صفحات العالم

نبأ سوريا الأخير/ عبد الحليم قنديل

 

 

وقعت الواقعة، وقضي الأمر الذي فيه تختلفون، وجرى تقسيم سوريا فعليا إلى مناطق نفوذ عسكري أجنبي، تمهد ربما لتكوين كيان سياسي فيدرالي مريض، قد لا يعيش طويلا.

وتعود الانشطارات والحروب تمزق الممزق فيه، وإلى أن تنتهي كل طائفة إلى أملاكها ودويلتها الهزيلة، وبضمان حماية موثوق من رعاة دوليين وإقليميين، وعلى طريقة ما يخطط له الآن في اتفاقات «كيرى ـ لافروف»، التي تكرر ـ بعد مئة سنة ـ دواعي ومضاعفات اتفاقية «سايكس ـ بيكو».

وبدلا من أن يتغير النظام، كما طمح السوريون في البداية، تبقى جماعة بشار الأسد في دمشق كعنوان بريد لا أكثر، ومجرد لافتة لمنطقة نفوذ روسي ـ إيراني، تقوم فيها موسكو ـ طبعا ـ بالدور الأبرز، وتبلور جغرافيا موقوتة لما يسمى «سوريا المفيدة»، التي كانت قد تراجعت وانكمشت، وتقلصت حدودها قبل التدخل العسكري الروسي المباشر، ولم تكن تمثل سوى حوالى خمس مساحة سوريا كلها، وقفزت بعد التدخل الجوي الروسي إلى أكثر من الثلث، وقد تصل إلى النصف باتفاقات روسيا مع أمريكا في جنيف، وإطلاق حرية الطيران الروسي في قصف وإخلاء مناطق «جبهة النصرة» وأخواتها، ومن دون اكتراث بتغيير تسمية «النصرة» إلى «فتح الشام»، الذي وقفت وراءه دول معروفة لا تملك سوى دفع مليارات الدولارات، ثم تترك الأمر لأصحابه في موسكو وواشنطن، وروسيا لا تريد سوى استخلاص الجزء الأكثر إفادة من الكعكة السورية، ولديها سلاحها الجوي المحدد للمصائر على الأرض السورية. بينما جماعة بشار الأسد مجرد قناع، فلم يعد الجيش السوري الرسمي قادرا على كسب معركة بقوته الذاتية، ولا بالدعم غير المحدود من القوات الإيرانية وحزب الله وفصائل الشيعة الكونية، ولا يتحرك حجر من مكانه، إلا إذا كان الطيران الروسي حاضرا، يقصف بعنف، ويحول المشهد إلى دمار شامل، وإذا توقف الطيران الروسي عن القصف، ينحسر نفوذ قوات الأسد والشركاء الإيرانيين فورا، وينفسح المجال لعودة سيطرة الفصائل المسلحة على الجانب الآخر، وعلى نحو ما حدث مرات فرا وكرا في جنوب حلب، وفي شمال غرب ريف حماة مؤخرا، وموسكو تتعمد أن ترفع يدها أحيانا، وحتى يعرف كل طرف متحالف معها وزنه ومقامه الحقيقي البائس، وحتى لا ينازعها أحد في التسوية التي تريدها بعد حرب السلاح، وهي تهدف إلى استكمال جغرافيا ما يسمى «سوريا المفيدة»، أو قل «سوريا الروسية»، التي تضم المدن الكبرى من حلب شمالا إلى دمشق وملحقاتها في الجنوب، وبينها مدن ومحافظات القلب كحمص وحماة، إضافة إلى مدن ومحافظات الساحل في اللاذقية وطرطوس وبانياس بالذات، وفيها كتلة العلويين الأساسية، فضلا عن مناطق الحدود مع لبنان والأردن، ومناطق «الدروز» من حول «السويداء» التي لم تصلها نار الحرب، وهو ما يفسر عمليات التحصين العسكري والتغيير السكاني الجارية من حول دمشق، فنصف سكان سوريا نزحوا من مناطقهم، أو هربوا إلى خارج سوريا كلها، وهم في الأغلب الساحق من المسلمين السنة، ومحصلة التهجير والتغيير السكاني القسري ظاهرة، وهي خفض حجم مكون السنة العرب في «سوريا المفيدة» إلى أدنى حد، وزيادة الأوزان النسبية للمسيحيين والعلويين والدروز والشيعة، والخلاص من سوريا القديمة التي كان غالب أهلها من السنة، وخلق كيان تعدد وتوازن طائفي تحت حماية روسيا، يكون فيه للإيرانيين نفوذ محسوس من الباطن.

وخارج نصف سوريا الروسي، الذي يضمن لموسكو وجودا آمنا لقواعدها الجوية والبحرية على الساحل السوري، ودوام التحكم في اسم الجالس على كرسي السلطة الصورية في دمشق، وجعل «سوريا المفيدة» قاعدة نفوذ روسي ممتد في المشرق العربي كله، وخارج النصف الروسي، يمكن للآخرين البحث عن أدوار ومناطق نفوذ، ويجري ترك أعلى الشمال السورى للقسمة بين الأكراد والأتراك، يبنى الأكراد منطقة نفوذهم شرق نهر الفرات، ويترك غرب الفرات للنفوذ التركي، فالأكراد هم أهم حليف على الأرض السورية لواشنطن، ولا تكسب قوات الحماية الكردية معركة إلا بالغطاء الجوي الأمريكي، وهو ما يجري من وراء قناع الحرب ضد «داعش»، التي تتلمظ أطراف كثيرة لوراثة الأراضي التي تحتلها دولة الخلافة العبثية، التي حان أوان تسريحها بعد نهاية دورها الوظيفي، وقد أثبت الأكراد جاهزيتهم للقتال المرير، ولا تمانع روسيا في دورهم، ولا في مكاسب يحققونها على الأرض، ولا في وزن معتبر لهم في كيان فيدرالي مريض يخططون له في سوريا، بينما تركز أمريكا على دور الأكراد بالذات، وتنصب نفسها حاميا لهم، وتشجعهم على خوض معارك في الشرق السوري، وبهدف الإجلاء النهائي لجماعة بشار الأسد عن مدن كالحسكة والقامشلي وغيرها من نواحي الوجود الكردي، إضافة لاستخدام الأكراد مع جماعات قبلية عربية موالية لإجلاء «داعش» عن مدينة الرقة، وبهدف خلق منطقة نفوذ أمريكي في الشرق موازية لنفوذ روسيا في الغرب السوري، ثم استخدام الأكراد كورقة ضغط لضبط سلوك تركيا في أقصى الشمال السوري، وجعل إدلب وشمال حلب منطقة نفوذ أمريكي من وراء القناع التركي وجماعاته السورية، وكما تسعى روسيا بوجودها المباشر إلى دفع الحلفاء الإيرانيين للخلف، تسعى واشنطن بدورها إلى إيجاد سبل لتحجيم نفوذ التابع التركي في حلف الأطلنطي، وترويض تركيا عبر التهديد الضمني والمباشر بورقة الأكراد، ولا شيء يخيف تركيا كالأكراد، وحرب تركيا ضد الأكراد في سوريا امتداد جغرافي مباشر للحرب ذاتها في الداخل التركي، فتركيا تشارك في تمزيق سوريا لدرء خطر تمزيق تركيا ذاتها، وما من ضمان لتركيا في توقي المصير نفسه، وتبدو تركيا الراهنة في سباق دراما مهلك تخوفا من المصائر القاتلة، إذ تتراكم مشكلات السياسة الداخلية، ويتسع نطاق التمرد الكردي الداخلي، فيما يحاول أردوغان القفز في الفراغ، وتطويع الجيش لمعارك تمدد تركي في فراغ الشمالين العراقي والسوري، وعلى طريقة المشاركة في تقسيم كعكة «الموصل» بعد تحريرها المنتظر من «داعش»، ومع التركيز على أقصى الشمال السوري الرخو بالذات، وباتفاق ضمني مع روسيا يتجاوز الاعتراضات المعلنة، يتيح للأتراك حرية الحركة والتوغل على الحدود السورية التركية، وعلى طريقة المعارك السهلة التي خاضتها القوات التركية أخيرا، وانسحب فيها «داعش» من دون قتال تقريبا من مدن وبلدات سورية شمالية، وكأن القصة كلها «تسليم وتسلم»، تتيح لتركيا نصيبا في الكعكة السورية، لا يصل في العمق إلى مدينة «حلب» نفسها كما كانت تطمح تركيا، فالروس لا يريدون الأتراك في مدينة «حلب»، ويريدون ضمها إلى «سوريا المفيدة» أو «سوريا الروسية»، وساعدوا قوات الأسد والشركاء على تطويقها بالكامل، والاتفاق مع أنقرة على وقف الإمدادات العسكرية للفصائل المسلحة المحاصرة في شرق حلب، خاصة بعد أن آلت مقاليد السيطرة إلى «جبهة النصرة» باسمها الجديد «جبهة فتح الشام «، و»النصرة» ـ كما هو معروف ـ مصنفة دوليا كتنظيم إرهابي، وهو ما يدعم التصور الروسي في حرب الاستحواذ على مدينة حلب بكاملها، وحرمان الأتراك من الحلم القديم بضم حلب، والمعروف أن تركيا طالبت بضم حلب زمن الانتدابين البريطاني والفرنسي على المشرق العربي، واكتفى الفرنسيون وقتها على سبيل المجاملة بمنح تركيا «لواء الإسكندرونة» بعد سلخه من الأراضى السورية.

كانت اتفاقية «سايكس – بيكو» تواطؤا بين وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا، وكان الاتفاق على تقسيم المشرق العربي، وعلى التمزيق اللاحق لسوريا بالذات، وإنشاء كيان الاغتصاب الاسرائيلي في فلسطين، فقد وضعت فلسطين مع العراق وقتها تحت الانتداب البريطاني، ووضعت سوريا تحت الانتداب الفرنسي، الذي أدارعملية فصل لبنان بصورته الحالية عن سوريا، ثم حاول تقسيم ما تبقى من سوريا على أسس طائفية، وجرى بالفعل إنشاء كيانات منفصلة للعلويين والدروز، أحبطتها الحركة الوطنية السورية وقتها، ورفضتها جماهير الدروز والعلويين ذاتها، وكان أكراد سوريا في حالة اندماج عضوي كامل في الحركة السورية ذات النفس القومي العربي، ولم يكن أحد يجادل وقتها في عروبة سوريا بكامل أطيافها، وبعكس ما يخطط له الآن من محو الصفة العربية الجامعة للفسيفساء السورية، وجعل سوريا كيانا افتراضيا تائها بلا عنوان قومي، وفي صورة فيدرالية أو كونفيدرالية تقود بالطبيعة إلى التقسيم النهائي، وعلى طريقة ما جرى ويجري في العراق الذبيح، وكانت يقظة الوطنية السورية وقت وما بعد «سايكس ـ بيكو»، مصحوبة بصبوات القومية العربية، هي التي صنعت سوريا التي نعرفها، بعد فصل لبنان، واحتلال فلسطين، وبعد مئة سنة، تتكرر القصة، وفي صورة اتفاقية روسية – أمريكية هذه المرة، ولكن بلا حوائط صد وطنيه سورية، وبلا انتباه من العرب الساكنين في عربات نقل الموتى.

كاتب مصري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى