صفحات الثقافة

نافذةٌ واحدة في جعيتاوي وثلاث صور لبشير

 

رشا عباس

إذاً، هذه هي القصة:

التوقيت خاطئ… الأمر ليس متعلقاً الآن بالسهر والرقص في الشوارع في بيروت تحت نخلاتٍ مضاءة… لملم ما تلملم واركن في زاويتك قليلاً. صور بشير العملاقة التي سبق وأن كانت أول ما رأيته في أول مكانٍ أقمت به هنا ستكتشف فيما بعد أنّك قد بنيت معها بشكلٍ غريب ألفة الوصول. لا تتورط مع القطط: هنا ستنسحب بخفة من فراشك أيضاً عائدة إلى شوارعها. أكثر من صلواتك في سرّك وأنت تشقّ الصباح: آلهة بيروت ورعة كيفما استدرت. اجلس في التاكسي صامتاً لتسمع، قد يدعو لكَ السائق ولبلدك بالفرج القريب… قد يحاول آخر بإصرار ألا يأخذ منك أجرة أصلاً… قد تصدم أذنك فجأة جملة: «كس أخت السوريين عبو البلد» من آخر، يشير لك إلى آخر راكبة نزلت الآن لتغيب في المطر: متجوزة سوري! كيف أهلها عطيوها لسوري! لا داعي لتربك نفسك بالإجابة عن هذا السؤال… لديك صور أخرى لتفكر بها: من حركة الأفران والمخابز في دمشقَ أهلك، إلى أصدقاء فايسبوكيين يتغذون على أطفال المخيمات والمطر الذي يبلل أحذية المقاتلين في العتمة. ربما يخطر في بالك أن تتساءل أين يسهر ضباط الجيش اللبناني مثلاً في بيروت؟ تعترف بالحقيقة لنفسك: لقد ارتعش قلبك حقاً كخرقة مهترئة على حاجز قطعته في دمشق وأنت تقول للجندي بشكل عادي: «يعطيك العافية» فابتسم ببهجة مفاجئة وسارع بالطلب منك أن تمر دون تفتيش ولا رؤية للهوية، لم تعد تستطيع صبّ اللعنات على البنادق الآن. لقد فات الأوان حقاً، تستطيع أن تموت قليلاً بالتدريج فقط. قيل لك: لقد رقّ قلبك للعسكري لأنّك لم تجرب أن يدخلوا منزلك مبعثرين أغراضك، لم يشتموا أمك ولم يصفعك أحد. إنّ هذا صحيح، وكذلك أنّ أخاً صغيراً لك يشبه الغيمة كان له مكانٌ محجوز هنا، في مهجع ما في مكان ما يحمل بارودة ليرمي عدواً ما بعد أشهر فقط من حمله لغيتار كهربائي، على الجبهة التي يُرمى أو يختار أن يرمي نفسه بها. ببساطة كان يمكن أن يكون هنا، وهنا الأمر مختلف عن عنف حفلات الروك: «تحطيم الجيتار على مكبرات الصوت في المنصّة». العازف النحيل الأبيض قد يرجع حقاً بثقبٍ دامٍ في جبينه. أحسن شيء أن تختبئ في جحرك طيلة الوقت: لا تريد رؤية اللاجئين، لا تريد رؤية الأصدقاء، لا تريد رؤية بقايا من المدّ الأول من الثورة يترنّح في الحمرا مخموراً طالباً ولاعة لسجائره. قال صديق: «الثائر هو من بقي في سوريا فقط». تحاول إغواء القطط باستمرار وتنسل من فراشك رغم ذلك تاركة إيّاك وحيداً للكوابيس، المطر الذي يطرق باب شرفتك الخشبي الأحمر يتحول في الحلم إلى صوت رصاص كثيف وتعود إلى دمشق مع أمّك في المنزل، تلحق صوت الرصاص لتجد أنّه يصدر عن قطعة معدنية صدئة، ستمسكها وتقسمها لتتلف ويتوقف صوت الرصاص. تقول أمّك: لقد جننت! في هذه القطعة التي بقيت معك سيبقى الصوت مستمراً دون توقف لـ9 أيّام! تستيقظ قليلاً لتفرّق بارتياح بين صوت المطر وصوت الرصاص، ثمّ تعود لترى الرجل الغريب الخجل نفسه أمام باب مصعد هذه المرة، تبتسمُ له بحياء. تذكّر ألا تقارب الكفر مهما حدث وأنت تشقّ طريقك: آلهة بيروت ورعة كيفما استدرت إليها. صاحبة البيت تسألك بود لماذا توجد لديك صورة للقديس جورجيوس وأنتَ بهذه الكنية؟ فترجع إلى طعنةٍ في قلبك العام الماضي عندما زرت مقام الخضر عند البحر ووجدت صور القائد المشورب وشقيقه متوضعة بصلف في حجرة المقام مقابل الرايات الخضراء. تعبرُ أغاني عيد الميلاد في الطريق، منها واحدة كانت أمّك تغنيها لك بالفرنسية التي لم تستطع تعلم جملة منها، تذكر فقط أنّ الأغنية تتحدث عن: «بابا نويل صغير». لا تنكر فضل هذه الشوارع عليك مهما حدث: مشيت فيها على الأقل دون أن يتطفل أحدٌ على وجهك. ليس مهماً أنّك لن تأخذ شيئاً من بهجتها إلى غرفتك، ليس مهماً أنّك بعد قليل ستبقى وحدك مع البرد وحرقة المثانة وبقايا زبدة في ورقتها تركتها على الطاولة منذ الصباح. ليس مهماً أنّ القطط قد انسلت من فراشك لتلهو في البقع التي ملأها المطر. تذكر أنّ احتمال الهرب سهل جداً، كما في حلم قديم خرجت فيه من شباك سيارة تقلك ورميت بنفسك كغطاسٍ يسد أنفه ويرمي نفسه للمياه من ظهره، هو سهلٌ لهذه الدرجة. يوماً ما ستسيقظ عندما تكتمل إرادتك، ستتبع خطوات قططك البريّة وتركض حتى ينقطع النَفَس من اللهاث ولا تتوقف، ستفتح المظلة الشفافة الرخيصة التي ابتعتها بـ4000 ليرة لبنــانية فقط لتراقب المدينة من خلالها. لن تخــذلك آلهة بيروت، ستجد عربةً تبيعك شاياً ساخـــناً لم تبذل في إعداده أي جهد، ستجد أصدقاءك غافــرين لكَ كلّ شيء، سيقال لك أنّ الأفران عادت تــرمي الأرغفة الســاخنة على ألواح الخشــب هناك في المدينــة وأنّ أمك تمــلأ المدفــأة بالوقــود حتى يطــفّ وينســكبَ على الأرض ويســبح بــه أثاث البيت.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى