة!

لم تكن آلية إنتاج النفط في حقل العمر تحقق الشروط البيئية اللازمة، ولم يكن في كل المنطقة الشرقية من سوريا مستشفى واحد لعلاج السرطانات. كان جميع أبناء المنطقة الشرقية يتجهون إلى دمشق لعلاج مرضاهم، وكانوا ينتظرون طويلاً حتى يحين دور المريض وينفقون مبالغ طائلة على إقامتهم هناك، وعندما تم بناء مستشفى الطب الحديث في الميادين، وبمساهمة من شركة «شيل» نفسها، لم يكن فيه قسمٌ مختصٌ بعلاج السرطانات.

يقول أبو محمد «اسم مستعار – من أبناء المدينة وناشطيها» إن «قوانين عقود النفط تلزم الشركات المستثمرة بإنفاق جزءٍ من أرباحها على منطقة عملها، على البنية التحتية وحماية البيئة والصحة العامة، لكن الحكومة السورية كانت مصرةً على أن يتم صرف هذه النسبة عبرها حصراً، وليس من قبل شركة «شيل» المستثمرة للحق بشكل مباشر، ولم يكن هناك عدالة في إنفاق هذه النسبة من قبل الحكومة السورية.  ومن أمثلة ذلك أن الشركة اشترت على نفقتها 15 سيارة لجمع القمامة، لكن الحكومة السورية قامت بتوزيع معظم السيارات على محافظاتٍ أخرى، وتم تخصيص واحدة فقط لمدينة الميادين، وذلك بعد مطالبات من الأهالي».

لم يكن هناك صناعةٌ في الميادين وريفها، بل كان فيها ورشٌ لتصليح المضخات الزراعية وبعض الحرف البسيطة المحلية، ومعمل واحدٌ فقط في كل المنطقة، هو معمل الكونسروة الذي افتتح في الثمانينات، وتراجع إنتاجه حتى توقف تقريباً قبيل اندلاع الثورة السورية بسبب البيروقراطية وسوء الإدارة كما يقول أبو القاسم.

كان ريف الميادين أقل تأثراً بموجات الجفاف التي ضربت البلاد، بما فيها موجة الجفاف التي أدت إلى جفاف الخابور وهجرة الآلاف من أبناء الجزيرة في العقد الأول من القرن الحالي، ويرجع ذلك إلى اتساع السهول في ريفها وسهولة ريها من مياه الفرات، لكن رفع الدعم عن المحروقات والأسمدة أدى إلى تراجع عوائد الزراعة، وحصل أن أحرق المزارعون محاصيلهم عدة مراتٍ لتجنب المزيد من الخسائر خلال السنوات القليلة السابقة على عام 2011.

كان في الميادين وريفها آلاف العاطلين عن العمل، بمن فيهم مئات الخريجين الجامعيين، وصارت الأموال التي يرسلها المغتربون من الخليج عموداً أساسياً من أعمدة الحياة في الميادين خلال العقدين الأخيرين، إلى جانب الوظائف الحكومية والزراعة والتجارة البسيطة.

الميادين عشية 2011

بلغ عدد سكان الميادين نحو 44 ألف نسمة حسب إحصاء عام 2004، ويُرجَّحُ أن عدد قاطنيها بلغ نحو 60 ألفاً عام 2011. ينقسم أبناء الميادين إلى عشائر أبرزها البوخليل والبومصطفى، وهي أبرز عشائر «الكلاعيين»، مؤسسي المدينة الأصليين النازلين من القلعة قبل نحو 150 عاماً، ومن الكلاعيين أيضاً البوناصر والسنانيون والويسات.

في الميادين أيضاً المشاهدة والراويون والعانيون، وينتسبون إلى مدن مشهد وراوة وعانة في العراق. بالإضافة إلى عائلات من عشيرة البوسرايا المنتشرة غرب دير الزور، وعائلات من العكيدات7. والديريون أيضاً، وهم عائلات من مدينة دير الزور. والسخانيون من السخنة بين دير الزور وتدمر، والمواصلة من الموصل العراقية8. ويروي لنا العم أبو القاسم أن في الميادين عائلة مسيحية واحدة هي آل بابيك، ولا يُعرَف وقتُ استقرارهم فيها، لكنه يرجع إلى نحو مائة عام، ويؤكد أن العائلة بقيت في المدينة حتى سيطرة تنظيم الدولة عليها.

تنقسم محافظة دير الزور إدارياً إلى ثلاث مناطق هي الدير والبوكمال والميادين، ويتبع للميادين نواحٍ وبلداتٌ وقرى أبرزها: العشارة، ذيبان، القورية، الطيانة، الشحيل، محكان، بقرص فوقاني وتحتاني، الجرذي، صبيخان، الحوايج، وغيرها. وأغلب سكان هذه الأرياف والبلدات من عائلات وعشائر العكيدات.

تحضر في الميادين وريفها كما في سائر البلاد، التناقضات الاجتماعية التي لم يعمل حكم الأسد على حلها، بل فاقمها واعتمد عليها في تثبيت أركان حكمه، ومن بينها التناقضات العشائرية، فضلاً عن تناقض الريف والمدينة السائد، وكان التناقضان متداخلين وملتبسين معاً في منطقة الميادين.

يقول العم أبو القاسم إن «العشائرية كانت آخذةً في التراجع في الستينات، لكن تغيير نظام الأسد للقانون الانتخابي بعد عام 1970 أدى إلى تصاعدها مجدداً، حيث جعل القانون الجديد محافظة دير الزور دائرة انتخابية واحدة، بعد أن كانت دوائر متعددة، وهو ما دعا كل مرشحٍ إلى الاعتماد على أصوات أبناء عشيرته، وأصبح أبناء العشائر الصغيرة بلا أي تمثيل، بعد أن صار انتخاب جميع أبناء العشيرة لمرشحهم أياً كان شخصه عرفاً ثابتاً».

سكان الميادين محافظون اجتماعياً ودينياً، لكن مظاهر السلفية والتشدد الديني لم تكن ظاهرةً في المدينة على الإطلاق، غير أن حرب العراق لعبت دوراً بارزاً في هذا المجال، إذ ذهب العشرات من أبناء المدينة وريفها للقتال في العراق، وعاد كثيرون منهم محملين بأفكار السلفية الجهادية، ومنهم من ثبتت عودته إلى سوريا لكنهم لم يعودوا إلى أهلهم، وقيل إنه تمت تصفيتهم أو أنهم في سجون النظام، دون أن يكون هناك ما يثبت مصيرهم. كما لعبت حرب عراق دوراً في انتشار السلاح الخفيف على نطاقٍ أوسع9، خاصة في ريف الميادين، وهما الأمران اللذان سيلعبان دوراً بارزاً في مسار الثورة السورية لاحقاً.

عانت الميادين كما سائر مدن وبلدات المنطقة الشرقية من التهميش الاجتماعي والثقافي في سوريا الأسد، ويُمكن تكثَّيفُ هذا التهميش في كيفية استخدام لفظِ الشوايا الذي يُطلق على جميع سكان أرياف حوض الفرات، وكان كثيرون من أبناء المدن والمناطق السورية الأخرى يقصدون به الحط من شأنهم، فيما يفخرون هم أنفسهم بهذه التسمية، ويثير استياءَهم استخدامها بقصد الإساءة. ثم يأتي هذا الاستعلاء مركباً من عدة طبقات إذا عرفنا أن كثيرين من أبناء الميادين ينفون عن أنفسهم صفة الشوايا، مصرّين على أنهم أبناء مدينة، وليسوا من أبناء ريف الفرات.

يقول عبود الصالح، وهو صحفيٌ سوريٌ من أبناء الميادين من مواليد 1990: «منذ بدأت أعي ما حولي وحتى قيام الثورة السورية لم يتغير شيءٌ في الميادين، وكأنها خارج التاريخ، كانت العشائرية متحكمة بمفاصل الحياة، وكان اعتماد النظام عليها واضحاً في تثبيت سلطته. كانت المدينة مهملةً حتى أن تنقيباً جدياً في مواقعها الأثرية لم يحصل أبداً، هذه منطقة ضاربة في التاريخ لا يعرف عنها أحدٌ شيئاً تقريباً».

في الميادين أعداد كبيرة من الشباب الجامعين والمثقفين، الذين لم يكن التهميش الثقافي والاجتماعي للمنطقة الشرقية في سوريا يناسب طموحاتهم، فكانوا يتجهون إلى دمشق وحلب للدراسة، وكان بعضهم يستقر هناك نهائياً، كما استقرت أعدادٌ كبيرةٌ منهم في دول الخليج العربي.

عمل نظام الأسد على إلقاء عموم السوريين خارج التاريخ، وكان نصيب أرياف الفرات مضاعفاً من هذا الإلقاء المديد، ثم حطّم السوريون ومنهم أبناء الميادين هذه الغلالة مقتحمين التاريخ، لكن ثمن هذا التحطيم كان كبيراً جداً. وكما كان التهميش مضاعفاً في سوريا الشرقية، كذلك كان ثمن الخروج على السلطان مضاعفاً أيضاً.

أبناء الميادين في ميادينهم وشوارعهم

تقاطعت روايات من تحدثتُ إليهم على أنه في يوم الخميس الرابع والعشرين من آذار عام 2011 كسرَ عددٌ من أبناء الميادين صمتَ أربعين عاماً في سوق المدينة المقبي القديم، ولا يوجد تصويرٌ لهذه المظاهرة وما تلاها من مظاهراتٍ حتى الثامن من نيسان، ويبدو أنه لم يكن هناك من يفكر في مسألة التصوير والإعلام.

كانت الهتافات للحرية ودرعا الثائرة، ويبدو أن النظام واجه تلك المظاهرات المحدودة وقليلة العدد باعتقالات وملاحقات أمنية، هذا ما تثبته مظاهرة جمعة الصمود في الثامن نيسان، وهي أول المظاهرات التي تمكنتُ من العثور على تسجيلات مصورة لها، ويظهر فيها عشرات الشبان الغاضبين، الذي يطالبون بإطلاق سراح أسرى.

قليلةٌ هي المعلومات عن الحراك السابق لجمعة الصمود، لكن الهتافات فيها توحي بوجود أعدادٍ من المعتقلين من أبناء المدينة، أمّا يوم الخروج على الطوق فقد كان يوم الجمعة العظيمة 22 نيسان 2011، عندما تجمع آلاف المتظاهرين أمام فرع الأمن العسكري محطمين جدار الخوف في المدينة.

يروي علي الرحبي، وهو ناشطٌ من الميادين، تفاصيل ذلك اليوم: «شعرنا بقوة كبيرة عندما تجمعنا بالمئات ثم بالآلاف نهتف ضد النظام أمام بوابة واحدٍ من مقرات الرعب، الأمن العسكري. اتجهنا بعدها نحو مقر البلدية وتزايد عددنا حتى تجاوزنا خمسة آلاف متظاهر، وتم ربط تمثال باسل الأسد هناك بخرطوم سيارة إطفاء، ثم انتزاعه من مكانه. توجهنا بعدها إلى دوار البكرة قرب مبنى الحزب حيث تمثال حافظ الأسد وقمنا بتحطيمه، وبعدها اتجهنا إلى مشفى الطب الحديث حيث ما يعرف بالبانوراما، وهي لوحة سيراميكية ضخمة عليها صورة حافظ الأسد وابنيه باسل وبشار. كان تحطيمها صعباً، فقمنا بإشعال دواليب قربها حتى غطاها هباب الفحم. لاحقاً كان يقوم عناصر النظام بتنظيفها كل ما قمنا بالأمر نفسه في المظاهرات التالية، حتى تم تحطيم الصورة بالمطارق في النهاية».

اعتمد النظام في محاولاته لإيقاف التظاهرات على حملات الاعتقالات الواسعة التالية لكل تظاهرة، وعلى تفريق المظاهرات بالعصي وإطلاق الرصاص في الهواء، وكان يقوم بهذه المهمة على وجه الخصوص شبيحة للنظام يُقال إنهم من بلدة ذيبان المجاورة، ويرجع ذلك إلى أن واحداً من أبرز رجالات النظام، وهو أديب السطام، نائب جامع جامع، رئيس فرع الأمن العسكري في دير الزور، كان من أبناء ذيبان. وكان يحرّض أبناء عمومته من رجال الشيخ خليل عبود الهفل 10 على ذلك.

يقول أبو أحمد «اسم مستعار – ناشطٌ من شباب الميادين – 25 عاماً» إن «النظام كان يزج بهؤلاء في مواجهة المتظاهرين في محاولة لإذكاء الفتنة العشائرية، وكانوا ينزلون لتفريق المظاهرات ملثمين، لإدراكهم خطورة ما يقومون به على الصعيد العشائري. ولم يكن هؤلاء معروفون بالاسم، ولكن كان يقال إنهم من ذيبان. ومن الحوادث الجديرة بالذكر أنه في أحد الأيام من النصف الثاني من عام 2011، جاء أديب السطام بنفسه إلى الميادين، وأجبر الموظفين الحكوميين على المشاركة في مسيرة تأييد للنظام أمام شعبة الحزب، لكنها تفرقت بعد عشر دقائق، وتحول عدد كبير من المشاركين فيها مع غيرهم من أبناء الميادين إلى مظاهرة في المكان نفسه، وقاموا بإحراق سيارة أديب السطام، التي قيل إنها كانت سيارته الخاصة، وأن فيها سلاحاً تم الاستيلاء عليه، وعلى إثر ذلك اعتُقِل عدد من أبناء الميادين».

لم تؤدِ تلك المظاهرات إلى كسر ذراع النظام الأمنية، بل بقي النظام صاحب اليد الطولى وقادراً على اعتقال من يشاء ساعة يشاء، وبقي الطرفان حذرين في تعاملهما، إذ ينضبط النظام بعدم سفك الدماء في التظاهرات لمعرفته بحساسية البنية العشائرية وانتشار السلاح في المنطقة، وينضبط المتظاهرون والناشطون بعدم دفع شبح الاعتقال عن أنفسهم بالسلاح، الذي كان الحصول عليه بالغ السهولة.

يَظهرُ هذا الحذر المتبادل جلياً في أحد مقاطع الفيديو، حيث وصلت مظاهرةٌ إلى آخر جسر الميادين على الضفة المقابلة للفرات قرب ذيبان، ليهرب عناصر الأمن العسكري والشبيحة عن الحاجز نحو البساتين خوفاً من المتظاهرين، ويقوم أحد المتظاهرين بانتزاع بندقية أحد عناصر الأمن العسكري ويطلق بعض الأعيرة النارية في الهواء، فينهال عليه بعض المتظاهرين الآخرين بالشتائم طالبين منه إعادة البندقية. ويقول علي الرحبي إن «الشاب الذي انتزع البندقية كان عمره 16 عاماً، وقد تمت إعادة البندقية في اليوم التالي إلى الأمن العسكري بدون الرصاص الذي كان موجوداً في مخزنها».

توسعت المظاهرات في ريف الميادين أيضاً، وشملت القورية والعشارة والشحيل وغيرها، ولم يكن ممكناً أن يستمر الأمر على هذا النحو على كل حال، فالنظام كان قد أصبح والغاً في دماء السوريين، في حمص ودرعا وريف دمشق على وجه الخصوص، كما أنه كان يعتقل ويبالغ في إذلال وتعذيب عشرات الآلاف، ومنهم المئات من أبناء الميادين.

فارقَ عددٌ من أبناء الميادين وريفها حياتهم جراء حوادث إطلاق نار متفرقة في الريف في تلك الأيام، كما توفي الشاب محمود أكرم طعمة في 21 أيار 2011 في الميادين، وكان قد أحرق نفسه بعد أن خرج من اعتقالٍ قصير في فرع الأمن السياسي في البوكمال، وساهمت هذه الحوادث في تراكم الاحتقان والغضب.

كان محمد توفيق الدحام، ابن السبعة عشر ربيعاً، قد توجه إلى مدينة دير الزور لتقديم امتحانات الشهادة الثانوية، وكانت المظاهرات هناك قد أصبحت أكثر اتساعاً وتتعرض لقمع أكثر عنفاً، وفي مظاهرة الخامس من حزيران الغاضبة في دير الزور، والتي جابت شوارع المدينة بعد تشييع أحد الشهداء، أصيب محمد بطلق ناري أدى إلى استشهاده. كان تشييع محمد حاشداً في مدينة الميادين، وهو أول شهيد يتم تشييعه في مظاهرة غاضبة في المدينة، وكان نقطة تحولٍ في مسار التظاهر الذي أصبح أكثر انتظاماً وأوسع مشاركةً.

تصاعدت المظاهرات بعدها وأصبحت شبه يوميةٍ في شوارع الميادين وساحاتها، وسجل الحراك السلمي فيها محطات بارزة من بينها تسمية ساحة الباسل باسم الشهيد حمزة الخطيب في جمعة أطفال الحرية، وكذلك مظاهرة جمعة سقوط الشرعية التي شارك فيها عشرات الآلاف من أبناء المدينة وريفها، والمظاهرة الطلابية التي نظمها طلاب الجامعات العائدون من امتحاناتهم.

لم يغير النظام السوري من أسلوب عمله، إذ لم يلجأ إلى القمع الدموي للمظاهرات في الميادين، لكنه كان يستمر في شن حملات الاعتقال، وفي استخدام الشبيحة لإرهاب المتظاهرين، وإطلاق الرصاص في الهواء عند اقترابهم من مقراته11، ويستمر كذلك في عمليات الترغيب ومحاولة استمالة السكان عبر الضغط على وجهاء العشائر، وعبر توظيف أعدادٍ من أبناء المدينة، وتقديم الوعود بالإصلاح، وكانت إحدى محاولات الترغيب عبر دعوة بشار الأسد لمجموعة من وجهاء الميادين لمقابلته، وتم اختيارهم عن طريق الأمن العسكري وشعبة الحزب كما يقول أبو أحمد.

يقول علي الرحبي إن «النظام كان متواجداً بشكلٍ كبير في مدينة الميادين باعتبارها مركز المنطقة الإداري، وكان هناك مقرات للأمن العسكري والسياسي وأمن الدولة وقوات الهجانة، فضلاً عن البلدية وعشرات الحواجز والمفارز، في حين كان تواجده ضعيفاً في الأرياف، ومقتصراً على بعض المفارز والمخافر. ومنذ أواخر الشهر السادس أصبح تنفيذ النظام للاعتقالات والمداهمات أصعب في ريف الميادين، الذي كان السلاح منتشراً فيه بكثافة منذ أيام حرب العراق».

منذ ذلك الوقت كان أبناء الميادين يسمعون ليلاً وبشكل متواتر رشقات من الرصاص وأصوات اشتباكاتٍ محدودة، دون أن يعلن أحدٌ مسؤوليته عن هجمات أو قتلى، ودون تشييع أي ضحايا في المدينة. وبدا ريف الميادين آمناً بالنسبة للناشطين والمطلوبين والفارين من الخدمة والمنشقين، ويؤكد علي الرحبي أنه «منذ ذلك الوقت كان يكفي أن يغادر أي منا الميادين عبر أي طريقٍ فرعي لا تتمركز عليه قوات النظام الأمنية، حتى يصبح بمأمن من خطر الاعتقال».

بدأت قبضة النظام الأمنية تضعف في سائر مناطق محافظة دير الزور، وخاصة مع بدء الانشقاقات، ثم الإعلان عن تأسيس الجيش السوري الحر أواخر تموز، حيث أمّنَ عنوان الجيش السوري الحر وشعارُ مقاومة النظام بالسلاح غطاءً شرعياً مقبولاً شعبياً لكل عمليات التصدي للدوريات الأمنية. لكن ذلك لم يكن يعني تحولاً عن سلمية الثورة، إذ لم تكن فكرة التحرير وطرد النظام بالقوة من البلدات والمدن شائعةً، بل كان الجميع ينتظرون أن تتصاعد المظاهرات إلى اعتصاماتٍ كبرى تجبر النظام على إجراء تحولٍ سياسي، وكانت تباشير الاعتصامات تلك قد ظهرت في حماة ودير الزور على وجه الخصوص. كان هذا ما يدور في بال أغلب الناشطين ومنظمي المظاهرات، فيما كانت أصوات من يطالبون بفتح المواجهة العسكرية مع النظام تتصاعد رويداً رويداً.

هوامش

  1. ↑الكتاب مجموعة من المخطوطات التي تركها الراحل عبد القادر عياش، قام بإعدادها وتجميعها وليد مشوّح، ليصدر الكتاب في طبعته الأولى عام 1989 عن دار الأهالي للطباعة والنشر في دمشق. وعبد القادر عياش هو محامٍ وباحثٌ من أبناء دير الزور، ولد عام 1911 وتوفي عام 1974، وعمل إلى جانب المحاماة على الكتابة في كل ما يتعلق بدير الزور وريفها، وأصدر مجلة صوت الفرات على نفقته الخاصة على ما يقول الأديب عبد السلام العجيلي في تقديمه لكتاب حضارة وادي الفرات.
  2. ↑جاء في سفر التكوين، في الإصحاح 36، أن أحد ملوك آدوم الذين حكموا أرض إسرائيل هو «شاول من رحوبوت النهر»، ورحوبوت النهر هي رحوبوت على نهر إفراتة وفق تفسيرات كثيرة، فيما تذهب تفسيرات غيرها إلى أن المقصود هو منطقة على الضفة الشرقية للبحر الميت، أو ما يعرف في الكتابات التوراتية بأرض مؤاب.
  3. ↑أغلب المعلومات عن الرحبة والميادين حتى عام 1918، مأخوذة من كتاب الراحل عبد القادر عياش حضارة وادي الفرات، بعد مطابقته مع مصادر ومقالات وأحاديث متناثرة.
  4. ↑عبد القادر عياش – ص73.
  5. ↑للمزيد حول خطوط النفط ومحطات الضخ والاتفاقيات المتعلقة بها آن ذاك، الاطلاع على هذا المقال البحثي بعنوان النفط واكتشافه في العراق بقلم غانم العناز في موقع الموصل التراثي.
  6. ↑عبد القادر عياش – ص 73، 74.
  7. ↑ثمة عدة أقوال متداولة حول عشائر العكيدات، منها أن نسبها يرجع إلى «علي سالم الصهيبي» الذي ينحدر من أرض عقدة في حائل، لكن أكثر المرويات شيوعاً أنها مجموعة عشائر لا رابطة دم بينها، بل تعاقدت في أربعينيّات القرن الماضي، لتشكّل فيما بينها قبيلةً وجيشاً قادراً على قتال عشيرة شمّر التي كانت تغزو مناطق تواجدها على ضفاف الفرات والخابور.
  8. ↑عبد القادر عياش – ص72-73.
  9. ↑كان السلاح موجوداً أصلاً بين أيدي أبناء العشائر، ومعلومٌ أن الدولة لم تكن تتدخل لفض النزاعات العشائرية، وكانت كل عشيرة تسلح نفسها لإحداث توازن يحمي أبناءها.
  10. ↑خليل الهفل من مشايخ العقيدات في المنطقة، وعضو سابق في مجلس الشعب السوري.
  11. ↑فيديو يُظهر مراحل التظاهر في الميادين حتى أواخر حزيران.

ميادين الفرات الرحبة (2 من 2)

هذا النص هو محاولة قد تكون الأولى لكتابة تاريخ مدينة الميادين في زمن نظام الأسد وزمن الثورة عليه، وقد اعتمدتُ فيه على مصادر قليلة ومتناثرة، وعلى لقاءات مع عددٍ من أبناء المدينة وناشطيها، الذين لم تُذكر أسماء بعضهم مطلقاً، وذكرت أسماءٌ مستعارة لبعضهم الآخر، ووافق اثنان منهم فقط على ذكر الأسماء الصريحة، ولهم جميعاً أتوجه بجزيل الشكر والعرفان.

سيجد القراء في هذا النص ثغرات ونواقص كثيرة دون أدنى شك، لكن كتابة تاريخ سوريا، ومنطقتها الشرقية على وجه الخصوص، تصطدم بعقبات أبرزها شحُّ المعلومات عن الحياة تحت حكم الأسديين، والفوضى وتضارب المصادر والروايات في زمن الثورة، والخوف الذي عاد ليحكم قبضته على حياة أبناء الفرات، بعد أن حطموه بثورتهم الشجاعة عام 2011.

سبق أن تم نشر القسم الأول من هذا النص، وهذا هو القسم الثاني.

*****

الجيش الحر في أحياء الميادين

زجَّ نظام الأسد بالجيش والمدرعات في المواجهة على نطاقٍ واسعٍ اعتباراً من أواخر تموز 2011، ساحقاً جميع الآمال بإمكانية إجباره سلمياً على أي تحولٍ سياسي، بعد أن احتلت مدرعاته ساحات الاعتصامات في طول البلد وعرضها.

توجهت أرتال الجيش النظامي لحصار دير الزور واقتحامها بعد أن شهدت هي ومدنها وأريافها مظاهرات واعتصامات شارك فيها مئات الآلاف، وترافقت تلك العمليات العسكرية الواسعة مع انشقاق أعدادٍ كبيرة من جنود النظام، والبدء بتحول الثورة من المسار السلمي إلى المسار المسلح.

بدأ النظام بعد اقتحام دير الزور بتوسيع دائرة الاقتحامات لتشمل بلدات في ريف الميادين، من بينها القورية في 24 آب، ودخلت بعضٌ من آليات الجيش إلى الميادين في اليوم نفسه في محاولة لترهيب السكان. ولم يكن ممكناً بالنسبة لقوات النظام السوري الاستقرار في ريف الميادين الواسع والمسلح، بل كانت السيطرة على دير الزور ومراكز المناطق كالميادين والبوكمال أكثر أهمية بالنسبة لها، حيث كانت تنفذ اقتحاماتٍ في بلدات الريف ثم تنسحب إلى ثكناتها، وهكذا بات سائر ريف الميادين أشبه بمناطق محررة بحكم الأمر الواقع، فيما بقيت الميادين نفسها تحت سيطرة النظام السوري.

يقول أبو أحمد «أحدث الجيش ثكنتين عسكريتين كبيرتين في الميادين، الأولى كتيبة المدفعية، والثانية ثكنة مسبق الصنع، وهي أبنية حديثة غير مسكونة وغير جاهزة في حي البلعوم شمال غرب الميادين. أدى اقتحام الجيش وتمركزه في هاتين النقطتين، وتدعيم المقرات الأمنية بآليات عسكرية، إلى توقف الحراك السلمي فترةً من الزمن عندما وجد المتظاهرون أنفسهم في مواجهة الجيش، ثم عودته بشكل تدريجي على شكل مظاهرات خاطفة في داخل الأحياء، وبإعداد أقل من المتظاهرين».

عادت سلطة النظام إلى التآكل في الميادين مع عودة المظاهرات إلى الأحياء، وإن بأعداد محدودة قياساً بما كان عليه الحال قبل دخول الجيش، وذلك بالتزامن مع تآكلها في عموم حوض الفرات رغم محاولات الاقتحام والإخضاع المتكررة، ورغم القصف المدفعي اليومي الذي كانت كتيبة المدفعية تنفذه على أهدافٍ كانت مجهولةً وقتها بالنسبة لسكان الميادين كما يقول أبو أحمد.

تأخر تنظيم العمل المسلح في الميادين لأسباب شتى أبرزها «القبضة الأمنية القوية وشبكة المخبرين التي تعمل لصالح النظام، وعدم رغبة أهل الميادين في عسكرة الحراك» كما يقول عبود الصالح. وتأخر ظهور كتائب الجيش السوري الحر بشكلٍ علني في ريف الميادين أيضاً قياساً بمناطق أخرى في البلاد، وربما يرجع ذلك إلى البنية العشائرية في الريف.

لعل أولى كتائب الجيش السوري الحر التي أُعلن عن تأسيسها في ريف الميادين، كانت كتيبة القعقاع في القورية في 25 تشرين الثاني 2011، تلاها تأسيس كتائب تباعاً في العشارة والشحيل وغيرها من بلدات ريف الميادين، ورغم أن الحراك السلمي في منطقة الميادين لم يكن يمكن الفصل فيه بين حراك المدينة وحراك ريفها، إذ كان أبناء الأرياف يشاركون في مظاهرات المدينة، وكان الناشطون الملاحقون يلجؤون إلى بلدات الريف عند المداهمات الأمنية، إلا أن الأمر كان مختلفاً فيما يتعلق بتنظيم الحراك العسكري، لأسبابٍ شتى أبرزها أن عشائر المدينة غير عشائر ريفها.

بدأ أبناء الميادين الانتظام في كتائب تحت مسمى الجيش السوري الحر أسوة بأبناء الريف اعتباراً من أوائل عام 2012، ويقول أبو محمد الذي عاش تلك الأيام في الميادين، وكان واحداً من ناشطيها: «الكتائب التي تشكلت تباعاً من أبناء المدينة هي كتائب: أبو الحسنين، أسود التوحيد، أسامة بن زيد، عباد الرحمن، جنود الحق، والرحبة، وغيرها. ولم يكن لهذه الكتائب مقرات علنية في البداية، وكان تواجدها في محيط الميادين وفي الأحياء على نحوٍ غير معلن. أما قادة هذه الكتائب فقد كانوا من المثقفين والجامعيين، وكان بينهم أطباء أسنان وصيادلة على وجه الخصوص».

يصعب تتبع مسار هذه الكتائب وأسلوب عملها ومصادر تمويلها وأسباب تعددها بدقة، وذلك لأسبابٍ شتى أبرزها صعوبة توثيق أشياء كهذه لسريتها وتداخلاتها العشائرية والسياسية، وعدم اهتمام هذه الكتائب بالجانب الإعلامي، ولأنها لم تكن تتمركز في أماكن معلومة ولم تكن تخوض مواجهات عسكرية، بل اعتمد عملها على الاغتيالات والكمائن الخاطفة خلال النصف الأول من عام 2012. ولم أتمكن من العثور على بيانٍ مصورٍ لتأسيس أي كتيبة من هذه الكتائب، سوى كتيبة أسامة بن زيد، ويبدو عناصرها ملثمين ويقومون بتصوير الفيديو داخل أحد المنازل.

يقول علي الرحبي إن «هذه الكتائب كانت خلال الأشهر الأولى تعتمد في تسليحها وتمويلها على السلاح المحلي المتوافر، وعلى تمويل تجار ومشايخ ووجهاء عشائر سوريين، ولكنها لاحقاً تحولت إلى الاعتماد على التمويل الخارجي من دول الخليج العربي على وجه الخصوص».

مع اتساع العمل العسكري وتزايد متطلباته، بدأت محاولات مأسسة عمل المعارضة السياسي والعسكري عبر المجلس الوطني السوري، وعبر المجالس العسكرية الثورية، ومنها المجلس العسكري الثوري في المنطقة الشرقية، الذي تم تأسيسه في 29 حزيران 2012.

ترافق وجود هذه الكتائب مع استمرار المظاهرات السلمية، وكان في الميادين عدة تنسيقيات وتجمعات ثورية مدنية تقوم بتنظيم الحراك السلمي بالتنسيق مع الكتائب المسلحة، وكانت المظاهرات التي بدأت تعود بشكل أوسع تتجنب التوجه نحو المقرات الأمنية ومراكز النظام المدعمة بالجيش، الذي بات الوضع بالنسبة له مختلفاً الآن، بعد أن أصبح مسلحو الجيش السوري الحر في كل مكان داخل الميادين وحولها.

التحرير

بدأت كتائب الجيش السوري الحر تدخل في تحالفات أوسع، وتتجه إلى تشكيل ألوية أكثر تنظيماً، وتنسق العمل العسكري فيما بينها، ولم يعد يقتصر عملها على حماية الأحياء والمظاهرات وإرباك النظام في محيط المدينة، بل انتقلت اعتباراً من مطلع تموز إلى مهاجمة مقرات النظام والمفارز الأمنية في الميادين ومحيطها، في سياق حرب التحرير التي كان ثمة اعتقادٌ سائدٌ أنها ستنتهي بطرد النظام من سائر مناطق سوريا تباعاً، وصولاً إلى العاصمة.

كذلك بدأت بالظهور في تلك الفترة مجموعات تابعةٌ لأحرار الشام وجبهة النصرة، لا ترفع شعار الجيش الحر ولا علم الثورة السورية، وتتبنى السلفية الجهادية وتشارك في العمل العسكري، وكان تواجدها في الأرياف أوسع منه في المدينة، وبدأت الشحيل في ريف الميادين تُعرف بوصفها معقل جبهة النصرة الأبرز في سوريا منذ ذلك الوقت.

يرتبط طرد النظام من مدينة الميادين نهائياً، والسيطرة على جميع مقراته ومفارزه فيها، باستشهاد الشاب لؤي عادل البطاح، إذ خرجت مظاهرة سلمية في مدينة الميادين باتجاه شارع الجيش في 26 تموز 2012، وتعرضت لإطلاق نارٍ من قبل عناصر الأمن العسكري ما أدى إلى استشهاد لؤي، وهو ما أعقبه انطلاق عملية تحرير المدينة.

يقول علي الرحبي: «كان لؤي شاباً محبوباً ومعروفاً على نطاقٍ واسع في الميادين، وأثار استشهاده غضب الجميع، والأرجح أن هذا الغضب أمّن الأجواء المناسبة وكان شرارة إشعال معركة تحرير الميادين التي انطلقت في اليوم التالي». أما أبو محمد، فيؤكد أن تحرير الميادين لم يكن مخططاً له بدقة، لكنه أيضاً لم يكن ردة فعل على استشهاد لؤي بالمعنى المباشر، ويقول في التفاصيل: «كانت كتيبة أسود التوحيد قد خططت لضرب سيارتين تابعتين للأمن العسكري، وتصادفَ استشهاد لؤي في اليوم السابق للعملية. وبالفعل تم تنفيذ الهجوم ومقتل عدد من عناصر الأمن العسكري، من بينهم العنصر الذي أطلق النار على المتظاهرين يوم استشهاد البطاح، ويبدو أن الغضب العارم جراء استشهاده، والثقة بعد تدمير السيارتين، والرغبة العارمة في الخلاص من النظام، قد دفعت جميع كتائب الميادين إلى البدء بمهاجمة حواجز النظام ومقراته، ليصبح النظام خارج الميادين في غضون أسبوعين أو أكثر بقليل».

يقول عبود الصالح: «كان ثمة تخطيطٌ لتحرير المدينة ومحيطها، وخاصة كتيبة المدفعية التي أذاقت الريف الأمرين، وتشهد على ذلك العمليات العسكرية التي تصاعدت في محيط الميادين خلال شهر تموز 2012. كان هناك آراء تقول بضرورة تحرير كتيبة المدفعية أولاً لتجنيب المدينة الدمار فيما لو تم تحريرها أولاً، في حين ذهبت آراء أخرى إلى ضرورة تحرير المدينة أولاً لتأمين حركة المقاتلين في المنطقة أثناء خوض معركة المدفعية التي ستكون صعبةً جداً، لكن الأحداث ذهبت باتجاه تحرير المدينة قبل المدفعية، ولعل استشهاد البطاح قد لعب دوراً في اتخاذ القرار بضرب الأفرع الأمنية وإزالتها من المدينة».

شاركت في تلك العمليات فصائل الميادين وفصائل ريفها التي لعبت دوراً بارزاً، فتمت السيطرة على مقر أمن الدولة في الأول من آب، ثم الأمن السياسي في 4 آب، ثم الأمن العسكري في 7 آب، وأخيراً كتيبة الهجانة في 24 آب. يستذكر أبو محمد تلك الأيام فيقول: «قامت مجموعة من الناشطين بالتوجه نحو السرايا الحكومية أثناء عمليات التحرير، وتم إفراغها من وثائق النفوس ووثائق الملكية العقارية، وحفظها كلها في مكان آمن. وبدأنا التفكير بضرورة تأسيس لجنة مدنية من وجهاء وأعيان ومثقفي الميادين لإدارة حياة السكان فيها بعد اكتمال التحرير، والاستعداد لمرحلة جديدة ستكون أكثر دموية بعد أن زجّ النظام بالطيران الحربي بكثافة، وبدأ بارتكاب مذابح عبر القصف الجوي والقصف المدفعي من ثكنته المجاورة المعروفة بكتيبة المدفعية.

انعقد اجتماع أول للأهالي في جامع الشرعية للنقاش العام حول مسألة إدارة المدينة، والثاني في جامع الحسن، وكان هناك بالتوازي مع الاجتماعين عمل مكثف لترتيب الأوضاع. تم إطلاق تجمع أحرار الميادين، وتم تشكيل لجنة مدنية وعدة مكاتب: إعلامي – عسكري – علاقات عامة، وجرت محاولات لتنسيق عمل مكاتب الإغاثة المتعددة. لم تتخذ اللجنة مقراً، ولم تعلن عن نفسها تجنباً لكثير من التعقيدات المحلية والعشائرية، ورغبةً في عدم الخوض في مسائل تتعلق بالصلاحيات ومصدرها.

كان هناك تكاتفٌ كاملٌ بيننا كناشطين مدنيين وبين مسلحي الفصائل، وكان تجمع أحرار الميادين الناشئ حديثاً يقوم بإعداد الوجبات بشكل يومي لجميع المقاتلين المشاركين في المعارك».

بحلول الرابع والعشرين من آب، كانت الثكنة العسكرية الوحيدة للنظام في منطقة الميادين هي كتيبة المدفعية المجاورة لقلعة الرحبة، التي كانت عبارة عن مستودعات كبيرة لمؤسستي الأعلاف والكهرباء، تحصن فيها النظام مع قطع مدفعية ثقيلة راحت تمطر الميادين وريفها بالقذائف يومياً موقعةً كثيراً من الضحايا.

في تلك الفترة حصلت تحولات في وضع الفصائل العسكرية، وبدأت تأخذ مقرات علنيةً لها، وتحالفت كثيرٌ منها معلنةً تشكيل لواء أسود السنة في 14 أيلول 2012، كما حصلت انشقاقات عن بعض الكتائب، أبرزها انشقاق حسام الشلوف مع عدد كبير من المقاتلين عن كتيبة أبو الحسنين، وإعلان تأسيس كتيبة الشهيد صدام حسين، وتجدر الإشارة إلى أن الموقف من شخصية الرئيس العراقي السابق صدام حسين كان إشكالياً، إذ كانت صوره تُرفع في بعض التظاهرات، ما كان يسبب توتراً وخلافات بين الناشطين، وتبدو هذه الحساسية واضحة في فيديو إعلان تشكيل الكتيبة، المذيل بعبارة: عذراً من الإخوة الذين يختلفون معنا في الرأي.

في مطلع شهر تشرين الثاني بدأت فصائل الميادين وريفها معركة تهدف إلى تحرير كتيبة المدفعية، وبدأت بقطع خطوط الإمداد عنها ثم حصارها، بالتزامن مع عمليات تحرير مدينة البوكمال، لتصبح اعتباراً من منتصف الشهر ثكنة النظام العسكرية الوحيدة على طول حوض الفرات من الحدود العراقية وحتى مشارف دير الزور، ولتنتهي المعركة باقتحام الكتيبة والسيطرة عليها في الثاني والعشرين من تشرين الثاني.

بتحرير كتيبة المدفعية، لم يعد النظام قادراً على استهداف الميادين إلا من الجو، لتبدأ مرحلة جديدة من حياة المدينة.

دروب الحرية المغلقة

كان لعام ونصفٍ من المظاهرات والمعارك أثرٌ بالغٌ على الميادين وأهلها وبنية العلاقات الاجتماعية فيها، إذ تصاعدَ دور الانتماء العشائري والعائلي لجهة الدور الحمائي الذي تلعبه العشيرة بالنسبة لأبنائها في ظل غياب دور الدولة الذي كان ضعيفاً في هذا المجال أصلاً. لكن هذا التصاعد ترافق مع ما قد يبدو نقيضاً له، وهو تراجع الأحقاد العشائرية والعائلية، واستعدادٌ واسعٌ للتعاون في مواجهة الأخطار الوجودية العامة، وكذلك تحسن العلاقة بين الريف والمدينة، خاصة بعد المشاركة الواسعة لكتائب الريف في تحرير المدينة.

من أمثلة ذلك ما يرويه علي الرحبي: «كان هناك خلافات وثارات قديمة بين عائلتي الوهيبي والجبر في المدينة، والعائلتان من عشيرة البوخليل، لكن قصفاً لقوات النظام استهدف أحد بيوت عائلة الجبر وأدى إلى استشهاد أكثر من 18 شخصاً منهم. كان المشهد مخيفاً، وفوجئ الجميع بعائلة الوهيبي قد جاءت إلى مستشفى نوري السعيد للمساعدة والتبرع بالدم، كان هذا غير مألوفٍ في النزاعات العشائرية والدموية التي كانت تستمر عقوداً».

أيضاً قصدَ مدينة الميادين التي كانت آمنةً نسبياً، ولم تتعرض لقصفٍ مدفعي أو جويٍ على نطاق واسع إلا بدءً من معركة تحريرها، عشرات آلاف النازحين من أنحاء البلاد، سواء من دير الزور وريفها أو من حمص وغيرها، وأدى ذلك إلى تضاعف عدد سكانها، وأحدث تغييراً في بنيتها السكانية.

أما التغيير الثالث فكان تزايد حضور الخطاب الإسلامي، والسلفي منه على وجه الخصوص، في المدينة وريفها، واختلاط خطاب الثورة الداعي لإسقاط النظام وتحرير البلاد من استبداده، مع طروحات الدولة الإسلامية وضرورة تحكيم الشريعة.

يبدو صعباً تتبع مسار الأحداث وتفسيرها في ظل شحُّ المعلومات عن تلك الفترة، وعدم وضوح مسارها، لكن السمة الأساسية لعام 2013 في الميادين كان تراجع الجيش الحر وشعاراته وخطابه، وخنق تجربة المجلس المحلي والإدارة المدنية، لصالح صعود السلفية، وسيطرة جبهة النصرة وخطابها.

لم يتعرض شبيحة النظام في بلدة ذيبان لأي أعمال انتقامية بعد التحرير، ويقول عبود الصالح إن «الفصائل اتخذت قراراً بذلك لتجنب الفتنة العشائرية، وتقديراً لتضحيات كثيرٍ من أبنائها الذين قاتلوا في صفوف الجيش الحر وفقدَ بعضٌ منهم حياته. أما أديب السطام فقد تم تسريحه من الأمن العسكري، وعاد إلى ذيبان مستفيداً من التوازن العشائري، لكنه تعرض لمحاولة اغتيالٍ كادت تودي بحياته لاحقاً، على الرغم من التسويق له بوصفه ضابطاً منشقاً»1.

تزامنَ تحرير كتيبة المدفعية مع تأسيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في 11 تشرين الثاني، وتوسيع العمل على تأسيس مجالس محلية في المناطق المحررة، ويقول أبو محمد عن تلك الأيام: «لم تعلن اللجنة المدنية عن نفسها في البداية كما قلنا، لكن الائتلاف أعلن عن أعضائها بوصفهم مجلس الميادين المحلي، وأبلغهم أنه تم تخصيص مبلغ 100 ألف دولار لمجلس الميادين المحلي.

أثار هذا غضب السكان، الذين كانوا يعتقدون أن أعضاء اللجنة المدنية خططوا للاستيلاء على السلطة في المدينة دون التشاور مع أحد، وكان هناك اعتقادٌ شائعٌ أن المجالس المحلية ينتظرها مستقبلٌ كبيرٌ في البلاد. اجتمع أعضاء اللجنة مع الوجهاء والأعيان ومن أراد من أبناء البلد في أحد المساجد، وتعرضوا لهجومٍ حاد، لكنهم شرحوا أنه إذا لم يكن هناك مجلسٌ محليٌ في هذه اللحظة، فإن الميادين ستخسر مبلغ الـ 100 ألف دولار المخصص، وهي بحاجة ماسة إليه، وخاصة لشراء مطحنة ضخمة لمخزون القمح، حيث كانت المدينة تحتاج إلى 10 أطنان يومياً من الدقيق، وهو ما لا تستطيع المطاحن الصغيرة الموجودة تأمينه.

تم التوافق على أن يستمر أعضاء اللجنة المدنية مجلساً محلياً مدة شهرين، يقومون خلالها باستلام المبلغ أصولاً وإنفاقه على الخدمات في المدينة، على أن يتم خلال هذين الشهرين وضع آليةٍ لتأسيس مجلس محلي يكون محل إجماعٍ وتوافق.

نصت الآلية المقترحة على تقسيم المدينة إلى قطاعات جغرافية هي الشرق والوسط والغرب، وأن يكون هناك هيئة عامة على أساس عشائري ومناطقي من 75 عضواً تختارهم العشائر، كل عشيرة وفق عددها، ومن الهيئة العامة ينبثق المجلس المحلي المُجمَع عليه.

لم يكن عمل المجلس المحلي مُرضياً، وبدأ أغلب أعضاء الهيئة العامة يتخلفون عن حضور الاجتماعات، فاقترحنا كناشطين مدنيين بعد التشاور مع حقوقيين وقضاة آلية جديدة تخفف من العشائرية وتشرك مؤسسات المجتمع المدني. كان قد تأسس في الميادين أكثر من 35 منظمة عمل مدني، ونصت الآلية الجديدة على أن يكون لكل منظمة ممثل في الهيئة العامة من أصل 75 عضواً، والباقي من وجهاء العشائر وفق الآلية السابقة، وهو ما خفف من تأثير العشائرية، وأدى إلى انبثاق مجلسٍ محلي أفضل عملاً».

يسلط ما تقدم الضوءَ على صعوبات الإدارة المحلية في ظل العشائرية، لكن يبدو أن هناك خطوات متقدمة كان يتم إنجازها رغم ذلك، وكان المجلس المحلي يعتمد على تبرعات الداعمين والمغتربين، وعلى المشاريع المشتركة مع الائتلاف والحكومة المؤقتة، ولكن هذا لم يكن كافياً على ما يبدو، وكان هناك تناقضات وعوائق أخرى حالت دون نجاح تجربة العمل المدني.

يقول علي الرحبي إن «سمعة فصائل الجيش الحر بدأت تسوء، بسبب عدم انضباطها والفوضى في عملها وقيام بعض عناصرها بالاستيلاء على محتويات الدوائر الرسمية وبيعها أو استخدامها. وفي وقتٍ لم يكن فيه المجلس المحلي قادراً على تأمين كل احتياجات السكان، بدأت المجموعات السلفية وعلى رأسها جبهة النصرة وأحرار الشام تقدم كثيراً من الخدمات، ومن أمثلتها تأمين جبهة النصرة الغاز المنزلي للسكان بعد سيطرتها على حقل كونيكو في ريف دير الزور الشرقي. كذلك، كانت جبهة النصرة أكثر انضباطاً وتنظيماً، وتحمل مشروعاً واضح المعالم، خلافاً للجيش الحر وفصائله المتعددة. وترافق ذلك مع صعود المد الديني وتصاعد أسهم السلفية وحضورها في عموم سوريا».

يتحدث أبو أحمد عن تلك الفترة فيقول: «كانت السلفية تغزو عقول الشباب، والجامعيين منهم على وجه الخصوص، في ظل الصراع الدموي مع النظام وتردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية في عموم سوريا، وكان حزب التحرير الإسلامي نشطاً ويقوم بطباعة آلاف المنشورات التي يدعو فيها لقيام خلافة على منهاج النبوة، ولم يكن لهذا الحزب جناح عسكري كما هو معروف، لكن صدى دعواته ودعوات عشرات المشايخ ودعاة السلفية كان يظهر من خلال انضمام الشبان إلى جبهة النصرة وغيرها من الفصائل السلفية والإٍسلامية، فيما كانت فصائل الجيش الحر غارقة في خلافاتها وفساد بعض قادتها، وتغيب جميع المشاريع الأخرى التي يمكن تنافس الخطاب الإسلامي على عقول وقلوب الناس، وفيما كان المجلس المحلي يفشل في تقديم ما يلزم من خدمات بسبب قلة موارده، وبسبب رفضِ الخطاب السلفي والكتائب الإسلامية للتعاون معه بوصفه مرتبطاً بجهات علمانية وغربية كافرة وفق المصطلح الذي بدأ يشيع وقتها».

كانت بوادر تشرذم قوى الثورة السورية في المنطقة قد بدأت منذ أواخر 2012، ويقول عبود الصالح: «أثناء معركة المدفعية، وبدل العمل على دعم المجلس العسكري الثوري، الذي كان ضعيفاً ويعاني من انعدام القرار المركزي وسوء التخطيط واتهامات بالفساد، تم الإعلان في 11 تشرين الثاني 2012 عن جبهة الأصالة والتنمية، التي ضمت عدداً من كتائب الجيش الحر التي كان بعضها منضوياً أصلاً في المجلس العسكري. وعلى الرغم من أن الجبهة لعبت ولا تزال دوراً عسكرياً بارزاً في مواجهة النظام، إلا أن قيامها على ذلك النحو كان خطوة غير مفهومة، وساهمت في تشتت قوى الثورة المسلحة. كذلك أعلنت فصائل إسلامية على رأسها جبهة النصرة، التي كانت بلدة الشحيل في ريف الميادين معقلها الرئيسي في سوريا، في العاشر من آذار 2013، عن تأسيس الهيئة الشرعية في المنطقة الشرقية، واتخذت من مدينة الميادين مقراً لها، وبدأت تعمل على فرض رؤيتها ومنهجها، وأدت هيمنة النصرة عليها إلى انسحاب عدة فصائل لاحقاً. وعلى التوازي تشكلت الهيئة الشرعية العليا المدعومة من بقية فصائل الجيش الحر، لكن دورها كان ضعيفاً».

يقول أبو محمد إن المجلس المحلي منذ تأسيسه عمل على «تأسيس كتيبة أمنية تابعة له، وعمل بالتعاون مع محامين وقضاة على إعادة صياغة قانون العقوبات بما يتوافق مع الشريعة الإٍسلامية، لكن هذه التجربة لم يكتب لها كثيرٌ من النجاح.

تصادم عناصر جبهة النصرة مع عناصر الكتيبة الأمنية وحاولوا اقتحام مقرها مرتين بغية إنهاء عملها، لكن قسماً من الأهالي دافع عن الكتيبة الأمنية، إلى أن تمكنت جبهة النصرة من اقتحام المقر والسيطرة عليه قبل نحو شهرٍ من سيطرة داعش على المدينة».

من الأحداث البارزة في تلك المرحلة، والتي تحمل دلالات حول وضع قوى الثورة السورية، تعرض العقيد رياض الأسعد، مؤسس الجيش الحر، لمحاولة اغتيالٍ في الميادين في آذار 2013. كان العقيد في زيارة سرية تتعلق بالجيش الحر ووضعه في المنطقة الشرقية، وانفجرت عبوة لاصقة مضبوطة بمؤقت زمني بسيارته وأدت إلى بتر ساقه. لم يوجه الجيش الحر رسمياً أي اتهامٍ لأي جهة، ولاحقاً تم تحميل شريطين مصورين يظهران رياض الأسعد في الميادين وقرب قلعتها قُبيل محاولة اغتياله.

في التاسع من نيسان عام 2013، تم الإعلان عن قيام الدولة الإسلامية في العراق والشام، وهو ما رفضته قيادة جبهة النصرة، لتصبح الدولة الإسلامية فصيلاً جديداً في الساحة السورية. وقد انعكس ذلك شقاقاً في عموم سوريا، لكن تواجد أنصار تنظيم الدولة في الميادين كان ضعيفاً، وكان هذا الإعلان دافعاً لجبهة النصرة إلى محاولة تدعيم سيطرتها وفرض إرادتها في المنطقة خوفاً من تمدد أنصار تنظيم الدولة.

كان ثمة مقاومةٌ من نوعٍ ما لهيمنة جبهة النصرة على المنطقة، لكنها كانت مقاومةً غير مجدية، ولم يكن لها سندٌ عسكري، وخرجت عدة مظاهرات ضد جبهة النصرة نظمها ناشطون في المدينة، ولم أتمكن من العثور على أي تسجيلٍ مصورٍ لها، لكن جميع من التقيتهم من أبناء الميادين تحدثوا عن مظاهرة طالب فيها بعض أبناء المدينة جبهة النصرة بإخلاء مقرها المجاور لمشفى الأطفال في المدينة بسبب قصفه المتكرر من قبل طائرات النظام، واقترحوا على الجبهة نقل مقرها إلى مستودعات الأعلاف والكهرباء التي كانت سابقاً مقر كتيبة المدفعية، فكان رد جبهة النصرة غاضباً إلى درجة أنها قامت بنسف المستودعات.

يقول أبو أحمد إن «جبهة النصرة وأنصارها ودعاة الخلافة الإسلامية بدأوا منذ ذلك الوقت يطلقون على كل معارضٍ لهم وصف ’الصحوات‘، في استعارةٍ للمصطلح العراقي، ويتهمونهم جميعاً بالردة والكفر». ويروي أبو محمد أن «المجلس المحلي حاول تجنب الاتهامات الموجهة له بالكفر والعلمانية والارتباط بالغرب من خلال إصداره بياناً يقول فيه إنه ليس تابعاً للائتلاف، وإنه مستعدٌ لتلقي الدعم من أي جهة تريد دعم الشعب السوري، لكن هذا لم يمنع أنصار جبهة النصرة والسلفية من مواصلة التحريض ضده».

مع التحالفات والارتباطات المتغيرة، وعدم وضوح نهج وهدف الفصائل متعددة الارتباطات والتبعيات، كانت تبدو جبهة النصرة الأكثر تماسكاً وقوةً ووضوحاً في مشروعها، وخاصة بعد صعود تنظيم الدولة الإسلامية الأكثر تطرفاً، وصعود جبهة النصرة بوصفها حامياً للمنطقة من تمدده ومن قوات النظام. ويعتقد عبود الصالح أن «فصائل الجيش الحر تتحمل مسؤولية كبرى في ذلك، لأنها لم تكن مهتمةً بتأمين احتياجات الناس، ولم تكن تدعم المنظمات المدنية، ووجدت جبهة النصرة في ذلك ممراً إلى قلوب الناس، عبر تأمين احتياجاتهم. كانت جبهة النصرة تعمل بصبرٍ وذكاء على كسب الحاضنة الشعبية، فيما كانت فصائل الجيش الحر غارقة في العسكرة وشؤونها، وفي خلافاتها وارتباطاتها المتضاربة».

انشغل كثير من أبناء العشائر باستثمار النفط الموجود في أراضيهم بشكل عشوائي وبوسائل بدائية، وأدى ذلك إلى تلوثٍ في البيئة وصراعات على النفوذ والسيطرة، كانت من بين عوامل ضعف المنطقة والشقاق بين أهلها وزرع بذور الفرقة والتشكك بينهم. ويرى عبود الصالح أن «النفط كان كارثة المنطقة، لكن استثماره من قبل العشائر كان في أحد وجوهه ردة فعل على حرمان طويل من عوائد النفط، وكان له فائدة اقتصادية كبيرة للمنطقة التي تخلى عنها العالم، وكان نقمةً كبرى جاءت بالصراعات في الوقت نفسه».

أما أبو أحمد فيقول إن «استثمار النفط كان كارثة كبرى، لأنه أدى إلى صراعات وإهدار طاقات ودماء كثير من شباب المنطقة. كما أنه أدى إلى إثراءِ كثيرين على حساب عذابات الناس، ومنحِ الكتائب والمجموعات التي استأثرت به سلطة وثروات لم يتم استغلالها لتحسين أوضاع السكان، بل لتدعيم سيطرة وهيمنة تلك الجهات، ويعكس تقرير المرصد السوري لحقوق الإنسان في نيسان 2014 جانباً من أثر النفط على عموم دير الزور»2.

بقي حقل العمر النفطي بيد قوات النظام عبر اتفاقٍ غير معلن، حتى سيطرت عليه جبهة النصرة في 23 تشرين الثاني 2013، بمؤازرة بعض الكتائب، ويبدو أن هذه السيطرة جاءت استباقاً لسيطرة تنظيم الدولة عليه، وكانت المعركة محدودة وقليلة الخسائر.

هكذا غدت جبهة النصرة مع أواخر 2013 القوة الأكبر والأكثر سيطرةً في الميادين، بالاعتماد على دعم معقلها الأبرز في الشحيل، وعلى سائر الظروف التي تحدثنا عنها. وبقي في الميادين فصائل أخرى تابعة للجيش الحر وجبهة الأصالة والتنمية، بالإضافة إلى أحرار الشام المنضوية في الجبهة الإسلامية التي تأسست أواخر 2013، وعدة كتائب صغيرة مستقلة، فضلاً عن قوى وتجمعات مدنية والمجلس المحلي وهيئته العامة، ولكن لم يكن أي من هذه القوى العسكرية والمدنية يخوض مواجهةً جديةً مع جبهة النصرة وهيمنتها.

الاحتلال

كان ثمة توترات وصدامات قد حصلت بين تنظيم الدولة وسائر الفصائل في سوريا، وخاصة حركة أحرار الشام الإسلامية، وتطورت مطلع عام 2014 إلى حرب شاملة شاركت فيها النصرة بعد تردد، وكانت داعش قد استهلت ذلك الصراع في الميادين بنسف مقر حركة أحرار الشام الإسلامية هناك بسيارة مفخخة في 7 كانون الثاني 2014.

تم طرد التنظيم من سائر مناطق إدلب ومدينة حلب وريفها الغربي والجنوبي والشمالي، وعمل التنظيم في المقابل على بسط سلطانه شرق البلاد وشمالها الشرقي، مستفيداً من عناصره الذين انسحبوا من شمال البلاد، ومن السلاح والعتاد المتطور الذي تم الاستيلاء عليه من مخازن الجيش العراقي.

يروي عبود الصالح حكاية حسام الشلوف في تلك المرحلة، والتي تسلط الضوء على بعض التعقيدات والتشابكات، فيقول: «كان حسام الشلوف، قائد كتيبة صدام حسين، من القادة العسكريين بالغي الشجاعة، ولم يكن لديه اتجاه سلفيٌ ظاهرٌ مطلقاً، وكان دائم التمرد على قرارات جبهة النصرة، التي ضيقت عليه وحاولت اغتياله. ومع بدء المعركة مع داعش، تم طرد عناصرها من مقرهم في المدينة، واتهمت جبهة النصرة حسام الشلوف بمبايعة داعش وقامت باعتقاله. نفى حسام الشلوف علاقته بداعش، لكن النصرة قدمت أدلة على تورطه باتصالات معها، غير أنها أُجبرت على إطلاق سراحه تحت ضغطٍ شعبي، ليغادر المدينة مع عناصره، وينضم لاحقاً إلى تنظيم الدولة. لا يشغل حسام موقعاً عسكرياً في التنظيم اليوم، بل هو أحد مسؤولي العلاقات العامة فيه، ولا مجال لمعرفة حقيقة ما جرى في تلك الأيام، لكنني أرجح أن انضمامه لداعش كان بسبب ضغط النصرة عليه، وليس لسبب عقائدي».

كانت معركة مركدة في ريف الحسكة فاصلةً، إذ نجح التنظيم في دحر جبهة النصرة والفصائل المساندة لها في آذار 2014، وخسرت الميادين في تلك المعركة أكثر من أربعين من أبنائها. بعدها نجح التنظيم في السيطرة على البوكمال إثرَ معارك طاحنة وطويلة مع فصائل الجيش الحر وجبهة النصرة، تبادل فيها الطرفان السيطرة عدة مرات، لينتهي الأمر بانسحاب جبهة النصرة والفصائل نهائياً منها أواخر حزيران، بالتزامن من إعلان التنظيم الخلافة الإسلامية، ودعوة جميع الفصائل إلى البيعة أو الاستعداد للقتال.

في أوائل تموز انسحبت جبهة النصرة من سائر مناطق ريف دير الزور بعد معارك متفاوتة العنف، وبعد أن أصبح مصير المعركة محسوماً إثر سقوط البوكمال، ودخلت قوات الخلافة الناشئة الشحيل معقل جبهة النصرة، وحقل العمر النفطي، ومدينة الميادين، في الثالث من تموز، ليصبح كل ريف دير الزور خاضعاً لسيطرة داعش.

يقول أبو محمد إنه «لم يكن هناك معارك جدية مع داعش في محيط الميادين، أما الميادين نفسها فقد سيطر عليها التنظيم دون إطلاق رصاصة واحدة. قررت جبهة النصرة الانسحاب، وانسحبت بعض الفصائل الأخرى بسلاحها قبل وصول قوات داعش، ونزل أنصار التنظيم القلة من أبناء المدينة هاتفين في الشوارع بشعار ’باقية وتتمدد‘، وبعد ذلك دعا مسؤول التنظيم جميع الفصائل في المدينة إلى البيعة أو تسليم سلاحها، وهذا ما حصل فعلاً دون أي قتال، إذ سلم أغلبهم سلاحه لكن قلةً قليلةً منهم بايعت التنظيم وقاتلت في صفوفه، وأما بالنسبة لنا كناشطين مدنيين، فقد أصبحت الحياة هناك مستحيلةً بسبب الملاحقات الأمنية والاتهامات بالردة والكفر، وبِدء التنظيم بتنفيذ إعدامات، ولم يطُل بي الأمر حتى غادرت الميادين إلى خارج البلاد بعد عدة استداعاءات وملاحقات أمنية».

يقول أبو أحمد: «ليست واضحة أسباب انسحاب النصرة والفصائل دون قتال من الميادين ومحيطها، رغم أنه كان يمكن خوض معركة طويلة بسبب انسحاب أغلب المقاتلين الرافضين لداعش من أنحاء ريف الميادين وبعض أرياف دير الزور إلى الميادين ومحيطها. يقول مقاتلو وأنصار جبهة النصرة إن قادتها تعهدوا بالقتال حتى الموت في الميادين، لكنهم في حلٍ من دماء المسلمين التي ستسفك ولا يتحملون مسؤولية الدمار الذي سيحدث في المدينة، وأن وجهاء المدينة وكتائبها طلبوا منهم الانسحاب بناء على هذا الكلام. فيما ينفي آخرون ذلك، ويقولون إن أبناء الميادين كانوا راغبين في القتال. وتصعب معرفة حقيقة الأمر على وجه الدقة، لكن قرار الانسحاب اتخذ في النهاية، وفتحت قوات داعش طريقاً للفصائل ومقاتليها عبر البادية نحو القلمون، فانسحبوا دون قتال».

يصعب تفسير ما جرى في تلك الأيام، لكن تتبع تسلسل الأحداث يقود إلى استنتاجات أبرزها أن دعاة السلفية الجهادية والفصائل الإسلامية وجبهة النصرة وحزب التحرير الإسلامي الداعي إلى إقامة «خلافة على منهاج النبوة»، كلهم معاً قد مهدوا الطريق من حيث يدرون أو لا يدرون أمام تنظيم الدولة، الذي جاء بخطاب الخلافة الإسلامية، المتسق في المآل الذي يدعو إليه مع سائر دعواتهم وتنظيراتهم.

هكذا أصبحت الميادين بعد مئات الضحايا وبعد كفاحٍ مريرٍ ودموي محتلةً من قبل تنظيم الدولة، وضاعت أحلام أبنائها في الحرية على مذبح الطموحات السلطوية والفوضى وضيق الأفق، وتبعثر أبناؤها المقاتلون في أنحاء سوريا، حيث اتجه مقاتلو جبهة النصرة إلى درعا والقلمون وإدلب، ومقاتلو الفصائل الإسلامية والجيش الحر إلى القلمون والشمال السوري. أما ناشطوها المدنيون فقد انتشروا في عدة مناطق من سوريا أيضاً، وفي تركيا وسائر دول العالم.

الباقون في الميادين يرزحون تحت حكم تنظيم الدولة، الذي أعدم كثيرين منهم، وقد قاومت الميادين تنظيم الدولة بشراسة بعد أن سيطر عليها، وتعرض عناصر التنظيم وقادته لعشرات الهجمات، ولعل أكبر عدد من الكمائن والاغتيالات التي تعرض لها التنظيم منذ تأسيسه كان في الميادين.

كذلك كانت الميادين بشوارعها وساحاتها أبرز مسارح تنفيذ الإعدامات، حيث أعدم التنظيم فيها عشرات الشباب من أبنائها وأبناء ريفها، بتهمٍ متعددة أغلبها تهم الكفر والردة وقتال التنظيم والتعاون مع «النظام النصيري» و«التحالف الصليبي».

لم يتطور الأمر إلى أي محاولة عصيان شعبي لداعش، فالعصيان عقوبته الموت، ولعل تراجع عدد العمليات التي تستهدف التنظيم راجعٌ إلى الإرهاب الذي تسببت به الإعدامات الكثيرة في المدينة، لكن أبناءها لا يزالون يرفضون تنظيم الدولة، ودليل ذلك أن عشائرها لم تبايع التنظيم مطلقاً. لم يحصل أبو بكر البغدادي على أي بيعة عشائرية في الميادين حتى الساعة.

ابتلي أهل المدينة فوق داعش بغارات التحالف الدولي، وبغارات النظام والطيران الروسي التي لا تميّزُ في استهدافها بين المدنيين ومقرات التنظيم. وهكذا باتت المدينة تعيش احتلالاً مركباً من الأرض والسماء، ولا مكان للتفكير بحياة أبنائها ومصائرهم في جميع الاتفاقيات والمفاوضات والتفاهمات الدولية، ويُقدَّرُ أن أكثر من ثلث سكانها قد غادروها إلى أنحاء سوريا والعالم، وأن أغلب ناشطيها وثوارها الباقين على قيد الحياة هم خارجها اليوم، لكنها تقديرات لا مجال لإثباتها بأي أرقامٍ أو معلوماتٍ موثوقة.

دروب العودة المجهولة

«هتفَ بي داعي الشوق.. إلى رحبة مالك بن طوق»، هذا مطلع المقامة الرحبية، وهي واحدةٌ من أشهر مقامات الحريري المعروفة في التراث العربي الإسلامي، ولا شكّ أن الآلاف من أبناء الميادين يهتف بهم داعي الشوق إليها كل يوم، وعلى وجه الخصوص إلى الأحلام الكبيرة التي دفعتهم إلى شوارعها وساحاتها عام 2011.

يقاتل كثيرون من أبناء الميادين اليوم على سائر الجبهات في سوريا، ضد النظام السوري وتنظيم الدولة، وهم موزعون على فصائل وتحالفات عسكرية متعددة، أبرزها جيش أسود الشرقية في القلمون، وأحرار الشرقية في حلب، وجبهة النصرة وأحرار الشام في عموم سوريا، وجيش سوريا الجديد في بادية التنف. كذلك يعمل ناشطون من أبناء المدينة في سائر المنظمات والمؤسسات التي انبثقت عن الثورة، ومما لا شكّ فيه أنه يجمعهم حلم العودة إلى مدينتهم المحتلة.

يعرف الجميع أنه لا بقاء لداعش طالَ الزمن أم قصر، لكن ما لا يعرفه أحد هو كيف ستكون هزيمة التنظيم، وعلى يد من، وفي أي سياقٍ سياسي محلي وإقليمي ودولي؟ لكن ميادين الفرات الرحبة لا تزال مفتوحةً على التاريخ، التاريخ الذي لم ينصفها ولم ينصف أحلام أبنائها الكبيرة بعد.

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى