صفحات الناس

ناجون من مجزرة دوما يتحدثون لـ”المدن”عن الرعب الكيماوي/ خالد الخطيب

 

 

تجاوز عدد مهجري مدينة دوما في الغوطة الشرقية الذين وصلوا إلى مناطق “درع الفرات” في ريف حلب الشمالي، 20 ألف شخص، توزعوا على عدد كبير من المخيمات المؤقتة والدائمة في المنطقة. وما يزال قسم كبير منهم يبيتون في الجوامع والمباني العامة، بانتظار إيوائهم في واحد من المخيمات التي لم ينتهِ العمل على تجهيزها بعد.

قسمت مجزرة الكيماوي في دوما، المُهجّرين قسرياً الذين وصلوا إلى “درع الفرات” تباعاً منذ أوائل نيسان/أبريل إلى قسمين؛ دفعات وصلت الى المنطقة قبل الاستهداف بالغازات السامة، وتضم المدنيين والجرحى وأصحاب الأمراض المزمنة، ومن خرج بعد الهجوم الكيماوي.

إذا كنت تبحث عن الناجين من المجزرة عليك أن تسأل: “أين تقع مخيمات مُهجّري دوما ما بعد الكيماوي؟”. مخيم البل، شمالي بلدة صوران تقيم فيه نحو 600 عائلة. وهو أكبر تجمع يضم ناجين من المجزرة. قسم كبير منهم عايش المجزرة بشكل مباشر، هناك عائلات فقدت أفراداً منها، ماتوا اختناقاً. عائلات أخرى وصل منها فقط فرد أو اثنان، إلى المخيم، وفي حين قضى البقية في المجزرة. في مخيم البل يعيش الرجال العازبين، في خيام كبيرة، قسم كبير منهم فقدوا زوجاتهم وأطفالهم، في مجزرة الكيماوي، واستقلوا وحدهم حافلات التهجير.

وتتوزع بقية مُهجّري دوما، ما بعد الكيماوي، في مخيمات بعضها دائم وبعضها مؤقت. مخيم الشرقية، ومخيم بزاعة قرب الباب، ومخيم زوغرة قرب جرابلس، ومخيم الشبيبة في اعزاز. الضحايا الذين ظهرت عليهم أعراض الإصابة بالغازات السامة، تم تحويلهم فور وصولهم المنطقة إلى المستشفيات المحلية في إعزاز والباب ومارع وصوران. أعراض التسمم بالغاز تركزت على الجهازين التنفسي والهضمي، وفي صورة طفح جلدي. الحالات الحرجة تم تحويلها إلى المشافي التركية. الأطفال الذين ظهرت عليهم أعراض الإصابة بالغازات السامة على شكل حساسية جلدية وطفوحات جلدية، بأشكال مختلفة، يتم التعامل معها من خلال النقاط الطبية التي تنتشر في المخيمات المؤقتة والدائمة، ويتم تحويل المرضى للعلاج في أقرب مشفى.

على الرغم من مرور أكثر من 10 أيام على وصول المهجرين المقيمين في مخيم البل، إلا أن آثار الصدمة ما تزال بادية عليهم. الحركة قليلة في شوارع المخيم، ونادراً ما تشاهد باب خيمة مفتوحاً، أو تلاحظ ملابس مغسولة منشورة، أو تسمع أصواتاً مرتفعة. القليل من العائلات تجمعت أمام الخيمة لتجرب “الوابور” المخصص للطبخ، والذي سلمته لهم إدارة المخيم.

التقت “المدن” في مخيم البل، ببشير دياب ضبعان، أمام خيمته، عندما كان يجرب “الوابور”. قال بشير: “ظننا أن القصف اعتيادي، مروحيات النظام كانت تلقي عشرات البراميل المتفجرة كل ساعة، والطيران الحربي لا يتوقف عن القصف”. وأضاف بشير، الأب لخمسة أطفال: “الانفجارات التي حصلت مع غروب شمس السبت، تبعتها رائحة كريهة، شبيهة بمادة الكلور، انتشرت في الأجواء. عدد من الشباب تطوعوا واستطلعوا مكان الضربة وعمموا على العائلات الموجودة في بنايتنا أن القصف بالغازات السامة، وعلى الجميع أن يأخذ الاحتياطات اللازمة”.

عائلة بشير كانت تسكن الطابق السفلي في مبنى عند ساحة الغنم في دوما، لم يكن يبعد عن الموقع المستهدف بالكيماوي إلا بمسافة 200 متر فقط. تابع بشير: “استطعنا التخفيف من حدة الروائح عن طريق المياه والخل. الأطفال بالتحديد تم تعريضهم للمياه والخل، وقمنا بتغطية وجوههم بالقماش المبلل بمادة الخل أثناء عمليات الإخلاء التي قمنا بها للمكان كي نبتعد قدر الإمكان عن المكان المستهدف”. الروائح بقيت فترة طويلة في الطبقات السفلية من المباني، وغطت مساحة 500 متر مربع على الأقل.

وأشار بشير إلى أن أطفاله لم تظهر عليهم أعراض الإصابة بالغازات السامة أثناء وجودهم في دوما، لكنهم بعدما وصلوا إلى ريف حلب، بدأت الأعراض تظهر. ابنه راشد، لا يتجاوز العامين، ويعاني منذ وصوله من الإسهال والقيء. تسنيم، 10 أعوام، ظهرت عليها طفوح جلدية في الأطراف. راشد بات يقضي وقته، بشكل يومي، في مراجعة النقطة الطبية في المخيم. في حين تمّ تحويل بقية أبناء بشير، أكثر من مرة، إلى مشفى معبر السلامة الحدودي، لتلقي العلاج. تسنيم تتناول أدوية متعددة، يومياً، ومراهم جلدية.

“المدن” التقت أيضاً ليث كنعان، أحد الناجين من مجزرة الكيماوي في دوما. ليث أب لأربعة أطفال. ابنته أميرة، 3 أعوام، ما تزال تعاني من ضيق التنفس، لأنها تعرضت للغازات السامة أكثر من أخوتها. يقول ليث: “كنا في القبو مع أكثر من 20 عائلة. القبو الذي كنا فيه يعتبر في دائرة الاستهداف المباشر في ساحة الشهداء في دوما. الأقبية المنتشرة تحت المباني المحيطة بالمشفى جميعها تعرضت للغازات. معظم شهداء المجزرة سقطوا في محيط ساحة الشهداء والمباني القريبة من المشفى. لم نتمكن من إخلاء جميع العائلات. القسم الأكبر من الشهداء كانوا من الأطفال الذين لم نتمكن من إخلائهم في الوقت المناسب”.

يضيف ليث: “سقط صاروخان في الساحة في مكان قريب من القبو الذي كنا متواجدين فيه عند الساعة السادسة تقريباً، خرجت وعدد من الرجال من القبو لنستطلع مكان سقوط الصواريخ. كان الدخان المتصاعد من مكان الانفجار بألوان مختلفة عما هو معتاد، أخضر وزهري، رافقته روائح كريهة، انتشرت بسرعة في المكان”. يتابع ليث: “في اللحظة ذاتها، سمعنا أصوات الأطباء والممرضين في المشفى القريب ينادون: كيماوي، كيماوي، احتموا، احتموا، عليكم بالإسعافات الأولية”. من دون نقاش “هرعنا إلى القبو مجدداً لكي نسعف العائلات ونخلي المكان في أسرع وقت ممكن، والاسعافات الأولية التي استخدمناها هي المياه والخل، استخدمت الأمهات فوط الأطفال المبللة بالخل لوقاية أطفالهم من استنشاق الغازات. وضعت الفوط على وجوه الأطفال بدلاً من الكمامات، كانت طريقة ناجحة. العائلات التي كانت تخرج من القبو كنا نرسلها إلى المناطق الواقعة غربي موقع الانفجار، أي بعكس الرياح التي كانت سائدة يومها. الأشخاص الذين بدت عليهم عوارض الاختناق حولناهم إلى المشفى القريب. الأطفال كانوا الأكثر تضرراً بالغازات. اختناق وزبد يغلق المجاري التنفسية”.

وبقي ليث أكثر من ساعة يسعف المصابين، ويساعد الرجال في الأقبية على إخلاء العائلات العالقة بعدما تأكد من خروج عائلته إلى مكان آمن من الغازات. طفلته أميرة أجريت لها اسعافات أولية ونجت بأعجوبة من الموت والتحقت بأمها. ليث استنشق كمية من الغازات السامة أفقدته وعيه. يقول: “فقدت وعيي داخل آخر مرة دخلنا فيها القبو، بعدما رأيت طفلين ممددين والزبد يغطي وجههما، وقد فارقا الحياة، لم نتمكن من اسعافهما في الوقت المناسب. بعد ساعة تقريباً عدت إلى وعيي مجدداً، وأنا داخل المشفى. أجريت لي اسعافات أولية وما زلت حتى الآن أعاني من مشاكل تنفسية”.

علاء كنعان، لديه ثلاثة أطفال، فهد وجواد وأحمد، بين عام واحد وثلاثة أعوام. علاء مصاب في قدمه ولا يستطيع المشي. كانوا في أحد الأقبية القريبة من مكان سقوط الصاروخ المحمل بالغازات السامة في ساحة الشهداء في دوما. كاد علاء أن يفارق الحياة لولا المسعفين الذين ساعدوه هو وأطفاله وزوجته على الخروج من القبو الذي كانوا يحتمون فيه، وزودوهم بالوسائل الأولية التي تحميهم من الغازات التي انتشرت في المكان.

علاء يعاني حتى الآن من مشاكل في الجهاز التنفسي، وسعال متقطع، وجحوظ في العينين، وانقطاع الشهية عن الطعام.

العديد من النساء الحوامل اللواتي كن في الأقبية القريبة من ساحة الشهداء أثناء الاستهداف بالكيماوي، تأثرن بقوة. نعيم محمد، مقاتل في “جيش الإسلام” لم يكن إلى جانب زوجته أمل، الحامل في شهرها السابع، أثناء القصف. تم اسعاف أمل مع المصابين بحالات الاختناق. وفي اليوم التالي للمجزرة وضعت أمل طفلها أسامة قبل شهرين من موعد ولادته. نجت أمل وطفلها بأعجوبة، لكنهما يعانيان، من مشاكل في الجهاز التنفسي، وطفوح جلدية، ويراجعان المشفى باستمرار لتلقي العلاجات اللازمة.

التقت “المدن” سليمان شحادة، 50 عاماً، ولديه تسعة أطفال. العائلة كانت قريبة من مكان الاستهداف. ويعاني سليمان من مشاكل في الجهاز البولي حتى اللحظة.

أبو عبدالرحمن فقد صديقه في المجزرة، وهو من عائلة حنن. أكثر من خمسين شخصاً من عائلة حنن، قتلوا في مجزرة الكيماوي في دوما. يقول أبو عبدالرحمن: “القبو الذي كانت فيه عائلة حنن تعرضت لأكثر كمية من الغازات السامة. كان المنظر مرعباً، أطفال ونساء ورجال وشيوخ ممددين على الأرض، وعلى السلالم والزبد يخرج من أفواههم. لم نتمكن من إنقاذ أحد منهم”.

يتحدث الناجون من مجزرة الكيماوي في دوما، عن تهديدات الجانب الروسي لهم بعد المجزرة. المفاوضات التي جرت في الكواليس، مختلفة عما هو شائع في وسائل الإعلام. المندوب الروسي الذي التقى المفاوض عن “جيش الإسلام” أخبره أنه باستطاعتهم استهداف المدينة بخمسة صواريخ محملة بالغازات السامة والقضاء على الأهالي. أي عليهم القبول بالخروج وإلا ستتكرر المجزرة. معلومات يتناقلها معظم الناجين من المجزرة، ويرجعون قرار القبول بالتهجير، إلى تفادي خطر الإبادة الجماعية، التي كانت تنتظرهم في حال رفضوا، واستهداف النقطة الطبية الأكثر تحصيناً بالغازات السامة قرب ساحة الشهداء في دوما رسالة لهم للقبول بالعرض الأخير: التهجير القسري أو الموت خنقاً.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى