صفحات الناس

مَلك حمص/ لقمان ديركي

 لا يمكن لعقل بشري رومانسي ثوري أن يتخيل أنه يعاصر شخصية كهذه، عبد الباسط الساروت، حارس مرمى فريق الكرامة والمنتخب والسوري بكرة القدم، بدوي من حمص، يدخل في الثورة ويقدّم لها ما أمكنه.

الثورة لا تحتاج إلى حارس مرمى، لكنه يملك مواهب أخرى، صوته صدّاح، فيغني، ويهتف، ويصبح رمز الشباب الحمصي الثائر، ويلتفّون معه، ليس حوله، كذلك تنتبه إلى علاقة الساروت بمن هم معه، وأين ستنتبه إلى ذلك، كيف يمكنك أن تعرف خفايا الأمور، وما هو بعيد عنك في الواقع؟!

تلك هي السينما، تلك هي إحدى المسائل الجوهرية في الفن، أن يجعلك ترى واقعك، وواقعنا بعيد وحلمنا محاصر، حمص حلمنا، حمص محاصرة، والساروت أمير حمص غير المتوّج، بل إنه لا يقبل بالتاج، فلقد أرسى الله في قلبه عظمة التواضع ونعمته، وبقي بعيداً عن التكبّر ومحميّاً منه، فلم يقتله الغرور، كما لم تستطع الرصاصة أن تقتله، لكن ربما تستطيع الرصاصة أن تقتله ذات يوم، ووقتها لن يحزن أحد على الساروت، سنحزن على أنفسنا فحسب، على خسارتنا الفادحة. أما إذا قتلته رصاصة التكبر والغرور، فوقتها سنحزن عليه، على طفل فقدناه، على حلم بنينا حوله الآمال في زمن اللا آمال، الشهيد المتنقّل في أرجاء حمص كحارس للثورة، نتابع تحوّلاته، ومن تحولاته هذه نفهم تحوّلات الشعب، هو ممثل الشعب بجدارة.

في فيلم “العودة إلى حمص” للمخرج طلال ديركي، سترى حمص، سترى الساروت، وستكون صدمتك كبيرة يا من لا تعرف ماهية الثورة. ستصدم بنفسك أولاً، فأنت أمام أسطورة لا يمكنك إلا أن تجهد في محاولة الانتماء إليها. عبد الباسط الساروت ليس شخصية خارقة، ليس سوبرماناً، لكنك ما إن تشاهد الفيلم الوثائقي الذي صوّر عنه حتى ترى أنه أكثر استحالة من الخوارق والسوبرمانات. يستحيل على هوليوود أن تنتج فيلماً روائياً لا وثائقياً كهذا الفيلم، في “العودة إلى حمص”، ترى تدرّجات الثورة السورية عبر أنقى شخوصها وأبطالها. من هؤلاء ستفهم ما جرى بالإضافة إلى الدماء، بل إنك ستشاهد الدماء على الهواء مباشرة، ستشاهد الشهداء على الشاشة لحظة الشهادة، لن تشعر بالقسوة أو بالعار، فالسماحة والتواضع والمحبة في هؤلاء الأبطال ستجعلك متفرّجاً بريئاً غير مدان. وفي حمص والساروت ما من مُدان، لا وقت للتخوين والاتّهام، الكل معنا إن أرادوا، والكل ضدنا إن ضلّوا، لا مجال للانتقاد، هناك هتاف، هناك شعار، ومن عنَّ على باله ألا يسمعه فهو حرّ، حتى لو كان من العبيد، فالثورة الحمصية تعطي حق الحرية حتى للعبيد، حق الاختيار. لا تجبرهم على الالتحاق بشمس الحرية، لكنها تدعوهم فقط، وتدعوهم بإصرار، لا تحب أخذ دور المعلم أو الأستاذ، إنها ثورة على النظام القديم، من ألفه إلى يائه، ثورة على الأساتذة والآباء.

الساروت سيبقى على تألّقه وتواضعه وسيره باتجاه الحرية والإرتقاء.. والثورة السورية ستلهمُ خطاه.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى