صفحات العالم

مَن استغفل مَن في «اتفاق» الجامعة وسورية؟


عبدالوهاب بدرخان *

سيكون معيار نجاح الاتفاق بين الجامعة العربية وسورية أن يتمكن الشعب السوري من مواصلة انتفاضته بجانبها السلمي، الذي كان ولا يزال غالباً، وأن يثبت الشعب أنه كما أفشل الحل الأمني الذي اتّبعه النظام يريد أن يُفشل أيضاً ضغوط النظام من أجل عسكرة الانتفاضة ليتاح له منازلتها وفقاً لميزان القوة النارية.

لم يصبح الصباح على خبر «الاتفاق» حتى كان النظام قد نقضه وتأكد للوزراء العرب أنهم تورّطوا وورّطوا الجــامـــعة. وـــبعد سكوت مريب دام ثلاثة أيام بضحاياها الكثر وبأنباء المحاصرة والقصف لمدينة حمص، أمكــــن للجامعة أن تكسر صمتها لتقول أن النظام أخلّ بتــــعهداته واستعدّت لاجتماع جديد بعد غد لتقويم الموقف، وليس متوقعاً الإعلان صراحة عن سقوط «الاتفاق» بســبب عدم وضوح الخطوة التالية للجامعة، أهي «تجميد العضوية» أم الاقتراب من التدويل عبر «المطالبة بحماية المدنيين»؟ ليس هناك إجماع عربي، لكن حتى التوافق لا يبدو مضموناً.

ينبغي ألا تنسى الجامعة أن المهلة التي استهلكتها قبل التوصل إلى «الاتفاق» كلفت نحو أربعمئة قتيل، وهي حصيلة ارتفعت بعده وقد تزيد أكثر قبل الوصول إلى يوم يؤمل ألا يسقط فيه أي قتيل. ذاك أن الجامعة باتت مسؤولة معنوياً عن هذا الدم، وستكون لاحقاً شريكة في المسؤولية الجنائية عن أي دم يهدر. فما تحقق غداة «الاتفاق» هو عدم التنفيذ «الفوري» بل عدم سحب الآليات العسكرية في الموعد الذي حددته السلطة السورية نفسها يوم عيد الأضحى.

بمعزل عن المواقف المعلنة لجهات عربية وغير عربية، يبدو هذا «الاتفاق» كأنه وليد «صفقة»: يوافق النظام السوري على المسعى العربي ويمتنع العرب عن التوجه إلى تدويل الأزمة أو على الأقل يؤجلونه، وقد رحبت العواصم الدولية بحذر ثم فهمت أنها حيال سراب. هناك من أراد إظهار موافقة النظام «بلا تحفظات» على أنه التنازل «الأول» الذي يقدم عليه منذ بداية الانتفاضة. لكن أنصار سورية في لبنان تبادلوا ما يشبه التهاني بالموافقة السورية على أنها «ضربة معلم» سياسية من النوع الذي تجيده دمشق حين تتعامل مع الخارج، وكان واضحاً أن هؤلاء الأنصار يعرفون أن الأمر يتعلق بخدعة لتمرير مرحلة من خلال استغفال العرب. والواقع أن المضمر في «الاتفاق» أكثر من المعلن، فهو أخذ بتحفظات النظام كلها. وإذا كان لبنوده أن تستند إلى مفاهيم محددة فإن التنفيذ لا بد أن يستند إلى تفاهمات صارمة، وهو ما لم توضحه الصياغة ربما لأن البحث جرى ويجري بين ممثلي أنظمة عربية لا اختلاف جوهرياً بين مفاهيمها.

ليس في قوانين عمل الجامعة ما يلزم أي نظام بما لا يريده، وقد جاء في حيثيات «الاتفاق» أنه يهدف إلى «تجنب التدخل في الشأن الداخلي»، ما يعني أن الجامعة تتوسط ولا تتدخل. ويفترض في الوسيط أن يحترم مصالح الطرفين، لكن القول بـ «وقف العنف من أي مصدر كان» يساوي بين عنف النظام وعنف معارضيه، وهو ما ترّوجه الرواية الرسمية السورية.

وافق النظام السوري على الاتفاق لأنه يحقق له مصالح، أولها احتواء الدور العربي وقطع الطريق على أي تدويل للأزمة بغطاء عربي، وقد نصحه الحليف الإيراني والصديق الروسي وبعض محاوريه العرب بأن مبادرة عربية «لا أسنان» تبقى أفضل من قرار دولي تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ثم أن الموافقة تُكسب النظام وقتاً وقد تمكنه من تهدئة الأوضاع وتمييع الانتفاضة والتحكم بالحوار المزمع مع المعارضة. ولعل المكسب الأكبر من مسايرة العرب طي صفحة «إسقاط النظام» لمصلحة «إصلاح يقوده النظام» كنتيجة للحوار إذا قدّر له أن ينعقد. وبالتالي طويت أيضاً «المبادرة العربية» التي لحظت في جانبها السياسي مجموعة «إلزامات» للنظام (فصل الأمن والجيش عن الشأن السياسي، جدول زمني للإصلاحات الأساسية والتعديلات الدستورية، حكومة وحدة وطنية برئاسة شخصية معارضة…) وهي «إلزامات» لم تأتِ من فراغ إذ طرحها الأتراك أولاً، ونوقشت مع الروس، وأعطى الإيرانيون رأياً فيها. لكن في الوقت الحالي يصعب على أي مرجع عربي القول إن «المبادرة» لا تزال على الطاولة.

في حدود ما توصلت إليه الجامعة بهذا «الاتفاق» حصلت دمشق على إظهار الانتفاضة كمجرد مشكلة أمنية، والأمن من شأن الدولة، وعلى هذا الأساس لا يجد النظام مشكلة في الاستعانة بـ «مراقبين عرب» لاستعادة الهدوء الأمني. بل إن دمشق قد تسارع إلى أخذ زمام المبادرة فتطرح مشروعها للإصلاح استباقاً لحوار لا تزال ترفض مبدأ عقده في الخارج. وقد تفادى الاتفاق تأكيد مكان الحوار فإنه ربطه بنجاح خطوات وقف العنف.

في أي حال، ثمة رهانان سيتصارعان في سورية مع وصول المراقبين. فالنظام يعتبر أن وقف العنف لا يعني وقف استهداف «العصابات المسلحة» و «الإرهابيين» والمنشقين عن الجيش، لكنه يجب أن يعني وقف التظاهرات ولو سلمية، وهو ما لن يحصل. أما الجامعة فتراهن على أن يكون وقف العنف إيذاناً بتغيير جوهري في سلوك النظام، ولا سيما أجهزته الأمنية، وهو ما لن يحصل. وتعتقد الجامعة أن البند الرابع من الاتفاق (دخول منظمات الجامعة ووسائل الإعلام العربية والدولية للإطلاع على حقيقة الأوضاع…) سيدعم رهانها. وفي حين أن فاعلية منظمات الجامعة لم تُختبر سابقاً خصوصاً في مجال حقوق الإنسان أو بالتعامل مع معاناة الشعوب، فإن أريحية النظام السوري بقبول وسائل الإعلام وتركها تعمل وتتنقل بحرية في مختلف المناطق تحتاج أيضاً إلى اختبار، إذ لم يسبق أن سجّلت في أي فترة كانت فيها سورية بلداً مفتوحاً للإعلام، وإذا انفتح فعلاً الآن في سابقة أولى من نوعها فليس له أن يتوقع انشغال الإعلام بالروايات الرسمية وإنما سينكب على تغطية التظاهرات ومراجعة مآسي الشهور الماضية والسعي إلى توثيق الجرائم التي ارتكبتها أجهزة النظام وشبّيحته.

ما يمكن أن يؤخذ على الجامعة لا علاقة له تحديداً بالاتفاق مع النظام السوري، ولا بمحاولة النظام العربي الرسمي إنقاذ نظام هو من أركانه على رغم أنه لم يعد منذ زمن معنياً بالشأن العربي بل مأخوذاً تماماً بحلفه مع إيران… ما يؤخذ على الجامعة أنها غير مؤهلة عموماً للتعامل مع هذا النوع من الأزمات وبالأخص في غياب فاعلية الدول العربية الأساسية، ثم أنها محدودة بصلاحياتها وبتراثها الطويل كإطار موظف حصرياً في خدمة الأنظمة والحكومات، ولأنه كذلك فهو معني بالتستر على أمراضها وصون مصالحها على حساب مصالح شعوبها. وهذا ما يفسر خلو اطروحات الجامعة حيال الأزمة السورية من أي احتكام إلى العدالة والحقوق الإنسانية، وكأن معاقبة مجرمي النظام الذين قتلوا أبناء الشعب بدم بارد وارتكبوا فظائع في إهانة كرامات الناس لم ترد حتى في الأذهان، لأنها ببساطة ليست من الثقافة العربية التي تمثلها الجامعة أو تنتمي إليها.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى