مراجعات كتب

“ميزان الأذى” لجولان حاجي: سرديات الوحشة/ راسم المدهون

 

 

تنتمي قصائد جولان حاجي الجديدة للوحشة في أقصى حالاتها. هي وحشة تمتحن القلق والذاكرة وتستدعيهما إلى فضاء مثقل وباهظ بما فيه وبما يعيشه من تعب روحي يبحث عن نفسه في الآخرين. القصيدة استرجاع حزين لبشر مروا وتركوا آثارهم وبصمات أرواحهم في روح الشاعر التي تحضر لتحكي ولتقدم “سرديتها” الخاصة، الموجوعة ولكن المغمَسة بالجمال أيضاً.

في “ميزان الأذى” (منشورات المتوسط – ميلانو – 2016)، تبدو الوحشة فاكهة المجموعة الأبرز، بل هي خيط ينتظم خطوط المشاهد الشعرية ويأخذها لبوح هادئ ولكنه عاصف في ذاكرة تزدحم هي الأخرى بمخزون كثيف بشواهده وشخوصه، بأمكنته وفضاءاته، وحتى بأزمنته التي تتخايل ظلالها وتلوح بالقول المباشر مرة وغير المباشر غالباً. جولان حاجي أحد أبرز الأصوات الشعرية الشابة في سورية، أو لنقل بدقة التي كانت توصف كذلك حتى سنوات قليلة مضت، وهو في مجموعته الشعرية الجديدة “ميزان الأذى”، يعيد تقديم موهبته على نحو مختلف: قصائد جولان هنا تحتمي بذاكرة شاعرها لتؤكد أنها قوام التجربة كلها:

“كم ذرفتنا الموسيقى. كم احتملنا هذه الكآبات، كم أنصتنا إلى الأسى مطبقا على أنفاسنا”. هي أسئلة تقول الوجع بلغة الدهشة، إذ تضع الحدث الواقعي في علاقته مع المجرَّد كلغة الموسيقى وهي تمتزج بالكآبات والأسى وتتوغل معهما في شقوق الذاكرة على نحو بالغ الرشاقة.

شعرية الحنين

إنها بكلام آخر “ترسم” عوالم إنسانية فيها مشاهد حية لحياة أخرى مضت ولكنها تأتي برغبة في تأثيث الذاكرة بما يجعل موجوداتها شعرا يحتفل بالمستعاد رغم كل ما فيه من أسى. “السردية” تبني ذاتها في شعرية الحنين بما هو عصف روحي يجترح قراءة الذاكرة بحدقة رؤية فاعلة تستدرج الماضي إلى عصف الحاضر لرؤية ما بينهما من فداحات عيش باهظ.

جولان حاجي يفارق أناشيد الخطابة برنينها وألوانها الفاقعة ويختار لغة ناحلة إذا جاز التعبير، ففي هذه اللغة وحسب يمكن للأسى أن يكون بلاغة الحياة وتوهج حساسيتها الجارحة. في تجربة شعرية كهذه لا فسحة فرح ممكن سوى القراءة التي تضمر احتمالات لا حصر لها تناوش كلها روح قارئ الشعر وتستحثه على استعادات صور ذاكرة الشاعر وذاكرة القصائد ليراها في سيرورتها المسترسلة تعيش وثوبها وانحناءاتها. سنقع على لغة بسيطة ومباشرة أو لأقل لغة تذهب إلى قصدياتها دون صناعة من أي نوع، دون أن تقع في ما يجعلها “عادية” أو “مألوفة” على هذا النحو أو ذاك، كما نقرأ ونرى في غالب شعر هذه الأيام.

في الهواء كريشة

في “ميزان الأذى” ثمة موشورات شعرية تسترجع ما يبدو عادياً بل ورتيباً مكرراً، ولكنها تستدعيه على نحو شعري أخاذ:

“أمّنا طفلتنا. أمّنا أيفعُ من أختنا، والصيفُ عرس. مزفوفة إلى رأس الجبل

كثلجٍ تلامسه يدُ الصبح، محمولة في الهواء كريشة أو وشاح خفيف، ظلّها

ممحوٌّ بزهور مشمش لا تذبل (قرتْ جذورَ الشجرة أساساتُ بيتنا الذي

اختفى) لا تذبل البتلات المزهرة في بيت ذاكرتنا: على كلّ تويجٍ سقتْهُ أمّنا

تترقرق قطرةٌ صغيرة، نجمة فجر تخفقُ في ضياء النهار”.

هو ولع ينتقي وينتخب ويعيد بلورة ما انتقاه وما انتخبه كي يكون جديرا للظهور في سطور الشعر ليس كسردية وحسب، ولكن أيضا كأحجار ثمينة تؤسس بناء القصيدة وتؤثثه بما في الشعر من جمال. يبدو هنا سياق “قصيدة النثر”، أو كما يحلو لي أن أسميها بجدية أكبر “القصيدة الطليقة”، سياقا يحتمل المغامرة، بل هو يليق بها وتليق به، خصوصا وقد جرت مياه كثيرة في نهر تلك القصيدة منذ تجربة الرائد الراحل محمد الماغوط بغنائياته الحادة والجارحة وبالذات في تراكم تجارب شعراء القصيدة في سورية خلال العقود الماضية. يرث جولان حاجي نتاجات كل أولئك الشعراء ليذهب بعد ذلك إلى قصيدته وحيدا منهم حاملاً معه رغبة عارمة في أن يكون له صوته الخاص ونشيده الخاص.

تجاوزت المفارقات

أرى في “ميزان الأذى” جموح تجربة صديقي الراحل الشاب رياض الصالح الحسين، تلك التجربة العاصفة التي أوقفها الموت في مطلع الطريق، لكن جولان المزدهي ببلاغة الحزن يجيء مختلفا. هو يستدعي الكآبة والاحتقان وحزن الحياة بألوانه كلها، لكنه يفعل ذلك بعمق أعلى وأشد فداحة في تكويناته الشعرية المشغولة بيسر ظاهر فيه الكثير من ملامسات شفيفة لمشاهد تراجيدية تتجاوز المفارقات الشعرية القديمة والتي باتت تقليدية ليصل إلى تخوم الدهشة. أعني هنا بالذات ولع جولان بقراءة الجزئيات الصغيرة والتفاصيل التي تكاد لا ترى وإعادة زجها في موكب أحزانه.

شاعر جوال وقوال لكنه لا يلقي خطاباً ذا رنين، بل يذهب في اتجاه آخر مغاير حيث المشهد سيد الموقف الشعري وقوامه: في المجموعة سياقات وبنائيات شعرية مغايرة، أعني تلك القصائد التي تأخذ شكل مقاطع يحلو لي أن أعتبر كل مقطع منها قصيدة مستقلة ومكتفية بذاتها رغم قابليتها لأن تظل مقروءة مجتمعة كقصيدة واحدة. في هذه القصائد لا تتوقف السردية الشعرية ولكنها تستبدل استرسالها السابق بلغة أخرى بالغة التكثيف فتتكئ على وهج اللقطة، الحادَّة والمشبعة بالضوء:

“تحت شجرة جوز زرعها غراب

بئر حفرها مجنون بإبرة

ففاضت حبراً”.

هي قصائد وحشة أيضاً لكنها تمتحن جمال قسوتها في الوثوب الخاطف إلى درامية صادمة تعتمد رسم مشهدها بإيجاز قليل الكلمات تقارب قول الشعراء الجوّالين، خصوصا في احتدام مشهدها وبلاغة تركيبته الشعرية. القلق بالذات هو ميزان الشعر في حالة كهذه، وهو قلق برافدين، أحدهما خاص ينهل من مخزون الشاعر وذاته ورافد آخر يراكم عليه قلق الوجود بأسئلته الكبرى ومقولاته الخالدة على مر الأزمان كلها. تبدو قضايا قلق الوجود حاضرة في المشهد الشعري عند الشاعر بقوة، لكنها تمتزج “تماما” في ميراثه الفردي الشخصي حتى لا تكاد تنفصل عنه، ولا نكاد نتبيّنها بيسر. يقال إن الشعر هو ابن شرعي (وأحيانا غير شرعي) للقلق الإنساني ولمحاولة الشاعر السيزيفية لجعل العالم والحياة أكثر توازنا أو لنقل أقلُ قلقاً، لكننا نعثر في “ميزان الأذى” على كثير مما يجعل القلق رسالة بوح من نوع آخر: هجاء الحزن باعتباره فاكهة الرحلة البشرية وإلياذتها في الوقت ذاته، وهو هجاء يقع على جمالياته في احتفاله بالحياة. هنا تفترق الكآبة عن حزنها النبيل وتقفل عائدة إلى نبع الحياة باعتباره الجدار الأخير الذي يحتمي به البشر كي يمكنهم مواصلة العيش على نحو أقل بؤسا بل وأكثر قدرة على استشراف أمل ما.

جولان حاجي في كتابه الشعري “ميزان الأذى” يغاير تجرته الشعرية كما عرفتها خلال العقد الفائت، فهو ينهل من معين بات أكثر نضجاً وأشد اعتناءً بالجماليات الفنية على نحو لافت يجعل قصائد هذه المجموعة الجديدة قيمة شعرية وتؤشر إلى قادم نراه أجمل.

عنوان الكتاب: ميزان الأذى  المؤلف: جولان حاجي

 

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى